أهميَّة البصيرة في حياة المؤمن

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. صدق الله العظيم.
لقد أشار الله سبحانه في هذه الآية إلى صفة ميَّزت رسول الله (ص) وأتباعه في كلِّ حركتهم وخلال دعوتهم إلى الله تعالى، وهي امتلاكهم البصيرة.
والبصيرة تعني أن يحكّم الإنسان عقله في كلّ الأمور، فلا يكتفي بظواهر الأمور، بل ينظر إلى بواطنها عندما يقرأ، أو عندما يسمع، أو عندما يرى الأشياء من حوله، فهو لا يخدع بجمالات الصّور، ولا بتنميق الكلام، ولا بزخارف الدّنيا وبهارجها، والإنسان غالباً ما يخدع بذلك، وهناك الكثيرون يتفنّون بخداعه، وقد باتت وسائل الإعلام والتّواصل تساهم في خداع البصر والسّمع وفي تزييف الحقائق. 
وهنا دور دائم للشّيطان الذي أشار الله إلى أن من أهمّ وسائله هو الأماني الخادعة، والوعود الكاذبة، والتّزيين للمعاصي والذّنوب. وقد أشار الله إلى ذلك: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}.
 
من مظاهر الخداع
وقد تحدّث القرآن الكريم عن مظاهرَ من هذا الخداع، عندما تحدّث عن السحرة الذين واجه بهم فرعون النبيَّ موسى (ع)، فقال: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}. فالنّاس كانوا يرون أفاعي من خلال سحرهم وهي لست كذلك.
وخداع آخر أشارت إليه الآيات القرآنيّة، وهو خداع الدّنيا للّذين يستغرقون في النظر إلى زخارفها وبهارجها وزينتها من دون أن يروا حقيقتها، فقال سبحانه عن ذلك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ}.
وقد بيَّن الله حقيقة الدّنيا عندما قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}.
ولذلك قال: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ}.
وقد أشار الله سبحانه إلى خداعٍ ثالث، وهو الّذي يقع في فخّه أولئك الذي يصغون إلى حدّ الاستغراق لمن يملك فنّ التعبير، ويحسن التّلاعب بعواطف الناس ومشاعرهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}. وكثيرة هي مظاهر الخداع التي يتعرّض لها الناس في حياتهم.
فالإنسان بحاجة، إذاً، إلى البصيرة ليتحرَّر من كلّ أنواع الخداع هذه، حتى لا يقع في مهاوي الآخرين، وإلى هذا أشار رسول الله (ص) عندما قال: "نَظَرُ الْبَصَرِ لَا يُجْدِي إِذَا عَمِيَتِ الْبَصِيرَةُ"، وقال سبحانه: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}.
وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "إذا لم تكن عالماً ناطقاً، فكن مستمعاً واعياً".
 
دور البصيرة
فالبصيرة تجعل الإنسان يفكّر فيما يرى وفيما يسمع وينظر، ليكون على بيِّنة ووضوح من الحقيقة، والّتي تختفي فيما وراء الأشياء وما وراء الكلمات وما وراء المواقف، وتجعله يتطلّع إلى ما هو أبعد من الصّورة التي يراها، وهو ما قد يخفى على الكثيرين. والبصيرة هي الّتي تدفعه، في المقابل، إلى أن لا يتسرَّع في أية كلمة ينطق بها، أو في أيّ قرار يتّخذه أو حكم يحكم به، وذلك بما يبني في ذاته مناعة نفسيّة وروحيّة وفكريّة، تحول دون أن يأخذه أحد إلى حيث لا يريد، أو أن يقع في المنزلق الّذي يراد له أن ينزلق فيه.
وهذا ما ورد في الحديث: "فإنّما البصير من سمع فتفكَّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنَّب فيه الصّرعة في المهاوي".
ولذلك، لم ير القرآن الكريم والأحاديث الشّريفة المشكلة في فقدان حاسّة السّمع أو حاسّة البصر، فقد يستطيع الإنسان أن يتابع حياته بدونهما، ففقدان حاسّة السّمع أو حاسّة البصر، إنما هو ابتلاء سوف يجزى به الإنسان يوم القيامة، وقد ورد في الحديث: "إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء في جسده". وقد قال الله سبحانه عن ذلك: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
ويمكن للإنسان الأصمّ والأبكم أن يتابع حياته بدون هاتين الحاسّتين ــ طبعاً مع دعم المجتمع ــ إن هو امتلك البصيرة، وهو بذلك قد يتفوّق في دنياه وآخرته على الكثير ممن يتمتّعون بحاستي السمع والبصر، ولكن المشكلة تكون في الذين لا يمتلكون البصيرة الّتي تعينهم على دنياهم وآخرتهم. وهنا المشكلة، كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
فالبصيرة لا تتحقّق بسلامة العينين، وإنما بسلامة القلب. فكم من كفيف البصر نوَّر الله بصيرته ففاق الأصحّاء. لذا ورد في الحديث: "ليس الأعمى من يعمى بصره، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته".
وقد أشارت السيرة في ذلك إلى رجل عاش في أيام رسول الله (ص)، وكان كفيف البصر، ولكنّه كان أبصر من الكثيرين ممن يملكون حاسّة البصر، فلم يمنعه فقدان بصره من الجهاد في سبيل الله، فقد كان يخرج إلى مواقع الجهاد ليشارك بما استطاع إليه، ولو بالكلمة، وأن يكون مؤذّناً للنبيّ (ص) ومعلّماً للقرآن الكريم، بل وكان النبيّ (ص) يستخلفه لإمامة المسجد في بعض الأحيان. وهناك الكثير من النّماذج في الحاضر ممن فقدوا البصر والسّمع، ولكنّهم شكّلوا علامات فارقة في المواقع التي دخلوا فيها. 
وما ينطبق على البصر، ينطبق على باقي الحواسّ، فعندما يتحدّث القرآن عن الصمّ والبكم والعمي، إنما بتحدث عن أولئك الذين فقدوا البصيرة، وبالتّالي، فقدوا الإيمان وحسن السّيرة في الحياة، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
سبل البصيرة
والسبّيل للوصول إلى البصيرة – والَّذي هو هدف كلّ مؤمن ومؤمنة – يكون بتدعيم العقل وحضوره، وإبعاد كلّ ما يسيء إلى حركته، بحيث يكون هو الحاكم على حركة الإنسان، لا عصبيّاته، ولا انفعالاته، ولا شهواته، ولا مصالحه. ومن السّبل المؤدّية إلى ذلك، التفقّه في الدّين، التفقّه الذي ينير العقل ويصوّب مساره.
فقد ورد في الحديث: "الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة".
ومن هذه السّبل أيضاً، سبيل التقوى، فقد ورد في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}.
كما تأتي العبادة لتكون من السّبل المهمّة، حيث ورد في الحديث: "وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبدي بِشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، ومايَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أحبَبتُهُ، كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بِها، ورِجلَهُ الَّتي يَمشي بِها، وإن سَأَلَني لَأُعطِيَنَّهُ، ولَئِنِ استَعاذَني لَأُعيذَنَّهُ".
علاقة الإيمان بالبصيرة 
أيُّها الأحبَّة: لقد قُرِن الإيمان بالبصيرة، فلا خيار للإنسان المؤمن إلا أن يكون متبصّراً، يدقّق في كلّ شيء، فإذا أبصر يُبصر بوعي، وإذا سمع يسمع بوعي، وإذا نطق ينطق بوعي، وإذا حكم على الأمور يحكم بوعي ومسؤوليَّة، ويتجرَّد بعيداً من العاطفة والهوى والمصلحة.
وأهل البصيرة هم الّذين أشار إليهم عليّ (ع) عندما تحدَّث عن أولياء الله: "إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللهِ هُمُ اَلَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ اَلدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاِشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا اِشْتَغَلَ اَلنَّاسُ بِعَاجِلِهَا، فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ، وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ، وَرَأَوُا اِسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اِسْتِقْلاَلاً، وَدَرَكَهُمْ لَهَا فَوْتاً، أَعْدَاءُ مَا سَالَمَ اَلنَّاسُ، وَسِلْمُ مَا عَادَى اَلنَّاسُ، بِهِمْ عُلِمَ اَلْكِتَابُ وَبِهِ علِمُوا، وَبِهِمْ قَامَ كِتَابُ الله تعالى وَبِهِ قَامُوا، لاَ يَرَوْنَ مَرْجُوّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ، وَلاَ مَخُوفاً فَوْقَ مَا يَخَافُونَ".
قد أشار إليهم رسول الله (ص)، وأشار إليهم الإمام الصّادق (ع): "من له عينان في القلب، كما له عينان في الرأس".
دعوة إلى التبصّر
أيّها الأحبّة: ما أحوجنا في عصر التوتّرات والانفعالات والعصبيّات والحساسيّات، إلى أصحاب البصائر الّذين يحكّمون عقولهم قبل أان تطغى غرائزهم ومواقفهم، فيشكّلون بذلك صمّام أمان للمجتمع وللناس من حولهم!
هذه هي دعوة الله لنا عندما قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وما أفضله من دعاء في هذه الظّروف، ذلك الدّعاء الذي كان يدعو به أمير المؤمنين(ع): "إِلـهي، هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ، وَأَنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ أَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
 
 
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بخير الزّاد، ألا إنّ خير الزّاد التقوى. ومن التّقوى، الأخذ بوصيّة رسول الله (ص) في وحدة المسلمين، حيث تذكر السيرة النبويّة، أنّ رجلاً من اليهود مرّ على نفر من أصحاب رسول الله (ص) من الأوس والخزرج، فغاظه ما رأى من التئام شملهم واجتماعهم بعد الّذي كان بينهم من عداوات وقتال، قبل أن يوحّدهم الإسلام ويصبحوا بنعمته إخواناً.
وسرعان ما استعان هذا اليهوديّ بيهوديّ آخر، وطلب منه أن يجلس إليهم ويذكّرهم بيوم بُعاث، وما جرى فيه، وما قيل فيه من أشعار تحريضيَّة. ويوم بُعاث هو اليوم الّذي اقتتل فيه الأوس والخزرج، وكان الظّفر فيه للأوس.
نفّذ الرّجل ما طُلب منه، فأوغر الصّدور مجدَّداً بالحقد والعداوة، حتّى كادت القبيلتان تقتتلان فيما بينهما، لولا أن بلغ الخبر رسول الله (ص)، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، وقال لهم: "يا معشر المسلمين، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى الإِسْلام، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ"، فعرف الأوس والخزرج أنَّ الّذي حصل بينهم هو نزغة من نزغات الشَّيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا، وعانق الرِّجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله (ص) سامعين مطيعين، بعد أن أطفأ عنهم كيد عدوّهم.
أيّها الأحبّة، كم نحن بحاجةٍ إلى وعي هذه القصّة، كي لا نقع في حبال كلّ الّذين يعملون في اللّيل والنّهار من أجل إثارة الفتن في واقعنا، وحتّى لا يأتي من يذكّرنا بالصفحات السوداء في التّاريخ، وينسينا إيجابياته وعناصر الثقة والقوّة فيه، أو بما جرى في هذا البلد أو ذاك، أو بما تحدّث هذا وذاك، ليستثيرنا ويثير غرائزنا المذهبيّة أو الطائفيّة، مستفيداً من سرعة توتّرنا وانفعالنا وغفلتنا عن كلام ربّنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا}.
لبنان: الحاجة إلى التّعاون
والبداية من لبنان، الّذي لاتزال القوى السياسيَّة فيه تعمل على تخطّي هذه المرحلة الصعبة من تاريخه على كلّ صعيد. وفي هذا السّياق، تأتي خطوة تكليف رئيس حكومة نأمل أن تقوم بإخراج هذا البلد من معاناته.
ومن المؤسف أنَّ مشهد التّكليف لم يعبّر عن الصورة التي كنا نتمنّاها ويتمناها اللبنانيّون الذين كانوا يريدون أن يأتي هذا الاستحقاق تعبيراً عن توافق القوى وجميع اللّبنانيين لإخراج البلد من هذا النفق المظلم، فقد جاءت هذه الخطوة في ظلّ انقسامهم حولها، وهذا ما قد يجعلها محفوفةً بالمخاطر، بسبب انفعالات الداخل وهواجسه، وضغوط الخارج ومن سارع إلى وضع الحكومة في دائرة اللّون الواحد.
إنّنا نأمل مع كلّ اللّبنانيّين، ومع تفهّمنا للظروف التي آلت إلى التّكليف، أن يتمّ تجاوز العقبات التي تقف أمام تأليف الحكومة، وهذا ممكن إن تمت معالجة الهواجس التي يخشاها البعض، سواء القوى السياسيّة أو الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس المكلّف.
ونحن هنا نؤكّد ضرورة تعاون الجميع للوصول إلى صيغة حلّ يتمّ التوافق عليها، وتصبّ في مصلحة هذا البلد والحفاظ على وحدته واستقراره.
إنَّنا نعيد التّأكيد على القوى السياسية، أنَّ هذه المرحلة ليست مرحلة تسجيل نقاط أو تقاذف للكرات أو صراع صلاحيّات ومواقع، بقدر ما هي مرحلة إنقاذ بلد يكاد يغرق، وهي لن تتمّ إلا بتكاتف جهود الجميع، فالجميع مدعوّون إلى التعاون من أجل الخروج بحكومة تلبّي طموح اللّبنانيين الَّذين خرجوا إلى الشّارع ليطالبوا بكرامتهم وحقّهم في العيش الكريم، وببلدٍ خالٍ من الفساد والهدر والارتهان للخارج، وقادر على حماية أمنه وثرواته الطبيعيّة. 
وإلى أن نصل إلى تحقيق هذا الهدف الذي نأمل أن يكون سريعاً، فإنَّ حكومة تصريف الأعمال مدعوّة إلى أن تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها، وأن لا تنكفئ عن أداء مسؤوليّاتها لمعالجة الأزمات التي تقضّ مضاجع الجميع على الصعيد الاقتصادي والمعيشي وارتفاع الأسعار وأزمة السيولة في البنوك، وما يثار أخيراً عن خطوات قد تقدم عليها المصارف، والتي إن حصلت فستؤثّر في مصالح المودعين.
مواجهة الفتنة بالوعي
في غضون ذلك، تزداد المحاولات الجارية للإيقاع بين اللّبنانيّين، من خلال إثارة الحساسيات الطائفية والمذهبية، من خلال تداول مقاطع فيديو تسيء إلى الرموز والمقدّسات الدينية، أو تظهر إحراق شجرة الميلاد، مما قد يساعد عليه الجوّ السياسي المشحون.
إنَّنا أمام كلّ هذه المحاولات، نراهن على وعي اللّبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، وعلى أنَّهم لن يسمحوا للنافخين في بوق الفتنة بأن يجدوا أرضاً خصبة لهم، وأنهم لن ينجرّوا للوقوع في متاهاتها، وهم من خبروا كلّ هذه الفتن وذاقوا مراراتها واكتووا بنتائجها، ولن يقعوا في أتونها مرّة أخرى، ولن يلدغوا منها بعدما لدغوا مرارات كثيرة.
وهنا، لا بدَّ من أن نقدّر كلّ الأصوات التي تحركت سريعاً لمعالجة أيّ تداعيات اقتضتها ردود فعل متسرّعة، ولا بدَّ، وفي إطار الإشكالات التي تحدث في الشّارع، من التنبّه إلى خطورة التعرّض للقوى الأمنيّة التي تعمل في اللّيل والنّهار للحفاظ على أمن اللّبنانيين جميعاً، والتي تشكّل البقية الباقية من تماسك هذه الدولة، فلا يصحّ أن تكون عرضة لانفعالات المواطنين وردود أفعالهم لأيّ سبب، ففي ذلك عدم وفاء لهم، وتعريض لأمن الوطن ووحدته، وإساءة إلى هؤلاء الذين يعانون ككلّ المواطنين.
 
هل يشهد العراق حكومة؟!
وفي مجال آخر، فإنَّنا نأمل أن تسارع القوى الأمنيّة والسياسيّة في العراق إلى التّوافق على اسم رئيس حكومة يلبّي طموحات المواطنين، وإخراج هذا البلد من معاناته المستمرّة، ومنع الوقوع في فتنة داخليّة يراد للشَّعب العراقي أن يكون وقوداً لها.
وأخيراً، نستعيد في الأيّام القادمة ذكرى عزيزة على قلوب المسلمين والمسيحيّين، وهي ذكرى ميلاد السيّد المسيح (ع)؛ هذا النبيّ الممتلئ محبةً ورحمةً وتسامحاً وعنفواناً.
إننا في هذه المناسبة، نتوجَّه بالتهنئة للمسلمين والمسيحيّين، آملين أن تأتي هذه الذكرى وهي تحمل تباشير الأمن والسلام والاستقرار في هذا البلد، وتشدّ من أواصر التعاون بين أتباع الدّيانتين، للوقوف معاً في وجه كلّ ما يسيء إلى قيم الرّسالات السماوية ويهدّد كرامة الإنسان وحريته واستقلاله وحقّه في الحياة الكريمة.

 

Leave A Reply