الإمامُ الجوادُ (ع): إمام التّقوى والعلم والتَّوجيه والإرشاد

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.

نلتقي في هذا اليوم، العاشر من شهر رجب الحرام، بذكرى الولادة المباركة للإمام التَّاسع من أئمَّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام محمَّد بن عليّ الجواد (ع).

وقد اقترن اسم هذا الإمام بالجود لكثرة جوده، فلقِّب بالجواد، وتعني هذه الكلمة من يعطي كثيراً، وبدون حدود، وعن محبَّة ورغبة بالعطاء، وعطاؤه يكون ابتداءً وبدون مسألة.

اختيارُ المأمون للإمام (ع)

استلم الإمام (ع) مقاليد الخلافة بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع)، على الرغم من حداثة سنّه. وقد تميَّز ككلّ أئمَّة أهل البيت (ع)، بالعلم والحلم والعبادة وحسن الخلق ومدّ يد العون إلى الفقراء والمساكين، حتى إنَّ المأمون، الخليفة العبَّاسيَّ آنذاك، عرض عليه الزواج من ابنته لما رأى له من كمال الفضل، رغم اعتراض أعيان العباسيَّين ووجهائهم عليه، الذين راحوا يشكّكون بعلمه وحداثة سنه، خشيةً منهم في انتقال الخلافة العباسية إلى أئمَّة أهل البيت (ع).

وقد ردَّ المأمون يومها على المعترضين عليه بالقول: “ويحكم، إني أَعْرفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّه لأفقه منكم، وأعلم بالله ورسوله وسنَّته وأحكامهفإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله”، فرضوا بذلك، واختاروا آنذاك لامتحانه قاضي القضاة، يحيى بن أكثم، وكان عالماً مجرّباً كبير السّنّ، وطلبوا منه أن يعدَّ مسائل صعبة ومعقَّدة، وجرت المناظرة في حضور المأمون وعلماء البلدان والأعيان، فكان أن أجاب الإمام (ع) يومها على كلّ المسائل التي طرحت عليه، رغم تعقيداتها ودقَّتها، ما أفحم قاضي القضاة، وأظهرت المناظرة مدى سعة علم الإمام (ع).

هنا، أقبل المأمون على كلّ الحاضرين قائلاً: “إنَّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنَّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال. فقد دعا رسول الله عليّاً إلى الإسلام وهو ابن عشر سنين، وقبله منه، وحكم له به، ولم يدع أحداً في هذه السن كما دعا عليّاً”.

ونحن اليوم سننتهز هذه المناسبة الكريمة، لنشير إلى بعض أحاديث وردت عن هذا الإمام، لنستفيد منها في حياتنا.

اللهُ مصدرُ البركات

الحديث الأوَّل: حصل عندما جاء إليه في يوم من الأيَّام أحد أصحابه ليحدّثه عن بركة ذاك اليوم وخيراته، قائلاً: لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم، فقال (ع): “يا أبا هاشم! عَظُمَتْ بركَاتُ اللهِ عليْنا فِيهِ، فَلَا تَنْسبْ البركَةَ إلى اليَوْمِ، فَإنَّ اليَوْمَ لا يَمْلِكُ أَنْ يُؤخِّرَ أوْ يقَدِّمَ، ولكنْ إذا جَاءَتْكَ البرَكَاتُ في أَيِّ يَوْمٍ وَزَمَانٍ، فَانْسبْها إِلَى اللهِ تَعَالى الَّذي لَوْلَاهُ، مَا كَانَ كُلُّ هذَا الخَيْرِ والعَطَاءِ، فَاللهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ”. وهذه هي الطريقة التي كان يشير إليها رسول الله (ص)، فقد كان حين يبلغه خير، يقول: “اللَّهُمَّ لا يُؤتي الخَيْرَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَيّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ”.

الخائنُ في تعريفِ الإمام (ع)

الحديث الثاني: كفَى بِالمَرْءِ خِيَانةً أَنْ يَكُونَ أَمِيناً لِلْخَوَنَةِ”، فالخائن في حسابات الإمام الجواد (ع)، ليس هو فقط من يخلّ بمسؤوليته، أو من يقصّر في القيام بها، أو من يسيء إلى مصالح الناس أو وطنه، سواء أكانت تلك المسؤولية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو موقع من مواقع الحكم، بل هي تنطبق أيضاً على من يؤيدهم ويدعمهم ويساندهم ويقاتل لأجل تثبيت مواقعهم أو يبرّر لهم أفعالهم.

أهميّةُ حُسْنِ الخُلُق

الحديث الثالث: “صَحيفَةُ المؤْمِنِ حُسْنُ خُلُقِهِ”، وفي ذلك إشارة إلى أهميَّة الأخلاق في الإسلام، والموقع الَّذي يبلغه الإنسان بحسن خلقه، عندما يقف بين يدي الله عزَّ وجلّ، والذي أشار إليه الحديث الشَّريف: “إنَّ العبدَ ليبلغُ بحسنِ خُلُقِهِ عظيمَ درجاتِ الآخرةِ وشرفَ المنازلِ، وإنَّه لضعيفَ العبادة”.

وفي الحديث: “ما من شيءٍ أثقل في الميزان من حُسن الخلق”.

وفي الحديث: “أكثر ما تلج به أمَّتي الجنَّة، تقوى الله وحسن الخلق”.

وقد قيل لرسول الله (ص): “إنَّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وهي سيّئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها، قال: لا خير فيها؛ هي من أهل النَّار”.

وحسن الخلق يعني: أن تليِّن جناحك، وتطيِّب كلامك، وتلقى النَّاس ببشر حسن.

خصالٌ تحمي المؤمن

الحديث الرابع: “ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه لم يندمْ – أولاً – تَرْك العَجَلة – فلا يندم من يتأنى ولا يتسرّع في إطلاق كلماته، وفي اتخاذ مواقفه وقراراته، وفي تأييده ورفضه، فقد ورد في الحديث: “إنما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ النَّاسّ تثبَّتوا لم يهلك أحد”، “مع التثبّت تكون السَّلامة، ومع العجلة تكون النَّدامة”.

ثانياً: – والمشورة – فلا يندم من يشاور أصحاب الرأي والخبرة ولا يستبدّ برأيه ويعتدّ به، فذلك يؤدي ذلك إلى التقليل من أخطائه، والاستفادة من تجارب الآخرين وآرائهم، ففي الحديث: “من شاور النَّاس شاركهم عقولهم”، وفي الحديث: “الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه”، و“ما خاب مَن استشار”. وهذا السلوك لأهميَّته، هو ما دعا الله إليه رسول الله (ص)، عندما قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، وعندما قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

وثالثاً: – ومن يتوكَّل على الله” ويستند إليه في أموره، لأنَّه بذلك يستند إلى ركن وثيق ممن بيده الأمر كلّه، فالله عزَّ وجلَّ من بيده أمر الرزق والنصر والتدبير، ولا شيء يجري في الحياة بدون أمره، وقد ورد في الحديث: “التوكّل على الله والاستناد إليه نجاة من كلّ سوء، وحرز من كلّ عدوّ”، وفي ذلك قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.

شرطُ دوامِ النّعم

الحديث الأخير: “ما عظمَتْ نعمةُ اللّه عَلَى عَبْدٍ إلَّا عظمَتْ عليه مؤونةُ النَّاسِ، فَمَنْ لم يحتملْ تلكَ المؤونةَ، فقَدْ عرَّضَ النّعمةَ للزَّوالِ”.

لقد أراد الإمام (ع) من خلال ذلك، أن يحذّر الذين أنعم الله عليهم، سواء كانت نعمة مال أو جاه أو موقع، بأنَّهم يعرّضون هذه النعم للزوال، وهي لن تدوم لهم إن لم يقوموا بمساعدة وإعانة من يحتاجون إلى ما أنعم به الله عليهم، وسينقلها الله إلى من يقوم بواجبه تجاه هؤلاء.

الاستهداءُ بنهجِ الإمام (ع)

أيُّها الأحبّة: هذا بعضٌ من معين كلمات هذا الإمام (ع)، الجواد حقّاً في تقواه وعلمه، وفي توجيهه وإرشاده، فليكن إخلاصنا له في يوم ولادته، بأن نستهدي به في طريق حياتنا، وبذلك نعبِّر عن حبّنا وولائنا له، ونكون كما أراد (ع)، عندما قال لمحبيّه ومواليه: “كونوا زيناً لنا، لا شيناً علينا”.

والسَّلام على الإمام الجواد (ع)، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربِّه، ويوم يبعث حياً…

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الجواد (ع)، عندما دعا إلى “ثلاث يبلغ بهنَّ بالعبد رضوان الله تعالى”.

أمَّا الأولى، فهي: “كثرةُ الاستغفارِ – وهو الباب الذي منحه الله لعباده لمحو الذنوب، صغيرها وكبيرها، ولزيادة الرزق ودفع البلاء، وهو أفضل دعاء وخير عبادة، فقد ورد في الحديث: “خير الدعاء الاستغفار”. ونحن في هذا الشَّهر مدعوّون إلى الاستغفار، فقد ورد في الحديث: “رجب شهر الاستغفار لأمَّتي، فأكثروا فيه الاستغفار، فإنَّه غفور رحيم، ويسمَّى الرّجب الأصبّ، لأن الرحمة على أمتي تُصبّ صباً فيه، فاستكثروا من قول: أستغفر الله وأسأله التوبة”.

والثانية – خفضُ الجانبِ – بمساعدة الناس والحنوّ عليهم واللّين في مخاطبتهم، وهو الذي دعا اللهُ عزَّ وجلَّ إليه، عندما قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

والثالثة –كثرة الصَّدقة”، التي هي باب لدفع البلاء ورد القضاء.

إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا التي تعيننا في هذه الدنيا على تجاوز الصعوبات، ولنكون أكثر وعياً وقدرة على مواجهة التحدّيات.

رئيسٌ جديدٌ للبنان

والبداية من التوافق الذي حصل بين القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي، والذي أفضى إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وإن كنا نتفهَّم التحفظات التي صدرت من العديد من النوَّاب مما يتَّصل بتطبيق الدستور، وهذا الاتفاق الذي انتظره اللبنانيّون طويلاً، وكادوا ييأسون من تحقيقه، نظراً إلى الانقسام الحاصل داخل المجلس النيابي بين القوى السياسية على اسم الرئيس، وحتى على البرنامج الذي سوف يلتزمه في خلال ولايته، آملين أن يفتح الانتخاب الأبواب أمام إنجاز الاستحقاقات الباقية، إن على صعيد انتظام عمل مؤسَّسات الدولة وملء الشغور، أو لمواجهة التحدّيات التي تعصف بالبلد على الصعيد الاقتصادي والمعيشيّ، أو في مواجهة الفساد المستشري الذي أوصل البلد إلى هذا المنحدر، أو بالعدوان المستمرّ على لبنان من خلال العدوّ الصهيوني الذي لا يكفّ عن خروقاته للساحة اللبنانية، إن على صعيد الجو أو البر، والتهديدات التي تصدر عن قادته بأنَّه قد لا ينسحب من الأراضي اللبنانية التي احتلَّها أو من مواقع منها، أو في كيفية التعامل مع ما يجري من تطورات في سوريا والمنطقة، والذي لن يكون هذا البلد بمنأى عن تأثيراتها.

ولقد تمَّ ذلك بعدما أصبح واضحاً أن التوافق هو وحده السبيل لتأمين الاستحقاقات ومواجهة التحديات الصَّعبة التي تنتظر الرئيس أو كل من يتحملون المسؤولية معه، وأنه لا يمكن في هذا البلد اتّباع سياسة الاستئثار لطائفة أو مذهب أو موقع سياسي أو التَّهميش لهم، فالتوافق هو الَّذي يبنى عليه هذا الوطن، وهو أساس استمراره.

ونحن أمام هذ الإنجاز، نقدّر كل الجهود التي بذلت من أجل الوصول إلى هذا التوافق، ومن سهَّلوا الوصول إليه، والذي ما كان ليحصل بدونها، وإن كنَّا نريد أن يأتي بناءً على إرادة اللبنانيين، لا بناءً على إرادة إقليمية ودولية جاءت بعد عجز القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي عن التشاور معاً، والجلوس على طاولة واحدة للتفاهم، وتأمين التوافق المطلوب وبلوغه.

إننا نجدد القول، إنَّ القوى السياسية كانت قادرة على تأمين هذا الاستحقاق في وقته، وقبل عامين ونيّف، ومن دون أن نهدر كلَّ هذا الوقت، وبإرادة هذه القوى، لو أنها قررت منذ البداية أن تخرج من حساباتها ومصالحها الفئوية ورهاناتها الخارجية، وأن يصغي بعضها إلى بعضها الآخر.

إنجازاتٌ ينتظرُها اللّبنانيّون

إننا أمام هذا الاستحقاق، نأمل أن يكون الرئيس الجديد الذي انتظره اللبنانيون على قدر الآمال التي كنَّا نتطلَّع وندعو إليها، وهي تعزيز الوحدة بين اللبنانيين، وبناء ركائز دولة المؤسَّسات، دولة نريدها خالية من الفساد والاستئثار والمحاصصات والاستزلام، دولة قادرة على إخراج هذا البلد من مآزقه والأزمات التي يعانيها إنسانه، سواء على الصعيد المعيشي والحياتي والاقتصادي والأمني، دولة تملك جيشاً قوياً قادراً على حماية هذ البلد من كلّ الذي يريدون العبث بأمنه وسيادته واستقراره، ولا سيَّما العدوّ الصهيوني الذي سيبقى يتربَّص به ويتهدَّد كيانه، والذي لا يزال جاثماً على الأرض التي احتلها أو في مواقع منها كما يخطّط، دولة تتولى المسؤولية المباشرة في ملفّ الإعمار وقيام البلد وبلسمة جراحات شعبه، وتعيد إلى المودعين أموالهم كاملة، دولة التوازن الوطني والطائفي والسياسي، والتي تستوعب في أحضانها كلَّ فئات الشعب، والتي تنفتح على العالمين العربي والإسلامي وعلى العالم، وبما يتوافق مع مصالح هذا البلد وسيادته وأمنه واستقراره.

خطرُ العدوّ على المنطقة

وفي سياق إظهار مخاطر العدوّ الصهيوني على لبنان ودول المنطقة، فإننا نشير إلى خطورة ما نشره موقع تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية من خريطة لدولة الكيان الصهيونيّ، تضم الضفة الغربية وأراضي من الأردن ولبنان وسوريا، والّتي تعبر في شكل فعليّ عن تصوراته لمستقبل الدولة العبريَّة، وهو ما لا يخفيه العديد من قادة العدوّ في تصريحاتهم ومواقفهم، إضافةً إلى ما تظهره تحركات قوَّات العدوّ، سواء في الضفة الغربية وغزّة، أو في لبنان أو سوريا، ما يشير إلى أنَّ العدوّ جادٌّ في تنفيذ ما يعلن عنه، وهو ما يدعونا في لبنان إلى التنبّه والحذر والسَّهر، والقيام بكل ما من شأنه جعل لبنان يمتلك المناعة والقوَّة اللازمة لمواجهة أيّ أطماع صهيونية في الحاضر أو المستقبل، وهو أيضاً يتطلب من الدول العربية والإسلامية أن تكون على وعي عميق بالأهداف الصهيونية، ما يتطلب الدعوة إلى عمل عربي وإسلامي مشترك لمواجهة هذا المشروع ومنع تحقيقه.

***