مِنْ دروسِ الحجِّ: التَّسليمُ لأمرِ اللهِ والثّقةُ به

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 96 -97]. صدق الله العظيم.

موسمُ الحجّ

نستعيد في هذه الأيَّام موسماً جديداً من مواسم الحجّ، حيث بدأت قوافل الحجيج تفد من كلّ مكان، ومن كلّ فجّ عميق إلى بيت الله الحرام، تلبيةً لنداء ربها لأداء هذه الفريضة الَّتي هي واحدة من أهمّ الفرائض الَّتي أوجبها الله على كلِّ قادر عليها، والَّذي أشار إليها الله عزّ وجلّ بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.

وقد شدَّد على أدائها حين قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فقد اعتبر اللهُ مَن لم يبادر إليها عند الاستطاعة إليها كافراً به، وإليها أشار رسول الله (ص)، فقال: “أيُّها النَّاس، فُرِضَ عليكم الحجُّ فحُجُّوا”.

وفي وصيّة أمير المؤمنين (ع): “اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، فَلَا يَخْلُو مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا”.

وقد أراد الله سبحانه منها أن تساهم في تعزيز علاقة الحجَّاج بربهم، وأن تكون سبباً لتثبيت إيمانهم، وإظهاراً لقوَّتهم، وإعلاناً منهم عن رفضهم لتسويلات الشَّياطين، شياطين الجنِّ والإنس، هم يعبِّرون عن ذلك في إحرامهم التي يعلنون فيه عن تلبيتهم لله عزّ وجلَّ، حتى لو كان ذلك على حسابهم، وفي طوافهم وسعيهم ووقوفهم في عرفات والمزدلفة، وعند مبيتهم في منى، وفي رجمهم للشَّياطين وبذلهم للأضاحي.

ونحن إذ ندعو الله إلى قبول طاعة من منَّ الله عليهم بنعمة الوفود إليه، ونغبطهم على ما سيحصلون عليه من المغفرة والرَّحمة، حيث ورد: “الحاجُّ والمعتمرِ وَفْدُ اللهِ، وحقٌّ على الله تعالى أن يُكْرِمَ وفدَه، ويَحْبوهُ بالمغفرةِ”، وليس لحجِّة مبرورة ثواب إلا الجنَّة،  فإنّنا سنستفيد من هذه المناسبة الكريمة لنشير إلى موقفين حصلا مع نبيّ من أنبياء الله العظام، وهو النبيّ إبراهيم (ع)، هذا النبيّ الَّذي ارتبط الحجّ به، ليكون هو من رفع قواعد البيت الحرام، وأوَّل من دعا إليه، لنأخذ منهما الدروس والعبر، ولارتباطهما بمناسك الحجّ وبما يؤديه الحجَّاج.

هاجرُ وإسماعيلُ في مكَّة

الموقف الأوَّل: حصل عندما جاءه الأمر الإلهيّ وهو في فلسطين حيث كان يسكن، بأن يأتي بزوجته هاجر وولده الرَّضيع، إسماعيل، إلى مكَّة، وأن يتركهما في ذلك المكان، رغم أن مكَّة آنذاك لم يكن فيها زرع ولا ماء ولا بشر، ولم تكن الكعبة قد بنيت بعد.

استجاب النبيّ إبراهيم (ع) لأمر ربِّه، وقرَّر القيام بما دعاه الله إليه من دون أن يسأله عمَّا قد يحصل لزوجته وولده، ولما وصل إلى مكَّة، بنى لزوجته وولده مكاناً يسكنان فيه، وأمَّن لهما ما تيسَّر من طعام وشراب، وأبلغها بنيَّته تركهما في ذلك المكان. يومها، تذكر السِّيرة أنّ زوجته راحت تتوسَّل إليه أن لا يتركها مع ولدها الرَّضيع في تلك الأرض الجرداء القاحلة، حيث لا معين يعينها ولا من تأنس به، لكنَّها هدأت واطمأنَّت عندما قال لها: إنَّه أمر من الله، وهو من شاء سبحانه لكما، وهو يكفيكما، وقالت يومها كلمتها الَّتي ينبغي أن تبقى حاضرة لدينا: إذا كان هذا أمر الله، فالله لن يضيِّعنا.

غادر النبيّ إبراهيم (ع) زوجته وولده وكلّه أمل بالله، واكتفى بأن يدعو ربَّه {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم: 37].

بعدها راحت هاجر ترضع ولدها وتأكل مما عندها وتشرب الماء، إلى أن نفد منها الماء ولم تعد قادرة على إرضاع وليدها، فقرَّرت أن تبحث عمَّا يروي ظمأها، فصعدت إلى جبل الصَّفا لتتطلَّع من هناك إلى مكان تجد فيه الماء، فتراءى لها من ذلك المكان وجود ماء، فنزلت من الجبل مسرعةً لكنَّها وجدته سراباً. بعدها، صعدت إلى المروة في الجهة المقابلة، ونظرت إلى أسفل الجبل فظنَّته ماءً، لكنَّها عندما نزلت إليه وجدته كما في المرَّة الماضية سراباً.

ظلَّت على هذه الحال متنقّلة بين جبل الصَّفا والمروة سبعة أشواط، باحثةً عن الماء بكلِّ لهفة لخوفها على وليدها، ويحدوها إليه الأمل المشرق بربها، وعدم يأسها من أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً.. وما إن انتهت من الشَّوط السَّابع، وعادت إلى إسماعيل، حتى وجدت الماء يتدفَّق بين قدميه، فأسرعت إليه تزمّه بيدها خشية أن يغور، ومن هنا سمي هذا الماء بماء زمزم، بعدها راحت تشرب منها.

وقد شاء الله أن يخلِّد هذه الحادثة بالسَّعي سبعة أشواط بين الصَّفا والمروة، اقتداءً بما حصل، وتذكيراً للمسلمين بقيمة التَّسليم لله عزّ وجلَّ.

حادثةُ ذبحِ إسماعيل

الموقف الثَّاني: حصل عندما رأى النبيّ إبراهيم في المنام أنَّه يذبح ولده، وكانت هذه الرؤيا هي وحي من الله له بذلك.

ورغم فظاعة المشهد وصعوبته بأن يذبح بيديه ولده، لكنَّه لم يتردَّد في ذلك ما دام هذا أمر الله ولا رادَّ لأمره عنده. أذعن للأمر، وقرّر أن يخبر ولده به ويدعوه إلى الالتزام به، وهذا ما أشار إليه الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}. لم يتردَّد الابن بالاستجابة لأمر أبيه، فهو يعرف مدى محبَّة أبيه له، لكنَّه أمر الله عزّ وجلَّ، وهو يعرف أنَّ أباه لا يمكن إلا أن يسلِّم لأمر ربِّه، وأنَّ عليه أن يعينه على ذلك، لذا قال لأبيه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: 102]. اغرورقت هنا عينا النبيّ إبراهيم بالدَّمع فرحاً بولده، وقال له مهنِّئاً: “نعم العون يا بنيّ على أمر الله”.. إنّه برّ عظيم وتوفيق من الله أعظم.

وباشر إبراهيم (ع) بمقدِّمات الذبح، أوثق ابنه، أمسك بالسّكّين يريد ذبحه، مرَّر السكّين على رقبته، ولكنَّها لم تقطع، هنا رفع النبيّ إبراهيم (ع) رأسه نحو السَّماء، ودعا ربَّه أن يجد له مخرجاً مما هو فيه لتنفيذ أمره، هنا جاء الأمر الإلهيّ أن يكفّ عن الذَّبح، وليبلغه بأنّه نجح في الامتحان، وأن ما حصل كان اختباراً له لرؤية مدى تسليمه لأمر ربِّه، حتى لو كان ذلك على حساب عاطفته ومحبَّته لولده: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}[الصافَّات: 103 – 107].

وأبقى الله عزّ وجلَّ هذه الحادثة، ليؤكِّد معناها، وجعل من مناسك الحجّ ذبح الأضاحي.

التَّسليمُ لأمرِ الله

أيُّها الأحبَّة: لقد أشار هذان الموقفان من النَّبيّ إبراهيم إلى مدى تسليمه لأمر الله ومدى إذعانه له، والَّذي جاء تعبيراً عن الثِّقة التي كان يكنّها لله عزَّ وجلَّ.

هذه الروح هي الَّتي أراد الله عزَّ وجلَّ للحجَّاج أن يعبِّروا عنها عندما يقولون لله: لبَّيك اللّهمّ لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك، وفي أدائهم لمناسكهم، حيث يظهر فيها التَّسليم لله، وأنهم لن يتردَّدوا بالأخذ بأوامره ونواهيه، كما أخذ بها النبيّ إبراهيم (ع) ودعا إليها رسول الله (ص).

أيُّها الأحبَّة: إننا أحوج ما نكون إلى أن نعزِّز روح التسليم لله في كلّ شأن؛ بالأخذ بأوامره ونواهيه، وكلّ ما يدعونا إليه بدون تردّد، ما دمنا واثقين بأنَّ الأمر منه وفيه رضا، وحتى لو لم نكن واعين للهدف الَّذي لأجله أمرنا، وهذا نبلغه عندما نعرف الله حقَّ معرفته، ونعي أنّ هذا الربَّ حكيم خبير، وأنه لا يريد لعباده إلا خيراً، وأنَّه لن يدعهم ما داموا لن يدعوه، ولن يتركهم ما داموا لن يتركوه، وأنَّه عند حسن ظنِّ عباده به.

ونحن إن قرَّرنا ذلك، فسنكون دائماً بعين الله وفي رعايته وتسديده، وهذا ما وعد الله به عباده، وأشار إليه عندما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[الطَّلاق: 3]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النَّحل: 128].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين…

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الباقر (ع) أحد أصحابه، وهو جابر الجعفي، والَّتي وجَّهها إلينا عبره، هذا الإمام الذي نستعيد ذكرى وفاته في السَّابع من هذا الشَّهر المبارك، حين قال له: “يَا جَابِرُ، مَا الدُّنْيَا؟ وَمَا عَسَى أَنْ تَكُونَ؟ هَلْ هُوَ إِلَّا مَرْكِبٌ رَكِبْتَهُ، أَوْ ثَوْبٌ لَبِسْتَهُ، أَوِ امْرَأَةٌ أَصَبْتَهَا؟ يَا جَابِرُ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَطْمَئِنُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِبَقَاءٍ فِيهَا، وَلَمْ يَأْمَنُوا قُدُومَ الْآخِرَةِ… فَفَازُوا بِثَوَابِ الْأَبْرَارِ، إِنَّ أَهْلَ التَّقْوَى أَيْسَرُ أَهْلِ الدُّنْيَا مَؤُونَةً، وَأَكْثَرُهُمْ لَكَ مَعُونَةً؛ إِنْ نَسِيتَ ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ، قَوَّالِينَ بِحَقِّ اللَّهِ، قَوَّامِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ… يَا جَابِرُ؛ أَنْزِلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ مَنْزِلٍ نَزَلْتَ بِهِ وَارْتَحَلْتَ عَنْهُ، أَوْ كَمَالٍ أَصَبْتَهُ فِي مَنَامِكَ، فَاسْتَيْقَظْتَ وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ… يَا جَابِر،  ما من شيءٍ أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من أن يُسأل، وما يدفع القضاء إلّا الدّعاء… وكَفى‏ بِالمَرءِ عَيباً أن يُبصِرَ مِنَ النَّاسِ ما يَعمى‏ عَنهُ عن نَفسِهِ، أو يَنهى النّاسَ عَمّا لا يَستَطيعُ التَّحَوُّلَ عَنهُ، وأن يُؤذِيَ جَليسَهُ فيما لا يَعنيهِ”…

أيُّها الأحبَّة: إنَّنا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا، لنعي من خلالها مسؤوليَّتنا تجاه أنفسنا وتجاه من حولنا، لنكون أكثر وعياً ومسؤوليَّة وقدرة على مواجهة التحدّيات.

تقريرُ اليونيسيف يوثّقُ المأساة

والبداية من التقرير الصَّادر عن منظَّمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، الذي يشير، وبناءً على دراسة أجرتها، أنَّ حوالى 9 من كلِّ 10 أسر في لبنان لا تملك المال لشراء الضَّروريات، وأنَّ عدداً متزايداً من الأسر يضطرّ إلى اللّجوء لإرسال الأطفال، وبعضهم لا يتجاوز الستّ سنوات للعمل، في محاولة يائسة منهم للبقاء في قيد الحياة، وأنَّ 15% من هذه الأسر أخرجوا أطفالهم من المدارس لعدم قدرتهم على الوفاء بالأقساط المدرسيَّة.

ونحن نشهد إلى جانب ذلك المزيد من طالبي الحاجة كلّ يوم لتأمين قوتهم أو قوت عيالهم، أو للحصول على دواء واستشفاء، أو لتأمين مقعد دراسيّ لأولادهم، وهذا الوضع كان يمكن أن يكون أقسى، لولا المساعدات والإعانات الَّتي تقدِّمها المؤسَّسات الاجتماعية أو مما يأتي من المغتربين في الخارج.

لكنَّ هذا التَّقرير يأتي ليكون، إضافةً إلى كونه توثيقاً، شاهداً إضافياً على المسؤوليَّة الَّتي تقع على عاتق القوى السياسيَّة المعنيَّة بشؤون هذا البلد، للعمل بكلِّ جديَّة ومسؤوليَّة، والقيام بدورهم في رفع المعاناة عمَّن أوصلوهم إلى مواقعهم، وهم قادرون عليها إن هم تحرَّروا من حساباتهم الخاصَّة ومصالحهم الفئويَّة ورهاناتهم، وقرَّروا أن يمدّوا أيديهم بعضهم إلى بعض للعمل سويَّاً لتأمين الاستحقاقات الَّتي تكفل إخراج البلد من الانهيار، وإنسانه من معاناته، والَّتي تبدأ برئيس قادر على قيادة سفينة البلد، وصولاً إلى حكومة كفوءة، أو الاستحقاقات الأخرى القادمة، بعدما ثبت، وبالوقائع، أن لا قدرة لأحد على فرض خياره، أو أخذ البلد إلى حيث يريد، في بلد بني على التَّوافق ويستمرّ عليه.

التَّوافقُ بدايةُ الحلِّ

ونحن هنا ننظر بإيجابيَّة إلى كلّ يد تمتدّ إلى اللبنانيين لتساعدهم على بلوغ ذلك، وندعو إلى التجاوب مع أيّ خطوة تؤدّي إلى فتح باب الحوار بين اللبنانيّين وسدّ الهوَّة في ما بينهم، بعدما بتنا نخشى أن تكون القوى السياسيَّة قد اقتنعت أن لا حلَّ إلا بتدخل الخارج، لكنَّنا نجدِّد القول إنّ الحلّ سيبقى مرهوناً بإرادة القوى السياسيَّة، ومدى استعدادها للتوافق في ما بينها على تحرير الاستحقاق من سياسة التَّعطيل التي باتت تتكرَّر لدى كل استحقاق. ونحن نرى أنَّه إذا كان هناك من دور للخارج، فهو إعانة اللبنانيين على ذلك، لا أن يكون بديلاً منهم…

وهنا نعيد التأكيد أنَّ التوافق لا يعني المحاصصة أو تقاسم الجبنة كما كان يحصل سابقاً، والذي أودى بالوطن إلى القاع الَّذي وصل إليه، بل بالتوافق على اختيار الأفضل، ومن هو المؤهَّل لإدارة شؤون هذا البلد، وباعتماد الخطَّة الأمثل للنهوض الاقتصادي والاجتماعي فيه.

إنَّ من المؤسف أن نسمع حديثاً يقول إنَّ إنجاز الاستحقاق لن يتمَّ قبل وقت طويل، وما على اللبنانيّين إلا الصَّبر إلى أن تشفق عليهم القوى السياسية أو من يمونون عليهم بحلِّ عقدة الاستحقاق هذه، وهذا ما يعبّر عن ذروة التحلل من المسؤوليّة.

مسؤوليّةُ الحكومةِ تجاهَ الشّعب

وإلى أن يحصل ذلك، فإنَّنا نعيد دعوة الحكومة، ومعها المجلس النيابي، إلى القيام بالدور المطلوب منهم، للتخفيف من الأعباء على المواطنين، بدلاً من التفكير في زيادة الأعباء عليهم، والعمل لمعالجة جادَّة للقضايا المطروحة الَّتي لا تنتظر، وذلك بحلِّ أزمة موظَّفي القطاع العام، لإعادة دورة العمل، ولعدم تعطيل معاملات المواطنين، وبمنح الأولويَّة، وتوفير كل الإمكانات لعودة المدارس الرسميَّة، ليتسنَّى للطلاب حماية مستقبلهم الدراسي، بعدما أصبح واضحاً مدى عبء التَّعليم في المدارس الخاصَّة، والذي قد لا يستطيع الكثيرون تحمّل أكلافه، ومعالجة جادّة لأزمة النازحين، وعدم إبقائها في دائرة المراوحة أو التجاذب السياسي الداخل أو الخارج.

ولا يفوتنا، في هذا المجال، أن نقدِّر كلَّ الجهود التي تبذل على هذا الصَّعيد، والعطاءات التي تقدَّم من المؤسَّسات أو من الأفراد في الداخل أو الخارج الَّتي قد تساهم في التَّخفيف من هذه الأزمة، ولكنها لا تشكِّل حلاً لها.

فلسطينُ في الواجهةِ

ونعود إلى فلسطين التي ينبغي أن تبقى في الواجهة، لنحيي الروح البطوليَّة المتجدِّدة دائماً لدى الشعب الفلسطيني في الضفَّة الغربية أو في غزة، التي شهدت تطوّراً نوعياً في أداء المقاومة الفلسطينيَّة، أو في العملية التي أقضَّت مضاجع العدوّ الصهيوني، وكشفت ضعف استخباراته، والتي جاءت لتؤكِّد إرادته الثابتة لإزالة كاهل الاحتلال عنه، وأنَّه لا ينام على الضيم، ويرفض الذلَّ والهوان رغم التضحيات والأثمان التي يدفعها، وأنَّ رهان العدوّ الصهيوني على إسقاط عزيمة هذا الشَّعب وضعف إمكاناته هو رهان خاسر.

في الوقت الَّذي ندعو الدول العربية والإسلامية وشعوبها إلى دعمه في مسيرته، وأخذ العبرة من هذه الإرادة على مواصلة المقاومة ضدّ العدوّ رغم كلّ ما يعانيه هذا الشعب من حصار وتضييق، والقدرة على منعه من تحقيق أهدافه، بما لا يبرِّر روح الهزيمة السَّائدة والرضوخ لدعوات الاستسلام والتَّطبيع مع هذا العدوّ.

الأربعاءُ عيدُ الأضحى

وأخيراً، نعيد الإشارة إلى أنَّ يوم العيد سيكون، إن شاء الله، الأربعاء القادم في الثَّامن والعشرين من هذا الشَّهر، سائلين المولى أن يعيده عليكم بالخير واليمن والبركة والأمن والسَّلام، وأن نعبِّر فيه عن استعدادنا للتَّضحية بالغالي والنفيس لضمان عزَّتنا وكرامتنا ومستقبل أمَّتنا والعيش الكريم لإنساننا…

***