ارفضوا الأنانيّة.. فالحياة تسع الجميع

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ…}[الحشر: 9]. صدق الله العظيم.

 

إنَّ أكبر مشكلةٍ تعانيها البشريَّة تبدأ في عالم الفرد، عندما يغلّب الإنسان مصلحته على مصلحة الآخرين، ومهما كان الثَّمن، وهذا هو تعريف الأنانيَّة الّذي ينطلق من الأنا التي ترى نفسها فوق أيّ اعتبار آخر.

 

ما هي الأنانيّة؟!

وهنا نقطة أحبّ أن أوضحها في تحديد الأنانيَّة، الّتي قد يختلط مفهومها مع مفهوم حبّ النَّفس وتقديرها، فحبّ النَّفس بما هو حماية لها، ورعاية وإشفاق واهتمام، وعدم جلد وأذيّة وقهر، هو أمر إيجابيّ ومطلوب ليستمرّ الإنسان، وكي لا يقع في الإحباط، ولكن أن يستغرق الإنسان في ذاته، أن يرى نفسه ولا يرى الآخرين في كلّ منطلقاته ونيّاته، فهذه أنانيَّة، وهي مرض، وقد يصبح مرضاً عضالاً إن لم يتمّ تداركه.

أيّها الأحبَّة، لقد أصبحت الأنانيَّة، ومع الأسف، صفةً لا تستدعي الخجل، بل بتنا نسمع في واقعنا عمّن يعتبر الأنانيّة "شطارة"، وأنَّ الحياة هي لمن يحبّ ذاته ويقدِّمها ويُفضّلها على أيّ شيء آخر. فالأنانيّ هو "الشّاطر" الّذي يعرف كيف يعيش، كيف يقتنص الفرص لحسابه الشَّخصيّ، كيف يربح أكثر ولو بمنافسةٍ غير شريفة، كيف يسوِّق نفسه متعامياً عمَّن هم أكثر كفاءة وأهميَّة، كيف يضنّ على الآخرين بعلمه ومعلوماته وخبراته… لقد تبدَّلت المقاييس، فالأنانيَّة صارت هي الأساس في التَّعامل، حتّى صار البعض يشكّ فيمن يقدِّم له دعماً أو خدمةً بدون حساب، ويفترض أن لا بدَّ من أن يكون له مصلحة في الموضوع. أليس هذا ما تسمعونه ويحسّ به الكثيرون؟!

 

من مظاهر الأنانيَّة

الأنانيّة، أيّها الأحبّة، ذات آثار سيِّئة، مهما جمّلنا صورتها وفلسفناها، يكفي أن نتطلَّع إلى مظاهرها؛ على مستوى الفرد، نتطلّع إلى الزَّوج أو الأب أو الأخ الأنانيّ الّذي لا يفكّر في من حوله ممن يعيشون معه؛ المهمّ إرادته هو، ورأيه هو، وذوقه ومزاجه، وعلى الآخرين أن يتحمّلوه.

وكذلك الأمر بالنِّسبة إلى المرأة الزَّوجة الأنانيّة الّتي لا تبالي بظروف زوجها، وتعتبر أنَّ مصلحتها ورغباتها لها الأولويَّة، حتَّى لو كان الزَّوج غير قادر على تلبيتها…

والأنانيّة قد نراها أيضاً في الأولاد الّذين لا يفكّرون إلا في حاجاتهم، ومهما كانت ظروف الأهل.

وخارج البيت، نرى الأنانيّة في الجار الّذي لا يراعي راحة جاره.

نراها في تسلّط القويّ منهم على الضّعيف في المنافع المشتركة، عندما يستبدّ ويستأثر بموقف سيّارته أو بالحصّة الكبيرة من المياه، مثلاً.

نراها في تسلّط القويّ على الضّعيف، في عدم خضوعه لنظام الدّور أمام محلّ يصطفّ فيه النّاس، أو في دائرةٍ رسميّةٍ أو غير ذلك…

نراها في أنانيّة السّائق الّذي يوقف سيّارته في منتصف الطّريق ليشتري غرضاً، أو ليسلّم على صديق، وطابور من السيّارات ينتظر خلفه، أو في أنانيّته عندما يُشعل ضوء سيّارته العالي ليلاً، غير مهتمّ بما يعانيه الآخرون.

 

أنانيّة الاقتصاد والسياسة

والأنانيَّة لا تقتصر على الحياة الاجتماعيّة وبين الأفراد، بل نراها تحوّلت إلى أسلوب على المستوى الاقتصاديّ، حيث يطالعنا الاحتكار في شتّى أنواعه؛ بالسّلع، وتقديم الخدمات، في تأجير البيوت والمحالّ أو بيعها…

وباتت تتمظهر على المستوى الطائفي والمذهبي والحزبي؛ ممن يفكّر في حسابات طائفته ومذهبه وحزبه، من دون أن يأخذ بالاعتبار الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة الأخرى.

وإذا أردنا أن نبحث أكثر في خبايا ذات الإنسان، لوجدنا أخطر صور الأنانيَّة على المستوى السياسيّ، فالأنانيّة هي الّتي تدفع الحاكم أو صاحب السّلطة إلى أن يستعمل أيّ وسيلة كي يحافظ على موقعه، والأنانيّة هي سبب كلّ هذه الدّكتاتوريّات الّتي تعانيها الشّعوب في الشّرق والغرب.

وأكبر مثال على ذلك، قول هارون الرّشيد لولده المأمون: "والله لو نازعتني الملك، لأخذت الّذي فيه عيناك".

 

نتائج ومفاعيل

أيّها الأحبَّة: إذا أردنا أن نذكر كلّ مظاهر الأنانيّة في المجتمع، فإنَّ المقام لن يتَّسع، فكيف إذا أردنا أن نتتبَّع نتائجها ومفاعيلها؟!

ولقد لخّصها هذا القول: "الأنانيّة كريح الصّحراء، تجفّف كلّ شيء". الأنانيّة تولّد الحسد، والحسد يولّد البغضاء، والبغضاء تولّد الاختلاف، والاختلاف يولّد الفرقة، والفرقة تولّد الضّعف، والضّعف يولّد الذّلّ، والذّلّ يولّد زوال الدّولة وزوال النِّعمة وهلاك الأمَّة.

لقد كان همّ الإسلام أن يظهر مخاطر هذه الأنانيّة، أمّا السبيل إلى ذلك، فقد لفت إليه القرآن الكريم بالإشارة إلى ما حصل للأنانيّين، عندما تحدَّث عن إبليس الذي كان أنانياً عندما قال عن آدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، فكان أن طرد من رحمة الله، وعندما تحدَّث عن قارون الّذي أتاه الله الأموال التي يعجز الأشدّاء عن حمل مفاتحها، ورفض أن يحسن كما أحسن الله إليه، فخسف الله به الأرض، وعندما تحدَّث بالويل للّذين كانوا إذا اشتروا يشترون بالزّائد…

 

كيف ننزعها من النّفوس؟

أمَّا كيف ننزع الأنانيَّة من النفوس؟! فقد بيّنه رسول الله (ص) بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

وقد استطاع رسول الله (ص) أن ينقل مجتمع الجاهليَّة إلى أمّةٍ متعاونةٍ متراحمةٍ متبادلة متباذلة، هي خير أمّة أخرجت عندما أخرجهم من أنانيّاتهم، فقال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسَّهر". وهذا التوادّ والتّراحم لا يتحقَّقان إذا كان كلّ فرد يفكّر في مصلحته فقط دون مصلحة الآخرين، وفي راحته فقط دون راحة غيره، هذا لا يتمّ إلا بالتَّضحية والتَّنازل وتمرير الأمور، وأن يفكّر الكلّ في الفرد، والفرد في الكلّ. لهذا، عندما جاء رجل إلى رسول الله ليقول في مجلسه: "اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً"، قال له النبيّ (ص): "لقد حجرْت واسعاً يا أخا العرب".

لقد استطاع رسول الله أن يبدِّل عقليَّة ذلك المجتمع القبليّ العشائريّ وأداءه إلى أداء راق، وقد تجلّى ذلك الرّقيّ في قمّة مظاهره، في تجربة الأنصار مع المهاجرين، حين حلّوا في ديارهم، فتقاسموا خلالها الدور والأموال والأراضي، وهو الذي أشار إليه الله سبحانه في الآية الّتي تلوناها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. هذه التّجربة كانت المدماك الأوَّل والتّعبير العمليّ عن أنّه: لا أنانيّة في مجتمع المؤمنين أبداً.

 

وأحبّ أن أذكر، ونحن في مقام ذكر نبذ الأنانيّة، هذه الحادثة الّتي طبّقها خير تطبيق أحد أصحاب رسول الله (ص)، وهو أبو طلحة الأنصاري، الّذي كان أكثر أهل المدينة مالاً (نخلاً)، وكان أحبّ أمواله إليه "بيرحاء"، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماءٍ طيّب فيها، فلمَّا نزلت الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران: 92]، قال: يا رسول الله، إنَّ أحبَّ أموالي إليّ بيرحاء، وهي منذ الآن صدقة لله، فضعها يا رسول الله حيث شئت. فقال رسول الله (ص): "بخ بخ، ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت فيه، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين". قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله. فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه.

 

الحياة تسع الجميع

أيّها الأحبّة: إنَّ عصور التّاريخ الأكثر ظلاماً وطغياناً، هي العصور الّتي استغرقت فيها شعوب بعينها في أنانيّاتها، فتخلّت عن إنسانيّتها، وسعت إلى الاستئثار بخيرات شعوب أخرى، وبنت صروح عظمتها على حساب مستقبل شعوب الآخرين، وهي بذلك نشرت الكراهية والبغضاء، وندّدت بروح التضامن والتكافل، وأدّت إلى نشوء الفقر والحاجة.

ونحن نمارس هذه الأنانيَّة بشكلٍ أو بآخر؛ في بيوتنا وأحيائنا ومؤسَّساتنا، وعلينا أن نعمل على اقتلاعها من أنفسنا أوّلاً.

لقد كانت الجاهليّة ملأى بالأنانيّات، فدعونا نتخلّص من أنانيّاتنا كي لا نعود إلى جاهليّة جديدة.

وليفكّر كلّ منّا في الآخر، وليكن لسان حالنا قول أمير المؤمنين: "أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى؟!".

دعونا نرفض السّعادة إذا لم يُسعَد من هم حولنا، وليكن شعارنا: الحياة تسع الجميع، أعيش ويعيش معي الكثيرون، وأرتاح ويرتاح معي الكثيرون، وأسعد ويسعد معي الكثيرون.

فلنوسّع من أفقنا، ونعش رحابة الحياة على اتّساعها، فنهنأ في الدّنيا وفي الآخرة. قَالَ أعرابي لرَسُول اللهِ: عَلِّمْنِي عَمَلًا أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ (ص): "مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ إِلَيْكَ فَأْتِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ إِلَيْهِمْ".

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما حذَّرنا منه الله سبحانه وتعالى، عندما نقلنا إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة، وقال عزَّ من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يحذّرنا من أن ننقاد إلى الزعماء والشخصيات والمتنفّذين ونكون أتباعاً لهم، فنُخضِع لأجلهم قيمنا ومبادئنا ومواقفنا وحريتنا وعزّتنا، فهؤلاء سوف يتبرأون من أتباعهم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وسيندمون عندما كانوا قوّةً لهم وسنداً، ويتمنّون لو عادوا إلى الدنيا ليتبرأوا منهم، كما تبرأوا هم منهم في الآخرة، ولكن هيهات أن يعودوا إليها!

هذا درس من دروس الوعي، حتى نعي جيّداً مع من نسير وعواقب هذا المسير، لا في الدنيا، بل في الآخرة، التي هي المصير وهي القرار.

ومتى فعلنا ذلك، سنضمن السَّير في الاتجاه الصَّحيح، ونكون أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

 

هل تنقذُ الحكومة البلد؟!

والبداية من لبنان، الَّذي ولدت فيه الحكومة بعد أن ذلَّلت كلَّ العقبات التي أخَّرت هذه الولادة، والتي – مع الأسف – لم تنطلق من خلاف حول البرنامج المفترض أن تنتهجه للخروج من المعاناة التي يعيشها إنسان هذا البلد، أو حول قدرة الشخصيات المطروحة من قبل القوى السياسيّة للقيام بمهمّاتهم، أو حول أخذ مهلة تكفي للوصول إلى توافق كلّ القوى السياسية ومن نزلوا إلى الشّارع على هذه الحكومة، بل كان السَّبب الواضح لذلك هو ما طفا على السّطح من التجاذب الحادّ على المواقع والنّفوذ، حيث سعى كلّ فريق ليثبت موقعه ونفوذه، وليحصل على أكبر حصّة ممكنة له.

إنَّ هذا التجاذب إن لم يعالج بالشَّكل المطلوب، فسيترك تأثيراته في انسجام هذه الحكومة وتعاونها فيما بينها، وقدرتها على تأدية الدَّور الذي ينتظر منها، وهو دور لن يكون عاديّاً في ظلِّ الظروف التي حصل فيها هذا التَّشكيل، فهو لم يكن بتوافق كلّ القوى السياسيّة الفاعلة، حيث العديد من هذه القوى خارجها، فيما يريد اللّبنانيون منها أن تخرجهم من أزماتهم الاقتصادية والمعيشية، وارتفاع أسعار السّلع، وعدم توفر الخدمات الضّرورية لهم، وأزمة المصارف والمحروقات.

ويُضاف إلى ذلك ما هو مطلوب من الخارج الَّذي يطرح شروطه حتى يساهم في إعانة هذا البلد على الخروج من أزماته، والتي قد لا تقف عند الإصلاحات، بل قد تكون أبعد من ذلك.

ويبقى الهمّ الأكبر، هو أن تُلبّي الحكومة طموحات الشّارع المنتفض منذ ثلاثة أشهر، وهو المتعدِّد في آرائه ومطالبه. ونحن رغم كلّ الأجواء السّلبيّة الّتي أحاطت بتأليف هذه الحكومة، والتي ما كنا نريد لها أن تحصل من هذا الفريق الَّذي يجمعه التحالف على القضايا الأساسية والمصيريّة لهذا البلد، نرى إيجابيّة في ولادتها في مقابل الفراغ، ولضرورة وجود مرجعيّة في هذا البلد يتعامل معها الداخل والخارج، ولأنها حقّقت بعضاً مما كان يطالب به الشّارع، ومما كانت تطالب به القوى السياسيّة التي شاركت في التأليف، عندما شملت اختصاصيّين، ومثّلت المرأة بحصَّة وازنة لم نشهدها في الحكومات السّابقة، وللحرص الذي يبديه رئيس الحكومة في التزامه بتنفيذ الوعود بتلبية مطالب الشّارع وتحقيق الإصلاح.

 

كلمة للحكومة وللمعارضة!

وينبغي أن نقول للحكومة، كما قلنا سابقاً، إنَّها قادرة على أن تتجاوز كلّ عقبات التأليف، رغم الرّفض الذي يبديه هذا الفريق أو التحفّظ الذي يبديه ذاك، ورغم إشاعة أجواء محبطة باستحالة الإنقاذ، إن هي عملت كفريقٍ واحدٍ منسجم، وسعت بكلّ جدية وشفافية لتقديم أطروحة واقعية لإصلاح ما فسد على المستوى السياسي والاقتصادي والمعيشي، ومعالجة المشاكل الحيوية التي يعانيها المواطنون، وإن ابتعدت كلّ البعد عن الكيديّة وعن الحسابات الطائفيّة والمذهبيّة وتقاسم الحصص، وأن يكون عملها للبعيد كما للقريب، وللموالين كما للمعارضين.

فاللبنانيّون تواقون إلى مثل هذه الحكومة، وهم سيصبرون معها حتى تحقّق ما تريد، فهم واعون بأن ما يعانيه البلد لا يعالج بكبسة زر، بل هو يحتاج إلى زمن، وقد يكون طويلاً، والمهمّ فيه هو البدء.

ويبقى أن نقول كلمةً للمعارضة التي تشكَّلت أو التي قد تتشكَّل، ونحن نرى إيجابيَّة في وجود معارضة، فلا يُبنَى بلد بالموالاة، بل بالمعارضة أيضاً، ولكنَّنا نريد لها أن تأخذ بالاعتبار الظروف الصعبة التي يعانيها لبنان، بأن تراقب وتدقّق وتحاسب، وأن تقدّم البرنامج البديل، فلا يكون هدفها هو تسجيل النقاط أو وضع العصيّ في الدواليب أو التعطيل، وأن تُعطى الحكومة فرصة لتثبت مصداقيّتها.

 

الضّغط بعيداً من العنف

ونحن في الوقت نفسه، ندعو النّاس الذين يتواجدون في الساحات أو خارجها إلى أن لا ينسحبوا من مسؤوليّاتهم، وأن يواصلوا حضورهم وضغطهم الإيجابيّ، بعد أن أثبتوا أنهم بحضورهم يستطيعون أن يغيّروا الكثير، لكن مع التّحذير من أن يكونوا وقوداً للعبة العنف التي يريد البعض أن يجرّهم إليها، أو وقوداً لسياسات داخليّة أو خارجيّة وقفوا في مواجهتها.

ونتوقَّف هنا على وجه الخصوص عند ما جرى من أعمال عنف في منطقة البقاع، ونريد من كلّ قيادات المنطقة الواعية والحريصة على الأمن والسِّلم الأهليّ، أن لا تألو جهداً لمعالجة تداعيات هذه الأعمال والحؤول دون وقوعها، تجنّباً لفتنة قد يعمل لها أكثر من طرف.

 

أمام تطوّرات العراق

وأخيراً، نتوقَّف عند التطوّرات العراقية، لندعو القوى السياسية العراقية وكلّ القيادات في هذا البلد العزيز، إلى تعزيز وحدتهم، والخروج من أيّ حسابات خاصة أو طائفية أو مذهبية تهدّد هذه الوحدة، والعمل معاً لإخراج العراق من أزماته في الداخل، حيث يهدّده الفساد والهدر والتلاعب والتناقضات في ما بينها.

ومن هنا، فإنّنا ندعوهم إلى الإسراع في التوافق على رئيس جديد للحكومة، لتشكيل حكومة تكون أولى مهماتها الاستجابة للمطالب الشّعبية التي عبَّرت عنها التظاهرات المستمرّة منذ أكثر من شهر، وللمطالب الوطنيّة التي عبَّرت عنها تظاهرات اليوم، الرّافضة للوجود الأجنبي والفساد، ولإظهار موقف عراقيّ وطنيّ موحَّد إزاء كلّ ألوان الضغوط السياسيّة والابتزاز الاقتصاديّ والماليّ، الهادفة للتّأثير في حرية القرار العراقي وفي استعادة دوره العربي والإسلامي الفاعل.

Leave A Reply