إحياءُ ليلةِ القدرِ: أجرٌ وبركاتٌ

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله في كتابه العزيز: { حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }. صدق الله العظيم.

ساعات تفصلنا عن أوّل ليلة من ليالي القدر، هذه اللّيلة التي ميَّزها الله عن بقيَّة ليالي شهر رمضان، بل عن بقيّة ليالي السّنة، بما أودع فيها من الفضائل والبركات، وهي سمّيت ليلة القدر، لما لها من قدر عظيم وشرف عند الله عزّ وجلّ.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، عندما قال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }.

مكانةُ ليلةِ القدرِ

فهذه اللّيلة هي عند الله خير من ألف شهر، أي أنّ الله منَّ على هذه الأمّة بليلةٍ، العمل فيها يقابل عمل ألف شهر ويزيد عليه، أي عبادة ثمانين سنة، وهذا ثوابٌ أيّما ثواب.

وفي هذه اللّيلة، يُنزل الله ملائكته والرّوح فيها إلى الأرض، حتى تضيق بهم تكريماً لنزول القرآن الكريم في هذه اللّيلة، وليفيضوا على أهلها أمناً وسلاماً وطمأنينةً، وليحملوا دعاء الدّاعين وابتهالاتهم، وأذكار الذّاكرين واستغفار المستغفرين إلى خالقهم. وقد اختلف المفسّرون في المقصود من الرّوح الوارد في قوله: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَ }، فمنهم من قال إنّه جبرائيل، لقوله تعالى عندما تحدَّث عنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، وهناك من قال إنّه مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وفي آيةٍ أخرى، بيَّن الله سبحانه أمراً آخر يجري في هذه اللّيلة ويدعو إلى الاهتمام بإحيائها، وهو أنَّ الله سبحانه يقدِّر فيها ما سيجري على العباد لسنة كاملة، من حياة أو موت، ومن خير أو شرّ، ومن صحة أو مرض، ومن سعادة أو شقاء، ومن عطاء أو حرمان، فقال عزّ وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }.

وما يزيد من شرف هذه اللّيلة ويعلي من مكانتها، هو نزول القرآن الكريم فيها، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}… { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ }.

القرآن وليلة القدر!

وهنا قد يطرح التّساؤل: كيف تتحدَّث الآية عن نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، فيما لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله (ص) دفعة واحدة، إنما على مدى ثلاث وعشرين سنة منذ بعثة رسول الله (ص) حتّى مغادرته الدنيا، حيث كانت الآيات تنزل على النبيّ (ص) رداً على التساؤلات، ولمواجهة التحدّيات، أو لإبلاغ حكم شرعيّ أو مفهوم دينيّ أو توجيه أخلاقيّ…؟

وقد ورد في تفسير ذلك آراء عدّة؛ فهناك من المفسّرين من قال إنّه في هذه اللّيلة، ليلة القدر، نزل القرآن الكريم من اللّوح المحفوظ (هو المستودع لمشيئاته) إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، ليبدأ بعد ذلك نزوله بالتّدريج في كلّ مناسبة أو حدث، وعلى مراحل، وهناك من قال إنَّ القرآن الكريم بدأ نزوله في هذه اللّيلة على رسول الله (ص)، أي أنَّ جبرائيل نزل على رسول الله (ص) في غار حراء بأوّل آية من آيات القرآن الكريم. ويعزّز هؤلاء رأيهم بأنَّ النبيّ (ص) كان يتعبّد في غار حراء خلال شهر رمضان، وكلمة القرآن تطلق على آيات من القرآن، كما تطلق على القرآن كلّه.

فيما قال بعض آخر إنَّ القرآن نزل في هذه اللَّيلة على قلب رسول الله (ص) ليعي القرآن بشموليّته، وبعد ذلك، بدأ النّزول التدريجيّ، وحسبما تقتضيه الظروف، والذي استمرّ لثلاث وعشرين سنة.

متى ليلة القدر؟!

يبقى السّؤال الذّي يُطرَح دائماً عند الحديث عن ليلة القدر: متى ليلة القدر؟ ولماذا يتمّ إحياء ثلاثة أيّام مع كونها ليلةً واحدة؟ هنا يقال إنّ هذا الاختلاف يعود إلى تعدّد الروايات التي أشارت إلى ليلة القدر؛ منها ما أشار إلى أنها في ليلة التّاسع عشر، وهناك روايات أخرى أنها في ليلة الواحد والعشرين، وهناك من ذكر أنها في الثّالث والعشرين، وهو المرجَّح لدينا، وهناك روايات أنّها في السّابع والعشرين، وهناك روايات أن التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان.. فنحن ينبغي أن نحييها في كلّ هذه الأيّام، حتى نتأكّد أننا أحيينا ليلة القدر ولن يفوتنا إحياؤها، ولا تضيع علينا بركتها.

ولعلّ في هذا الاختلاف في تعدّد الرّوايات حكمة وغاية، وهي دفع المؤمنين إلى إحياء هذه اللّيالي، حتى لا يفوتهم خيرها وبركاتها.

فكما أشارت الأحاديث إلى أنّ الله أخفى رضاه بين أنواع الطّاعات، حتى لا يستصغر أحدٌ شيئاً من طاعته، وأخفى سخطه في معصيته كي يتجنَّب العباد جميع معاصيه، وأخفى وليّه في عباده حتى لا يستصغر أحدٌ عبداً من عبيده، فربما يكون هو وليّاً، وأخفى إجابته في دعوته حتى لا يستصغر شيئاً من دعائه، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظَّم كلّ أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائماً على استعداد له، كذلك أخفى الله هذه اللّيلة بين كلّ هذه اللّيالي كي يحيوها كلّها.

الاستفادة من ليالي القدر

لذلك أيّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نسجّل حضورنا الفاعل في كلّ ليلة من لياليها، إن لم يكن في المساجد ففي بيوتنا، أن لا ندعها تمرّ دون أن نستفيد من بركاتها؛ فنرى أنّ كلّ دقيقة من دقائقها ثمينة، ليس من شيء هو أثمن منها، وأن لا يشغلنا عنها شاغل، وأن نقبل عليها بقلوب نقيّة صافية قد خلت من كلّ حقد وضغينة، وأن نتوجَّه إلى الله بألسن طهرت من أيّ غيبة أو نميمة أو كذب أو افتراء على الله وعلى النّاس، فلا يقبل دعاء أو ذكر بلسان غير نقيّ، وبنفوس امتلأت حباً لخالقها، ورغبةً بما عنده، وثقةً بوعده وخوفاً من وعيده، وأن ندعوه بأن يقينا من النّار، فنقول كما نقرأ في دعاء الجوشن: “سُبحانَكَ يا لا إلهَ إلّا أنتَ، الغَوثَ الغَوثَ الغَوثَ، خَلِّصنا مِنَ النّارِ يا رَبِّ”، وأن نتطبّع بمكارم الأخلاق وأعلى الصّفات، فندعو الله أن يسدِّدنا لأن نعارض من غشّنا بالنّصح، ونجزي من هجرنا بالبرّ، ونثيب من حرمنا بالبذل، ونكافئ من قطعنا بالصِّلة، ونخالف من اغتابنا إلى حسن الذّكر، كما نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق.

وأن نستهدي بالقرآن الكريم في حياتنا، ليكون هدياً ومقتدى وهدى لنا، وأن نشمل بدعائنا كلّ من يحتاج إلى الدعاء، وحتى ممن نختلف معهم، أو كان بيننا وبينهم عداوة وشحناء.

هي فرصة ثمينة لا يفوِّتها الواعون.

وكما قال رسول الله (ص): “مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ”. وليكن دعاؤنا لله أن يعيننا عليها: “اللَّهمَّ ووفِّقني فيه لليلة القدر على أفضل حالٍ تحبّ أن يكون عليها أحد من أوليائك وأرضاها لك، وارزقني فيها أفضل ما رزقت أحداً ممن بلّغته إيَّاها وأكرمته بها، واجعلني فيها من عتقائك من النَّار وسعداء خلقك، برحمتك يا أرحم الرّاحمين”.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة أمير المؤمنين (ع)، الَّتي آثر أن يودعها أهل بيته وكلّ من بلغته وأصحابه قبل أن يغادر الدّنيا، فقال:

“أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي، ومن بلغهم كتابي هذا من المؤمنين، بتقوى الله، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصّلاة والصّيام.

الله الله في الأيتام، لا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم. والله والله في جيرانكم، فإنهم وصيّة نبيّكم، ما زال يوصي بهم حتى ظنّنا أنّه سيورّثهم. والله الله في القرآن، فلا يسبقنّكم إلى العمل به غيركم. والله الله في بيت ربّكم، فلا يخلو منكم ما بقيتم، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. الله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معايشكم. ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولَّى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. وعليكم بالتّواصل والتّباذل، وإيّاكم والتّدابر والتقاطع والتفرّق والحسد”.

ثم قال: “أستودعكم الله جميعاً سددكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله وكفى بالله خليفةً”.

هذه هي وصيّة أمير المؤمنين لنا، فلنستوصِ بها. فبالالتزام بها نظهر حقيقة حبّنا له (ع)، فهو لن يكتفي منا بمشاعرنا وعواطفنا تجاهه أو بانتمائنا إليه، بل هو يريد العمل والسّلوك أيضاً.

وكما قال الإمام الباقر (ع): “أيكفي الرجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولّاه، ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله، ومتى فعلنا ذلك، سنكون أكثر وعياً وقدرةً على مواجهة التحدّيات!

لبنان على وشك الانهيار

والبداية من لبنان الّذي يعيش اللبّنانيّون فيه أياماً صعبة على كل الصعد، وستكون أكثر صعوبة وتعقيداً عليهم بعدما أصبح هذا البلد على وشك الانهيار، وأن المدة الفاصلة عنه لا تتجاوز أسابيع معدودة، في ظل نفاد المخزون المالي من مصرف لبنان، سوى من احتياط إلزامي متبقّ هو للعلم من أموال المودعين، وهو ضروري لإبقاء لبنان ضمن النظام المصرفي العالمي..

ومن الطبيعي أن يكون لذلك تداعياته التي لن تقف عند حدود الوضع المعيشي والحياتي مما لا قدرة للبنانيين على تحمله، بل قد تتعدّاه إلى اضطرابات أمنيّة قد تصل إلى حدّ الفوضى، في وقت لا وجود لمعالجات جدية أو خطة طوارئ إنقاذية تخرج البلد من هذا الواقع وكل تداعياته، سوى الحديث المتزايد عن البطاقة التمويلية المطروحة كبديل من رفع الدعم، لكن هذه لا تزال تعترضها عقبات، وهي عدم توفر التمويل الكافي لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الناس التي وصلت إلى ما تحت خطّ الفقر، وهي ستخضع في ظلّ الواقع المهترئ لمؤسّسات الدولة وللفساد المستشري، للمحسوبيات أو تدخل في لعبة المصالح.

لقد كنا ولا نزال نأمل أن يؤدي كل هذا الذي يجري والذي سيجري، إلى أن يحرّك ضمائر من هم في مواقع المسؤوليّة، ويدعوهم إلى الخروج من حساباتهم الخاصّة ورهاناتهم الداخليّة والخارجيّة، والعودة إلى التواصل للعمل معاً لإزالة كلّ العقبات التي لا تزال تقف عائقاً أمام تشكيل حكومة نريدها أن تكون حكومة كفوءة وقادرة على إخراج البلد من هذا الوضع القائم، وبعيدة من الارتهان، حكومة تعيد ثقة اللّبنانيّين بوطنهم، وتفتح أبواب الخارج عليه.

ونحن في هذا المجال، نجدّد دعوتنا إلى كلّ من هم في مواقع المسؤوليّة إلى الكفّ عن اللّعب الجاري بمصير البلد، وأن يتّقوا الله في هذا الشّعب الذي نفد صبره ولم يعد قادراً على تحمّل المزيد من إدارة الظّهر لوجعه وألمه وفقدانه لدوائه وغذائه وأبسط مقوّمات حياته.

إننا لا نزال نرى أنّ حلّ العقد أمام التأليف ممكنة إن صدقت النّيات، وخرج كلّ من حساباته لحساب الوطن وإنسانه.

قضيّة تهريب المخدِّرات

في هذا الوقت، برزت إلى الواجهة قضية تهريب المخدرات من لبنان، حيث القرار الصادر عن بعض الدول الخليجية بمنع الصادرات اللبنانية من الدخول إلى أراضيها، ونحن في هذا المجال، وبعيداً من خلفيات هذا القرار، دعونا ونجدّد الدعوة للعمل بكلّ جديّة ومسؤوليّة لحماية هذا البلد من المهربين ومروّجي المخدرات، وهذا يحتاج إلى قرار جدّيّ برفع الغطاء عن كلّ هؤلاء، وقد كنّا نأمل من الدول الخليجية أن لا تعاقب كلّ اللّبنانيّين على ذلك، وأن تكون القاعدة لديهم: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }، وأن يكون البديل هو تعزيز التّعاون بينهم وبين الدّولة اللبنانية لمنع تكرار ما حصل.

وهنا نقدِّر كلّ الجهود التي بذلت سابقاً والتي تبذل الآن لملاحقة هؤلاء، ونأمل أن تتابع بكلّ جديّة ومسؤوليّة وطنية ودينية وإنسانية، لاقتلاع جذور هذه الآفة من هذا البلد.

المقدسيّون يواجهون العدوّ

وفي مجال آخر، فإنّنا نحيّي المقدسيّين شباباً ونساءً ورجالاً وأطفالاً على تصدِّيهم البطوليّ للمستوطنين وقوَّات الاحتلال، لمنع العدوِّ من الاستمرار في مخطَّطه الرّامي إلى تهويد القدس، وتقسيم المسجد الأقصى جغرافياً ومكانيّاً بعد تقسيمه زمانياً، رغم التَّضحيات التي تبذَل في هذا الطَّريق.

لقد كنّا ولا نزال على ثقة بالشّعب الفلسطيني، وبقدرته على تحقيق أهدافه إن توحَّدت جهوده وطاقاته كما توحَّدت الآن.

دعم العمّال في عيدهم

وأخيراً، وفي يوم العمّال، والذي يأتي هذا العام، مع الأسف، في وقتٍ يفقد الكثير من العمال أعمالهم وفرصهم في العيش الكريم، فإننا في هذه المناسبة، نهنّئ كلّ عمالنا وعاملاتنا في كلّ مواقع عملهم في يوم عيدهم، وندعو كلّ ربّ عمل، وكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، أن يرأفوا بهم ويبادروا إلى مدّ يد العون إليهم، وتكريم هذه اليد الّتي يحبّها الله ورسوله، وأن لا ندعهم يواجهون وحدهم الظّروف الصعبة على كلّ الصّعد، أو دفعهم إلى الهجرة إلى بلاد الله الواسعة، بل أن يكونوا قوّةً وعوناً لهم، ويساعدوهم على مواجهة أعباء الحياة…