ولادة المسيح (ع): فرصة لتعزيز القيم ومواجهة الفساد

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. صدق الله العظيم.

تكامل الرّسالات

 

ما يميّز العقيدة الإسلاميّة من غيرها، أنها تفرض على الإنسان المسلم أن يؤمن بكلّ الأنبياء والرّسل. وهي ترى أنّ الأنبياء كلّهم نهلوا من منبع واحد، وهم دعوا إلى أهداف واحدة حمّلهم الله إيّاها وأرادهم أن يوصلوها إلى الناس، وهي تحرير النّاس من أيّ عبوديّة لغير الله، وتعزيز كرامة الإنسان التي هي منحة الله لعباده، وإقامة العدل في الحياة.

 

نعم، الرّسالات تدرّجت في تشريعاتها تبعاً لتطوّر البشريّة وتطوّر حاجاتها، فكلّ رسالة كانت تأتي لتضيف أحكاماً وتشريعات لم ترد في الرّسالة التي سبقتها، أو لتلغي أحكاماً لم تعد صالحة للعصر، أو لتصحّح انحرافاً.

وقد اكتملت هذه الرّسالات بما جاء به رسول الله (ص)، الذي لم يأت ليلغي الرّسالات التي سبقته، بل جاء متمِّماً لها، وهو لذلك قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".. "إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلّا وضعت هذه اللّبنة، قال: فأنا اللّبنة وأنا خاتم النبيّين". وهو عندما أنهى هذا الدّور وأنهى العمل فيه، نزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِين} (المائدة: 3).

لذا، فإننا نرى أنفسنا معنيّين بأن نحيي ذكرى هؤلاء الأنبياء، تقديراً للدور الذي قاموا به، وللاستفادة مما ورد من سيرتهم وكلماتهم ومواقفهم الّتي نراها تعبيراً عمّا يؤمنون به.

 

تكريم عيسى (ع)

ومن هنا، فإنّنا نتوقّف عند ذكرى ولادة السيّد المسيح (ع)، التي نريدها أن تكون مناسبة نستعيد فيها الظّروف التي أحاطت بالولادة المعجزة لهذا النبيّ، والموقع الذي بلغه عند الله، ومدى التكريم الذي حظي به مما أشار إليه القرآن الكريم.

فقد ولد هذا النبيّ ببشارة من الله إلى مريم (ع): {يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين}. وهذه البشارة تمت برعاية من الله سبحانه، وهو ما أشار إليه في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّ}.

وقد حظي هذا النبيّ بالتكريم الإلهيّ، بما أمدّه الله من مؤهِّلات وقدرات ومعجزات أجراها الله على يديه، جعلته قادراً على حمل مسؤوليّة لم تكن سهلة: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}.

 

واستمرَّ هذا التَّكريم إلى آخر مرحلة من وجوده بين قومه، حيث حماه الله من أعدائه لما أرادوا صلبه، وهذا ما أشار إليه الله عندما قال: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

 

اختلاف حول المسيح (ع)

ومن هنا، يمكننا القول إنَّ هناك التقاءً بين المسلمين والمسيحيّين على عظمة هذا النبيّ وعلى الدَّور الذي قام به لتعزيز المحبَّة في النفوس ورفض الظّلم والطّغيان الذي كان يمارَس على النَّاس. لكن هذا لا يدعونا إلى أن نتنكَّر لوجود اختلاف حول معالم شخصيَّة هذا النبيّ (ع)، والتي لا ينبغي أن نغفلها في ظلّ هذا اللّقاء.

وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف عندما رفض رفضاً قاطعاً إعطاء صفة الألوهيّة للسيّد المسيح (ع)، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيل}.

وقد بشّر القرآن الكريم برسوليّة النبيّ (ص)، مما لم يرد في الأناجيل المتداولة لدى الديانة المسيحيّة، فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.

تلاق إيمانيّ وأخلاقيّ

ولكنَّ هذا الاختلاف رغم وجوده، لا يعني افتراق الدّيانتين وتباعدهما، فهناك ما ينبغي أن يستحضر، وهو اللّقاء على الكثير من العناوين والمفردات الإيمانيّة والأخلاقيّة التي تلتقي عليها الدّيانتان، وهذا ما دعا إليه الله، فهو أمر رسوله (ص) إلى أن يقول لأهل الكتاب والمسيحيّين منهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله{، وفي الوقت نفسه، أكّد استمرار الحوار حول نقاط الاختلاف، وهو دعا إلى أن يكون بالأسلوب الأحسن البعيد عن التّوتّر والاستفزاز: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

ولم يقف الإسلام عند هذا الحدّ، بل أظهر الصّفات الروحيّة والأخلاقيّة التي اتّسم بها أتباع الديانة المسيحيّة، وذلك قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.

وقد تجلّى هذا عمليّاً في أكثر من موقف في حياة رسول الله (ص).

الموقف الأوّل الذي حصل حين ضغطت قريش على المسلمين في بداية عهد الدّعوة الإسلاميَّة، ما اضطرّ بعض المسلمين إلى أن يفكّروا في الهجرة، فكان قرار رسول الله أن يهاجروا إلى الحبشة، وقد علّل (ص) ذلك بأنَّ فيها ملكاً صالحاً لا يُظلَم عنده أحد. وقد كان هذا الملك نصرانيّاً، تربَّى على تعاليم السيّد المسيح (ع).

وفعلاً، هاجر جمعٌ من المسلمين إلى الحبشة، وقد حاولت قريش آنذاك اللَّعب على وتر الخلاف الدّيني بين الإسلام والمسيحيّة، من خلال وفدٍ أرسلته إلى الحبشة، حيث قال رئيس الوفد لحاكمها النّجاشيّ: إنّ المسلمين يفترون على السيّد المسيح (ع)، ويقولون فيه قولاً عظيماً – أي مسيئاً – فأرسل النجاشي بطلبهم مستفسراً، فوقف جعفر بن أبي طالب باسم المسلمين، فقال: أقول في السيّد المسيح (ع) بما جاء به نبيّنا عن الله، وتلا عليه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

فلمّا سمع النجاشيّ كلامه، اغرروقت عيناه بالدَّمع، وقال: "إنّ هذا والّذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة."

وموقف آخر، عندما قدم نصارى نجران إلى المدينة المنوَّرة، رغبةً في الحوار مع رسول الله (ص)، وهم يلبسون أزياءهم الكنسيَّة، ويحملون الصّلبان في أعناقهم، لم يعترضهم النبيّ (ص) رغم موقف الإسلام من الصَّلب، بل استقبلهم في مسجده في المدينة، وعندما حان وقت صلاتهم، استأذنوا النبيّ (ص) أن يدقّوا الناقوس في مسجده (ص)، وأن يصلّوا صلاتهم، فأذن لهم.

وقد استمرَّت هذه العلاقة بين الدّيانتين المسيحيّة والإسلام، محكومة بالاحترام والتواصل والرّحمة، والّتي بسببها عاش المسيحيّون في ظلّ المجتمع الإسلامي بسلام واطمئنان، يعبدون الله بحريّة في كنائسهم ومعابدهم، ولا يتدخّل المسلمون في شؤونهم الدينيّة، وهذا بناءً على توجه رسول الله (ص)، وإذا حصل هناك من أحداث خالفت ذلك، فلها ظروفها السياسية والزمانية المحدودة.

 

لتعزيز القيم المشتركة

إنّنا في ذكرى ميلاد السيّد المسيح، ومن موقع الإيمان المشترك بالقيم الدّينيّة والأخلاقيّة وبالعدالة والكرامة الإنسانيّة، نؤكّد أنَّ الحاجة ماسَّة لأن يقف المسلمون والمسيحيّون معاً في مواجهة الانحراف الإيماني والخلقي، ورفض الظّلم والفساد، وكلّ ما يسيء إلى كرامة الإنسان، ولتحقيق الأهداف المشتركة، لإقامة قيم الحقّ والعدل والحريّة والكرامة الإنسانيّة في الحياة… أن نعيد إلى قلوبنا المحبّة التي ملأت قلب السيّد المسيح (ع) وقلب رسول الله (ص).

أيّها الأحبّة، إنّنا نريد لذكرى ولادة السيّد المسيح (ع)، كما نريدها لكلّ ذكرياتنا، أن لا تقف عند حدود الشّكليات والطقوس، التي غالباً ما يُستغرَق فيها، بل أن نستجيب لكلمات السيّد المسيح (ع) ومواعظه، وأن نصغي إلى منطقه عندما يقول: "صلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم، وسلّموا على من سبّكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم، كما أنكم تحبون أن يعفى عن إساءتكم، فاعتبروا بعفو الله عنكم"، "ألا ترون أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار منكم، وأن مطره ينزل على الصالحين والخاطئين منكم، فإن كنتم لا تحبّون إلا من أحبّكم، ولا تحسنون إلا إلى من أحسن إليكم، ولا تكافئون إلا من أعطاكم، فما فضلكم إذاً على غيركم؟!".

فالسَّلام عليه، كما سلّم على نفسه، يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيّاً.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به السيّد المسيح (ع) حواريّيه، عندما قال: "بحقّ أقول لكم: إنَّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلايزال ينتقل من بيت إلى بيت، حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأوّل فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النّار محلاً، وكذلك الظالم الأوّل، لو أخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به".

لقد أراد السيّد المسيح (ع) أن يبيِّن الأثر الذي يتركه تلكّؤ المجتمع عن القيام بمسؤوليّته في مواجهة الظالم وردعه، فهو سيسمح بتماديه في الظّلم، ويشجّع الآخرين عليه. وقد شبَّه هذا السلوك بمن لا يبادر إلى إطفاء الحريق في بيت من البيوت، فهو يسمح بتمادي الحريق أو بانتشاره إلى بيوت الآخرين.

ومن هنا، كانت دعوته إلى كفِّ يد الظالم بكلِّ وسائل الرّدع، حتى لا يستمرَّ في ظلمه، ويكون عبرة لأيّ ظالم يفكّر في الظلم.

هذه الدعوة أشار إليها رسول الله (ص)، عندما قال: "أيُّها النّاس، مَنْ رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله".

لقد اعتبر (ص) أنّ السّاكت على ظلم الحاكم الجائر شريك له، يصل إلى حيث وصل إليه عند الله، ويتحمَّل معه كلّ تداعيات ظلمه ونتائجه.

إنَّنا أحوج ما نكون إلى الصَّوت الذي يصدح بالحقّ، ويرفض الظلم والفساد من أيٍّ كان. وبذلك نبني المجتمع، وبذلك نصبح أكثر وعياً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

عقبات في طريق الحكومة

والبداية من لبنان، الَّذي لا يبدو أنَّ الطّريق فيه سيكون معبَّداً أمام تأليف حكومة ينتظرها اللّبنانيّون لتحريك العجلة السياسيّة، ومعالجة المشكلات التي يعانونها على كلّ الصعد، وذلك بعد التّصريحات الأخيرة الّتي صدرت عن العديد من المواقع السياسيّة، وأظهرت حدّة الانقسام الحاصل فيما بينها، في وقتٍ يُفترَض أن تتوحَّد جهودها وتتعاون لإنقاذ بلدٍ يغرق في بحر أزماته.

وما يزيد من حدَّة هذه الأزمة، هو المسارعة في إعطاء ما يجري البعد الطائفيّ، بكلِّ ما يعنيه هذا البعد من تداعيات خطيرة على صعيد السِّلم الأهلي، في بلد سرعان ما يستنفر طائفياً ومذهبياً.

لذا، أمام ما يجري، ورأفةً بهذا البلد، نعيد دعوة هذه المواقع السياسيَّة إلى العودة سريعاً للحوار فيما بينها، وإخراج البلد من حالة المراوحة وتداعياتها على الصّعيد الاقتصادي والنقدي والأمني.

إنَّنا نتفهَّم الملاحظات الَّتي يبديها هذا الموقع أو ذاك، أو الغبن الَّذي يشعر به أيّ منها، ولكنَّنا نرى أنَّ المقاربة الإيجابيّة لكلّ هذه المشكلات، هي الَّتي تساهم في تبديد هذه الملاحظات أو إزالة الغبن، بعد أن بات واضحاً أن لا مصلحة لأحد في هذا البلد بالعبث بالتّوازن الطائفيّ أو المذهبيّ، أو استبعاد فريق أو طائفة، بل أستطيع القول أن لا أحد بوارد الدّخول في هذا المنحى الخطير في هذه المرحلة.

ونقول للجميع إنَّ الوقت ليس مفتوحاً للمناكفات، أو تصفية الحسابات، أو وضع العصيّ في الدواليب، أو "الحرد" السياسي، بل هو الوقت الَّذي ينبغي أن يتعاون الجميع لإنقاذ البلد بعد أن عبث به طويلاً من هم في مواقع المسؤوليّة.

لقد أصبح واضحاً، وبما لا يدعو إلى الشّكّ، أنَّ إنقاذ هذا البلد يقع على عاتق اللّبنانيّين جميعاً، ولا ينتظرنَّ أحدٌ شخصاً ما قادماً من الخارج ليقوم بذلك، فالخارج عندما يأتي، فهو يأتي لحساب قضاياه الخاصَّة ومصالحه أو للاستطلاع. ونخشى أنَّ هناك من يريد لهذا البلد أن يسقط، حتى يسهل عليه أن يأخذ في هذه المرحلة من سيادته وقوّته وثرواته، بعدما عجز عن ذلك في السابق، بحيث يأخذ بالسِّلم ما لم يستطع أخذه في الحرب.

ولذلك، فإننا ندعو الجميع إلى تجاوز كلّ الحسابات الخاصّة، والإسراع في تأليف حكومة من نظيفي الكفّ والأكفاء وأهل النزاهة الَّذين يتمتعون بثقة الناس من خلال تاريخهم، وأصحاب الرؤية الحقيقية التي تنقذ البلد.

معاناة وتكافلٌ

وفي هذا الوقت، وفي ظلِّ المعاناة الكبيرة على المستوى النقدي، فوجئ اللّبنانيّون بعدم تحرك النيابة العامة المالية بشأن ما كانوا يتداولونه من تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج، وما وثّقته لجنة المال والموازنة النيابيّة، مما يستدعي التحقيق، لأنّ ذلك إن أُعيد، فمن شأنه مساعدة البلد في الخروج من أزمته النقديّة.

وعلى الصَّعيد الاجتماعيّ، لا بدَّ من أن نحيّي كلّ المبادرات التي انطلقت من أفراد ومؤسَّسات وجهات لتعزيز التكافل الاجتماعيّ، بتقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين، ومنحهم فرصة للعيش الكريم.

إننا نريد لهذه المبادرات أن تتوسَّع، فهي تعبير عن إيماننا وإنسانيّتنا، كما أنها تحفظ هذا البلد من الجوع الَّذي يخشى من تداعياته.

على أعتاب سنةٍ جديدة

وأخيراً، أيّام قليلة ونكون على أعتاب بداية سنة جديدة. إنَّنا ندعو الله أن تكون سنة خير يستعيد فيها هذا البلد أمنه وسلامه، ويخرج فيها الجميع من كلّ الحسابات التي ساهمت في وصوله إلى الانحدار الذي وصل إليه، بحيث يكون مستقبل أيامنا فيه خيراً من ماضيها.

Leave A Reply