ما بين الدّنيا والآخرة.. أين يقف المؤمن؟!
ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ الله الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. صدق الله العظيم.
انحراف قارون
جاءت هذه الآية في إطار الحديث عن قارون الّذي أشار الله إليه، والذي كان من قوم النبي موسى (ع)، ولكنه انحرف عنه.
هذا الرجل أتاه الله من الكنوز والأموال {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، ولكنّه بدلاً من أن يستعمل أمواله في الإصلاح، وأن يبذل مما أنعم به الله عليه للفقراء والمساكين، بخل بماله على النّاس، واستعمله للفساد أو الإفساد..
ولذلك، توجَّه إليه النّاصحون، ودعوه إلى أن لا يطغى ولا يتكبّر، وأن يعمل للغاية التي أرادها الله له ولكلِّ إنسان في هذه الحياة، وهو الّذي عبَّرت عنه الآية: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ الله الدَّارَ الْآَخِرَةَ}. ولكن هذا الإنسان، وكما أشار القرآن الكريم، لم يأبه بهذه النّصائح، واستمرّ في طغيانه الذي عبّر عنه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، وظنّ أنّه قويّ بماله وبالموقع الذي بلغه عند النَّاس، ولم يلتفت إلى الله سبحانه وهو يقول له: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}. وكانت النّتيجة التي أظهرت من هو الأقوى في هذه الحياة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}.
الآخرة هدف المؤمن
لقد أراد الله من خلال هذه القصَّة، أن يشير إلى الهدف الّذي ينبغي للإنسان أن يسعى إليه، وفيه سلامته في الدّنيا والآخرة، وهو أن يبتغي في كلِّ ما أنعم الله به الدّار الآخرة.
فالله سبحانه لم يرد للدّنيا أن تكون هدفاً وغايةً للإنسان، بل وسيلة، فالدّنيا بحسابات الله الذي خلقها وأوجدها، ليست هي الدار الأساس، ولا ينبغي أن تكون الطّموح: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، هي القرار {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
وقد ورد في الحديث: "إنَّ الله سبحانه قد جعل الدّنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها ليعلم أيّهم أحسن عملاً؛ ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسّعي فيها أمرنا…".
وفي الحديث: "الدّنيا مزرعة الآخرة"، "نعم العون الدّنيا على الآخرة".
ولذا، ندَّد الله سبحانه بالذين آثروا الحياة الدنيا وجعلوها كلّ همهم، فقال لهم: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وندَّد بالذين اطمأنّوا إلى الدنيا ونسوا ما بعدها، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقال للذين اغترّوا بالحياة الدنيا وخدعوا بها: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ}…
وحتى تبدو صورة الحياة الدنيا بالوضوح الكامل للنّاس، مثّلها الله لهم بالصّورة التي يعهدونها في الفصول، بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}.
وقد مثّلها السيّد المسيح (ع) بصورة امرأة، سئلت: كم تزوَّجْتِ؟ فقالت: كثيراً، وعندما قيل لها: فكلٌّ طلّقك؟ قالت: لا، بل كلاًّ قتلْت! قال المسيح: فويحٌ لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين!
نصيب المؤمن من الدّني
لكنّ هذا لا يعني أنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يترك الدّنيا ولا يبالي بها، ولذلك قال مستدركاً: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، فلا بدّ للإنسان من أن يأخذ من الدّنيا حاجاته، ولو لم يرد الله الدّنيا، لما زينها في عيون عباده وجمّلها وأودع فيهم حبّها، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}.
وهو نهى الذين آمنوا عن عدم الأخذ منها وتحريمها على أنفسهم، فقال: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
وقد ورد في الحديث: "الدّنيا إذا أقبلت، فأحقّ الناس بها أبرارها لا فجّارها، وأخيارها لا أشرارها".
فالإنسان المؤمن مدعوّ إلى أن يأخذ من الدّنيا، ولا يحقّ له أن لا ينعم بها، ولكنَّ الفارق بين المؤمن وغيره، أنّ عينه دائماً على الآخرة، فهو لا يبيع آخرته بالدّنيا، مهما كانت الدّنيا، ومهما كان نعيمها، بل يتعامل مع الدنيا بما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "أيّها الناس، إنّما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرّكم لمقرّكم". هو يعيش فيها ويتنعّم بها، ولكن كلّ همّه أن يتزوّد بما يؤمِّن له نعيم الآخرة ويقيه من عذابها.
وقد جاء في الحديث تشبيه لواقع الدنيا بالنّسبة إلى الآخرة، بقوم كانوا يقصدون مكاناً يقيمون فيه في شكل دائم، فمرّوا في الطريق بجزيرة مليئة بالخيرات، وفيها كلّ ما يحتاجون إليه في المكان الّذي سيصلون إليه، فأمرهم قائد السّفينة أن يتَّخذوا الجزيرة محطّة لهم، لا ليبقوا فيها، بل ليأخذوا منها حاجاتهم إلى المكان الذي يقصدونه، ودعاهم أن لا يستغرقوا بجمال المكان وروعته وما فيه، بل أن يبذلوا جهداً لحمل ما ينفعهم فقط. فأمَّا الواعون، فلم يضيِّعوا الوقت، وراحوا يحملون ما يحتاجون إليه في مكان إقامتهم، لذا نعموا بما حملوه وأمّن ذلك لهم سبل الرّاحةـ وأمّا الذين أهدروا أوقاتهم في الجزيرة، واكتفوا بالاستمتاع بمباهجها، وانشغلوا بما فيها من زخارف، فخسروا وندموا كثيراً على تضييعهم فرصة لن تتكرّر، ولكن حيث لا ينفع الندم.
السّبيل لبلوغ الجنّة
ولذلك أيّها الأحبّة، فلنبادر إلى ما دعانا الله إليه عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله}.
ولكن يبقى السؤال: كيف السبيل إلى بلوغ هذا الهدف؟ وما هو الطريق الأسلم لتحقيقه؟
لقد أجاب عن ذلك رسول الله (ص) في حديثه مع أصحابه: "تصدّقوا ولو بصاع من تمر، ولو ببعض صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، ولو بتمرة، ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة، فإن أحدكم لاقٍ الله فقائل له: ألم أفعل بك؟ ألم أجعلك سميعاً بصيراً؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى: فانظر ما قدمت لنفسك، قال فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً يقي به وجهه من النار".
وقد ورد في الحديث: "تقبلوا لي بستّ أتقبل لكم بالجنّة: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفّوا أيديكم وألسنتكم".
وقد قال رسول الله (ص) يوماً لبعض أصحابه: "أتحبّون أن تدخلوا الجنّة؟ قالوا نعم يا رسول الله، ومن لا يحبّ أن يكون من أهلها؟! قال: قصّروا من الأمل، وثبّتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حقّ الحياء".
وفي الحديث: "ثلاث من أتى الله بواحدة منهنّ، أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه".
وفي الحديث: "فمن قرأ القرآن، قال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنَّة، لم يكن في الجنّة أعلى درجة منه، ما خلا النبيّين والصدِّيقين".
أيّها الأحبّة: لن تنال الجنّة بالتمنّيات والأحلام ودفع الأثمان، فقد ورد في الحديث: "ومن سأل الله الجنَّة ولم يصبر على الشَّدائد؛ فقد استهزأ بنفسه".
وقد قال الله عزّ وجلّ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}.
ويتعجّب عليّ (ع) من الذين يريدون الجنة ولا يعملون بما يؤدّي إلى الوصول إليها: "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنّته". وكان يقول: "ألا وإني لم أر كالجنّة نام طالبها، ولا كالنّار نام هاربها".
فلنكن ممن جعلوا الجنّة نصب أعينهم، وسعوا إلى ما يوصلهم إليها، فوصلوا إلى حيث يقول عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثانية
عباد الله.. أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به أمير المؤمنين (ع) عندما قال: "اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".
لقد أرادنا الإمام (ع) من خلال هذه الوصيّة، أن نوسّع دائرة مسؤوليَّاتنا لبلوغ رضوان الله، أن لا نقف عند حدود ما اعتدنا من المسؤوليّات في أداء الواجبات من الصّلاة والصّيام والحجّ والخمس والزكاة وترك المحرَّمات، بل أن نكون معنيّين بأكثر من ذلك، أن نعنى بالنّاس من حولنا أن يعيشوا أعزّاء أحراراً لا تمسّ كراماتهم، وأن نصون الأوطان ونحفظها من كلّ من يريد الاعتداء عليها، وأن نعنى بالبيئة النظيفة، وأن لا يساء إلى البهائم ولا تؤذَى بوجودنا…
وهذا ما ينبغي أن نعدّ الجواب له عندما نقف بين يدي الله، حيث سيسألنا كيف تركنا العباد والبلاد والبقاع والبهائم، وماذا فعلنا لكلّ هؤلاء.. فلنعدّ الجواب قبل أن نسأل، ومتى عشنا هذه المسؤوليّة وعبّرنا عنها بالعمل والمواقف، فبالطبع ستكون أوطاننا أكثر حريّة وعدالة وكرامة، وأكثر قدرة على مواجهة التحدّيات.
الحكومة أمام اختبار الثقة
والبداية من لبنان، الذي يُنتظَر أن تمثل الحكومة فيه أمام المجلس النيابي لتنال ثقته بعد إنجازها البيان الوزاريّ، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة، وهي نيل ثقة اللّبنانيّين الذين ينتظرون منها أن تقدّم لهم العلاج للأزمات الكثيرة التي تقضّ مضاجعهم على الصعد الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والمالية، وتفرمل حال الانهيار التي دخل فيها البلد، والتي لا ينبغي أبداً التّهوين من مخاطرها وتداعياتها على كلّ الصعد.
أمام هذا المشهد، فإنّ اللّبنانيّين لن يتوقفوا طويلاً عند مفردات البيان الوزاريّ، والوعود التي أخذتها الحكومة على نفسها بعد كلّ تجاربهم مع البيانات السابقة، والتي كانت تحمل إليهم الكلمات المنمّقة والفضفاضة، والوعود السخيّة، ولكنّها كانت تبقى حبراً على ورق، لذلك هم ينتظرون من هذه الحكومة أفعالاً وخططاً واقعيّة قابلة للتحقق، بعدما بلغ السيل الزبى، ولم يعد المواطن قادراً على تحمّل المزيد من التسويف والمماطلة وهدر الوقت والاستهتار في تأمين الحدّ الأدنى من مطالبه.
وهذا لا يعني أنَّ هذه الحكومة التي جاءت بعد كلّ سنوات الهدر والفساد وسوء الإدارة والتخطيط، قادرة على أن تقوم بالمعجزات، ولا أعتقد أن اللبنانيين الذين رفعوا أصواتهم وخرجوا إلى الشارع تحت أنين الحاجة والوجع، فيما أموالهم يفرَّط بها وتذهب هدراً، يرون أن هذه الحكومة، وبالظروف التي جاءت بها، قادرة على أن تعالج الأزمات المستعصية في المئة يوم الّتي أعطيت لها، والتي لم تستطع أن تقوم بها الحكومات السابقة على مدى سنوات في ظروف أفضل من هذه الظروف التي نعيشها، لكن ما نريده ويريده اللّبنانيّون من هذه الحكومة التي هي نسيج مختلف عن بقيّة الحكومات التي اعتادوا عليها، كونها حكومة اختصاصيّين، أن تقدّم أنموذجاً جدياً في التعامل مع كلّ القضايا التي ارتفعت أصوات النّاس بها في الساحات أو غيرها، وأن يأخذوا في الاعتبار أولوية الناس، لا أولوية أيّ من القوى السياسيّة التي أرادت لهذا البلد أن يكون بقرة حلوباً لها.
أولويَّات الحكومة
لقد أصبح واضحاً أن أولوية الناس ترتكز على معالجة مزاريب الهدر والفساد والمحاصصة والمحسوبية التي تضجّ بها الدولة، وأبرزها معالجة مشكلة الكهرباء، فهذا هو الّذي يعيد الثقة بالدّولة، ويشجّع الداخل والخارج على مساعدته ومعالجة ما بات ملحّاً، وهو أزمة المصارف، وكيفية عودة الحركة الطبيعيّة للإيداعات والسحوبات، لأن عدم معالجة هذه المشاكل، سيجمّد الحركة الاقتصادية والتبادل من الداخل والخارج، وسيفقد لبنان أهمّ مرفق كان يتميّز به اقتصاده، بحيث لا يعود المودعون يتسكّعون على أبواب المصارف لاهثين وراء أموالهم التي أودعوها، والتي من حقّهم أن يتصرفوا بها ساعة يريدون، ومن الأولويّات لبلوغ كل ذلك، هو إصلاح القضاء، وإبعاده عن التسييس والمحاصصات التي أفقدته هيبته وحضوره.
ونحن عندما نتحدّث عن العمل بهذه الأولويات، لا نقلّل من حجم التحدّيات التي تعترض عمل هذه الحكومة من الداخل، ممن لا يريدون لها النجاح، لأن نجاحها سيكون على حسابهم، أو من الخارج الذي يريد أن يحقّق من باب الاقتصاد ما لم يستطع أن تحقّقه الضغوط السياسية أو الحرب العسكرية، مما يطلب من لبنان، سواء على مستوى ترسيم الحدود، أو على مستوى النّفط والغاز، أو على مستوى موقع لبنان من الخريطة التي ترسم للمنطقة، أو القبول بصفقة القرن .
لكننا نرى أنّ الحكومة إذا كانت صادقة في وعودها، وجدّية في عملها، وخاضعة للتخطيط العلمي في قرارتها، ومهمومة بأوجاع الناس ومشاكلهم، فإنها قادرة على أن تحقّق الإنجازات، وأنّ اللّبنانيين لن يتوانوا عن التجاوب مع حكومة تعبّر عنهم، وتحمل إليهم تباشير الأمل الّتي فقدوها، وتعيد إليهم الثقة بوطنهم.
وينبغي أن نقول لكلّ القوى السياسيّة في الموالاة والمعارضة، إنَّ المرحلة لا تتحمّل تسجيل النّقاط وانتظار الأخطاء لتصفية الحسابات، بقدر ما تحتاج إلى تعاون الجميع لإنقاذ بلد يتهاوى ويغرق في الرّمال المتحركة، وهو إن غرق، فسيغرق معه الجميع.
تساؤلات وشكوك!
وفي المقابل، فإننا ندعو الحكومة إلى أن تقدّم أجوبة وافية وعلميّة حول كل التساؤلات التي تشكّك بوجود رؤية منسجمة حكمت مقرّرات البيان الوزاري، وأنّ الخطط التي تضمّنها لمعالجة الأزمة، هي استنساخ لأفكار سابقة لم يثبت نجاحها وهي غير واقعيّة، وأنها حكومة ستخضع للقوى السياسية التي أوجدتها، وستكون طيعة لحسابهم، وأنّها حكومة اللّون الواحد في مقابل الألوان الأخرى.
إنّ اللّبنانيين لن ينتظروا الأجوبة من على مقاعد نيل الثّقة في المجلس النيابي، بل على الأرض، وهم لذلك سيبقون يراقبون ويدققون ويحاسبون، ولن يقبلوا بأن يلدغوا من جحر مرتين.
ردّ فلسطينيّ على الصّفقة!
في هذا الوقت، تستمر ردود الفعل حاضرة في مواجهة صفقة القرن، والتي جاءت في الأسبوع الماضي من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، اللتين عبّرتا عن رفضهما لهذه الصفقة، ولكن الشعوب العربية والإسلامية تنتظر مواقف عمليّة وجديّة تنطلق من قناعة حقيقيّة بأنّ ما يحاك للمنطقة من وراء هذه الصفقة خطير وخطير جداً، ولعلّ التعبير الأبلغ يبقى في فلسطين، حيث عبرت العمليتان اللتان حصلتا في القدس ضدّ جنود العدو الصهيوني، عن رفض الفلسطينيين لهذه الصفقة، وأنهم لن يقبلوا أن تمرَّر رغم كل الضغوط والتحديات التي تمارس ضدَّهم، ولعل من المحزن في هذا الوقت أن تستمرّ خطوات التطبيع غير المبرَّر مع الكيان الصهيوني، وتحت أكثر من ذريعة واهية، ما يساهم في إضعاف الموقف الفلسطيني وموقف كلّ الشعوب الرافضة لهذه الصفقة.
العراق يواجه الفتنة!
وإلى العراق، الذي تتواصل المحاولات لإدخاله في أتون فتنة داخليّة تؤدي إلى إضعاف وحدته وموقعه ودوره في المنطقة، ونحن في هذا المجال، ندعو العراقيين إلى الوعي والعودة إلى توحيد صفوفهم، للوقوف في مواجهة طغيان كلّ حالات التقسيم والانفصال الّتي تريد الإطباق على هذا البلد.
ونأمل أن يكون تعيين رئيس حكومة جديد، والتصريحات التي صدرت عنه قبيل تعيينه، بداية طريق لتحقيق آمال العراقيّين ببناء دولة خالية من كلّ ما كانوا يعانونه من فساد وهدر واستهتار بمصالح المواطنين وحقّهم في العيش الكريم، دولة قويّة قادرة على أن تملك خيارها وقرارها المستقلّ.