الإسلام دين البرّ في العلاقة مع الآخر المختلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله تعالى في كتابه العزيز{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

ان الحديث عن تجربة الاسلام في السياسة هو موضع نقاش كبير اليوم في اوساط الفكر والسياسة والاجتماع عموما، وخاصة عند أولئك الذين يعلنون تخوفهم من حضور الإسلام السامي (بغضّ النظر عن منطلقاتهم)، ولكن هذا الموضوع يشكل حاجة من الملحّ أن يناقشها ويبحثها المسلمون أنفسهم، وفي داخلهم. خاصة من منظور التجربة المؤلمة؛ تجربة المسلمين السياسية المعاصرة بعنفها واقصائها وعزلها في بعض ظواهرها. فالحديث هو برسم المسلمين أنفسهم قبل ان يكون حديثاً تبريريا يستميت لإيجاد الادلة دفاعاً عن الاسلام أمام الآخرين. حيث المطلوب منهم أن يدرسوا جيداً كيف هم تعرّفوا عندما دخلوا في السياسة أو استلموا مواقع السلطة.

 

والمطروح اليوم وبشكل ملح قضايا كبرى. منها نظرة الإسلام إلى السلطة والدولة، والاقليات والحاكمية والوطن وغيرها، ولكن يبقى على رأسها موضوع العلاقة مع الآخر.

 

 يكثر الجدل هذه الأيام، في النوادي الثقافية وعبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، حول أسلوب تعامل الإسلام مع الآخر الذي يختلف معه في الدين عندما يحكم أو يملك سدة القرار. هل يقبل الآخر الذي نختلف معه. أم سيلغيه. ونحن لا نحتاج من هذا الأخير أن يقرأه في القرآن الكريم أو الأحاديث بل أن ينظر الى التجربة الاسلامية التي واكبها رسول الله فتعالوا نرى الى تجربة الرسول الاكرم الذي لنا فيه اسوة حسنة.  تجربته في بناء اول مجتمع تعايشي ومدني في ظل الاسلام. (ولو أن الأمر يحتمل غير التعايش لما ساير رسول الله أحداً ولكان أولى بأخذ مبادرة الالغاء خاصة ان المسلمين كانوا في حالة من القوة الصاعدة).

 

 وقد أثمرت هذه التجربة "وثيقة المدينة" التي وُضعت في القرن الأول الهجري، والتي يمكن اعتبارها مرجعاً ومقياساً عملياً وتطبيقيا حول أسلوب تعامل الإسلام مع الآخر.  فهي دستور الإسلام الأول. وهي ليست اجتهاداً قابلاً للأخذ والرد بل هي نص، فسنّة رسول الله كما هي قوله هي فعله وتقريره.

 وحكاية الوثيقة أنه وبعدما هاجر رسول الله(ص) من مكة إلى المدينة لتكون قاعدته في بناء الدولة. لم تكن المدينة آنذاك بلون ديني واحد، بل كان فيها عقائد وأديان مختلفة وقبائل متنوعة المسالك والعادات والتقاليد والقوانين والشرائع.

 

لقد ضم مجتمع المدينة المسلمين وأهل الكتاب وغالبيتهم من اليهود. وهناك العرب المشركون، والمسلمون من مهاجرين وأنصار يتوزعون إلى قبائل وأبرزهم الأوس والخزرج، وهما قبيلتان متناكفتان، عاشتا حروباً دامية استمرت لفترات طويلة، وكان للإسلام دوره في إخمادها. فكيف بنى رسول الله دولته من هذا الخليط، وكيف تعامل مع كل هذا التنوع، هل سعى إلى إلغائه…والى مصادرته والأخذ بمبدأ أنا ولا أحد؟

ما فعله الرسول(ص) يومها كان العكس تماماً. وأول الغيث كان الاعتراف بالموجودين جميعا ودعوتهم للتشاور وانشاء وثيقة تحكم العلاقات بينهم، وهكذا صار وصار اللقاء وحررت الوثيقة التي اشتملت على ثمانٍ وأربعين فقرة.

(وفي هذا اللقاء لا يُمكن أن نتطرق لكل تفاصيلها بقدر ما سنشير إلى عناوينها الأساسية.)

 

إذاً، تأسست الوثيقة بناء على تعاهد بين كل مكونات مجتمع المدينة ورضا من الجميع. وتميزت بالخصائص التالية:

اعتبرت الوثيقة أن كل من في يثرب من المسلمين وأهل الكتاب والذين لم ينتموا بعد إلى دين، وحتى المشركين. هم أمة واحدة. والمقصود بهذا التعبير أنهم أمة تجمعهم المواطنية، مواطنون من درجة واحدة، فالكل ينتمون إلى وطن واحد، لهم وعليهم حقوق، ولهم وعليهم واجبات ما داموا يتشاركون الارض الواحدة. وعليه انبثق من مبدأ التكافل الاجتماعي والتعاون على حل المشكلات التي تواجههم، بحيث يكونون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

ومن هنا ورد في الوثيقة: «أن أطراف الوثيقة عليهم النصر والعون والنصح والتناصح والبر من دون الإثم».

ومفهوم الامة الواحدة يؤدي تلقائيا الى ضمان المساواة التامة لمواطني دولة المدينة، والمشاركة الفاعلة في كل مجالات حياتها المختلفة استناداً إلى ما يسمى اليوم بمبدأ المواطنية الكاملة. ففي دستور المدينة جعل هذا الحق لجميع ساكنيها، في وقت لم يكن العالم بعد يعي مدلول هذه الكلمة، في ظل اعتماده التمييز بين الناس على اسس قبلية وطائفية ودينية.

 

اما بالنسبة للمعتقد، فتؤكد هذه الوثيقة على حق كل دين أو رأي أن يدعو إلى رأيه ولكن لا على مبدأ الإكراه، فالمبدأ الإسلامي أن "لا إكراه في الدين"، وضمان حرية كل معتقد ومذهب بممارسة شعائرهم وأديانهم وفكرهم. فلليهود دينهم وللمسيحيين دينهم وللمسلمين دينهم، ولأصحاب الآراء والأفكار والعادات تقاليدهم. كلٌّ له الحرية في التعبير عما يؤمن به. وهذا يعني ان يشعر الجميع بالأمان، فلا ظلم ولا اعتداء، حيث ذكرت الوثيقة أنه من خرج أمن ومن قعد أمن بالمدينة إلا من ظلم أو آثم. وأن الجار كالنفس غير مضار ولا أثم.

 

كذلك أخذت الوثيقة بعين الاعتبار ان يكون هناك مناخ وإطار يحتضن التعايش، لا ليكون تعايش الضرورة… أبدا بل ليكون انسانيا بامتياز، بعيدا عن الحقوق والواجبات فقط. لهذا أكد الرسول بناء العلاقة بين جميع مكونات المدينة على البر والتراحم والتواصل والتسامح، والتعاون صفاً واحداً، والدفاع عما يهدد المدينة ويقيها من أعدائها.  

 

وهناك نقطة مهمة في الوثيقة، ومثيرة للاهتمام، وتتعلق بمسؤولية المسلمين في الدفاع عن غير المسلمين عندما يتعرضون لأي اعتداء، اي يسعون للحفاظ على حياتهم ومبررات وجودهم، إذ ورد في الوثيقة: "من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم"، فهناك مسؤولية الدولة في الحفاظ على الجميع لكن تواكبها مسؤولية مجتمعية في أن يحفظ المسلمون من يختلفون معهم في الدين ماداموا لم يعلنوا حرباً ولا يسيؤوا الى نظام المجتمع.

 

والخلاصة ان مثل هذه البنود في الوثيقة ساهم ببناء مجتمع متماسك، قوي متراص، في مواجهة كل التحديات. وقدم المسلمون مع الآخرين تجربة رائدة في التعايش، لم يعكر صفوه سوى تآمر اليهود مع مشركي قريش وإثارتهم للمشاكل داخل المدينة. مما دفع رسول الله(ص) ومن معه لإخراجهم منها حفاظاً على أمنها. ولولا ما جرى لبقيت المدينة على عهدها في الأمان والاستقرار فهو لم يخرجهم لأنهم يهود ويختلف معهم في الدين ولكنه أخرجهم لأنهم ظلموا ونقضوا عهدهم مع رسول الله(ص) وتآمروا مع أعداء المسلمين عليهم بخلاف ما التزموا في عهدهم مع رسول الله(ص).

ولا بد في هذا المجال من ان نعرج على العهد الذي اقامه رسول الله مع نصارى نجران الذي يقول لهم فيه: "ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله(ص)، على أموالهم وملتهم وبِيَعهم. لا تغيير لأسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد، ولا منازل المسلمين. ".. لقد كان الإسلام آنذاك في موقع القوة… فهل فكّر أي مسلم أن يتلطىّ بأي عباءة، أو أن يستغل مركزاً، أو قرابة ليعتدي ويظلم أو يطغى؟ واليوم، أين رسول الله لينظر كيف ان النصارى والاقليات الدينية والمذهبية والعرقية تباد اليوم باسم الايمان، وباسم الاسلام، والإيمان والإسلام براء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف.   

 

أيها الأحبة، إن وثيقة المدينة لم تولد من فراغ، انما أساسها ما ورد من مبادئ في القرإن الكريم، ولهذا فإنها ليست آنية ومرتبطة بظروف تلك الفترة، انما لها بعد ديني في القرآن، بل هي احدى تطبيقات القرآن الكريم والوحي الالهي.

.. لا يختلف اثنان على ما ورد في القرآن من آيات تفيد التسامح والتعايش، فأول سورة من الكتاب تشدد على ان الله هو رب جميع ما في الكون، وليس رب فئة أو جماعة مذهب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وآخر سورة في القرآن تؤكد أن الله رب الناس ورب كل الكائنات {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.

 وينبهنا القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. و يعتبر أن الأديان حلقات متصلة تنطلق من منبع واحد، وتقف على أساس واحد وعلى أرض مشتركة واحدة تجمعها فهي ليست أدياناً منفصلة بل متصلة ولذلك جاء عيسى(ع) مصدقاً لما فيها وجاء رسول الله(ص) مصدقاً لما فيها، ومن هنا جاء قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

 

فلا بد من الإحسان والعدل مع الذين يختلفون معهم في الدين ماداموا مسالمين ولم يعلنوا حرباً عليهم. هذه الآيات وغيرها هي واضحة، والسؤال الذي تصعب الاجابة عنه: لماذا هذا البعد بين ما ورد في القرآن وبين التطبيق. ما الاسباب التي أدت وتؤدي الى هذا الجفاء بينهما وهذا الانقلاب مرات عديدة؟  

هذا هو السؤال. هذه هي القضية التي يجب على المسلمين الاجابة عنها. فلننته من منطق ان نبرر لنطمئن الآخرين ان الاسلام بريء وان القرآن لا يقبل وأن وأن… المهم ما دام الامر كذلك إذا لماذا لا نرى مضامين هذه الآيات مطبقا.

سؤال برسم المسلمين أنفسهم. ليقف كل في دائرته على مواطن الخلل التي أدت الى ما نحن عليه من تشويه ومصادرة وسرقة وخطف للاسلام، ووصّفوا ما شئتم فالمجال يتسع.

 

وللانصاف يجب ان نشير الى ان المسلمين تمكنوا في فترات من تاريخهم أن يظهروا أنموذجهم في التعايش والتواصل مع أصحاب الديانات الأخرى. وإذا كان هناك مراحل تعرض لها هذا التعايش لضرر، فلم يكن الدين هو السبب، بل الواقع السياسي أو المصالح الخاصة. وإذا توقفنا ملياً عند الفسيفساء الدينية التي نجدها في بلاد المسلمين، يتأكد لنا بما لا يدع مجالاً لأي شك ان الإسلام حفظ التنوع.

 

وفي العصر الحديث هذه تجربة الجمهورية الاسلامية مع من يسموا الاقليات باتت نموذجا ونحن لا نرى هناك اقليات في ظل الشعار الذي طرحه علي(ع) على الوالي مالك الأشتر عندما أرسله الى مصر فقال له: الناس صنفان، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق فأعظم من عفوك وصفحك مثل ما تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، وهي نتاج هذه المدرسة مدرسة الاسلام المتسامحة ومدرسة القرآن. وتحقيق هذا النموذج لا يتعلق بنظام عالمي، ولا بخشية من جمعيات حقوق الانسان وما الى ذلك من شعارات يرفعها العالم، انما الامر يتعلق بمبدأ اسلامي قرآني محمدي، لا يجيز لك أن تخضعه للتبديل والتأويل وكما الوثيقة لا يجيز لك الا ان تتعامل بالعدل والمساواة واعطاء الحقوق كاملة.

 

أيها الأحبة، كم نحتاج في هذه المرحلة لنستذكر كلاماً لعلي(ع) عندما مر على كنيسة مهجورة مع بعض أصحابه فقال بعضهم: «ما أكثر من أشرك ب الله في هذا المكان. فقال(ع):«ما أكثر من عبد الله في هذا المكان». هو نهج تفكير هي طريقة لفهم الاسلام من جديد. والحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي خير الزاد؛ زاد الدّنيا، وزاد الآخرة. ولبلوغ التقوى، علينا أن نعيش في هذه الأيام ذكرى انتقال الزهراء(ع) إلى رحاب ربها، بناءً على الرواية الَّتي ذكرت أنَّ وفاتها حلّت بعد خمسة وسبعين يوماً من ارتحال رسول الله(ص) إلى ربّه، وأن نعيش حزن علي(ع)، ومعه الحسن والحسين، وثلة من أصحابه، عندما وقف أمام جسدها الطاهر ودموعه تنهال من عينيه، قائلاً: "السَّلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسّريعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهَّد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستُنبِئُك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودِّعٍ، لا قالٍ ولا سئِم".

أيها الأحبَّة، إنَّ تعبيرنا عن الحبّ للزَّهراء(ع) والولاء لها، لا يقف عند حدود ذرف الدّموع ولطم الصّدور عند ذكرنا لها، ولا بإقامة المجالس لها، أو الاكتفاء باستعادة ما تعرَّضت له من ظلامات، رغم أهميّة كلّ ذلك، ولكن لا بدّ من أن نكون حيث كانت الزهراء في حبّها الخالص لله، أن نعبد الله كما عبدته، وأن نكون صادقين كما كانت، إذ وصفها رسول الله(ص) بأنها صدِّيقة شهيدة، تشهد على الناس بأعمالها، أن نكون كما كانت في جهادها وفي رساليَّتها وحبّها للعلم وقول الحقّ، وفي رفضها للانحراف والباطل، وفي حرصها على وحدة المسلمين، وأن لا تعبث بها أيادي الفتنة.

وبذلك نخلص للزهراء، ونبقيها حيَّة في السّلوك والعمل والمواقف، كما في المشاعر والأحاسيس، وبذلك نواجه ما تعرَّضت له، ونواجه كلّ التّحديات.

 

خطاب نتانياهو في الكونغرس

أقفل الأسبوع الماضي على عدّدٍ من قضايا؛ أولاً، عندما وقف رئيس وزراء العدو في الكونغرس؛ أحد مراكز القرار الأميركي، معلِّماً ومرشداً، ليحذِّر من الاتفاق المزمع عقده بين الإدارة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران، وليكيل الاتهامات لإيران بالإرهاب، وبأنها تشكّل خطراً على العالم.

إنَّنا في الوقت الَّذي نؤكّد أنَّ من يتحدَّث عن الإرهاب، لا بدّ من أن يكون منزّهاً عنه، نتساءل: كيف لكيان بُنِيَ على الإرهاب، وأسّس وجوده عليه، وهو يمارسه كلّ يوم، أن يتحدّث عن محاربة الإرهاب؟! فأيّ إرهاب أكبر من أن يقتلع شعباً من أرضه، ويسعى إلى تهجيره، وحتى إذا أمكن إبادته!

إنَّنا نرى في ما حصل إساءة في الشّكل إلى موقع أميركا، ولكن علينا التَّدقيق في المضمون، حيث أُريد لهذا الخطاب أن يظهر كيان العدو بثوب المظلوميَّة، وكأنّه المستهدف من جيرانه! وهو الَّذي يمتلك سلاحاً نوويَّاً، وأكبر ترسانة من الأسلحة الحديثة في المنطقة، كما أنَّ علاقته الأمنيَّة والاستراتيجيَّة بالولايات المتحدة الأميركية، تكاد تكون الثّابت الوحيد في سياسة أميركا في المنطقة، فلا تُتخذ قرارات، ولا تُعقد اتفاقات، إلا بعد الأخذ برأيه، والنظر بعين الاعتبار إلى مصالحه.

إننا نريد للشَّعب الأميركي ولشعوب المنطقة والعالم، أن لا تنطلي عليها هذه الخدع، حتى لا يظهر كيان العدو أنه الحريص على السّلم العالمي، وهو الذي يمثّل أكبر تهديد لهذا السلم في المنطقة والعالم.

وانطلاقاً من هذا الخطاب، فإنَّنا ندعو الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى وعي مخاطر هذا الكيان، الَّذي يسعى جاهداً للّعب على وتر الخلافات فيما بينها، ووضع إسفين في العلاقات الإسلامية ــ الإسلامية.

 

فلسطين

ثانياً، لقد صدر مؤخّراً عن السّلطة الفلسطينيّة موقف لافت، برفض التنسيق الأمنيّ مع العدو؛ وهو قرار كنا ننتظره بعدما أمعن هذا العدو بممارساته العدوانية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، واستمرار حصاره لغزة. إننا نأمل أن يكون هذا القرار ثابتاً، وأن ينطلق من عمق الإحساس بخطورة هذا الكيان وسعيه الدائم لضرب وحدة الفلسطينيين.. وهنا، نشدّد على وحدة الموقف الفلسطينيّ ضمن خيار المقاومة.

وفي هذا الإطار، فإنّنا نستغرب أن تصدر بعض القرارات الَّتي تضع حماس في خانة الإرهاب في هذه المرحلة، وهي الَّتي قدَّمت مئات الشهداء في مواجهة العدو، ولحساب حرية الشّعب الفلسطينيّ وقضيّته.

 

العالم العربي والإسلامي

ثالثاً، يشهد العالم العربيّ والإسلاميّ حركة لقاءات بين العديد من دوله، ونحن نؤكّد تعزيز العلاقات فيما بينها، بما يخدم قضاياها، ولكنّنا نخشى من توجّهات في المنطقة، قد تزيد الانقسام والتوتر، وذلك في ضوء ما نسمعه من حديث عن سعي لإنشاء محور سني، مقابل آخر شيعي، أو محور عربي، مقابل محور فارسي.

إننا أمام خطورة هذا الحديث، ومن يدخل على خطّه، نعيد الدّعوة إلى الحوار، لأنه السّبيل لحلّ المشكلة في المنطقة، فلا جدوى من العداء، أو الصراع، أو التقاتل المباشر أو غير المباشر، تحت عناوين مذهبيَّة أو قوميَّة، لأنَّ ذلك لن ينتج إلا المزيد من الدّماء والدمار، وسيؤدي إلى تقسيم المنطقة وإفقارها، وجعلها أسيرة الفتن، وسيثير شهيَّة أعداء هذه الأمّة للانقضاض عليها.

 

لبنان

ونأتي إلى لبنان، لنعلن عن شعورنا بالارتياح لاستمرار الحوار بين تيار المستقبل وحزب الله، ولنأمل بحوارات أخرى، كما نقدّر نجاح القوى السياسية في الحكومة، بتجاوز نقطة الخلاف حول كيفية اتخاذ القرارات، بعدما شعر الجميع بخطورة بقاء هذا البلد بدون حكومة تسيّر أمور الناس وأمور الدولة.

إنَّنا نأمل أن يكون قرار عودة الجلسات نهائياً، ريثما يتم انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت، ولا سيّما في هذه المرحلة، حيث تزداد المخاوف من الساعين للفتنة، كما حصل أخيراً في عكار، ومما يدبّر لهذا البلد، ونعيد التأكيد أنه لا يمكن أن نواجه تحديات الداخل، إلا بتعزيز مناخات الوحدة، وتسيير عجلة مؤسّسات الدولة، ومدّ يد العون للجيش اللبناني وقواه الأمنية.

 

ذكرى مجزرة بئر العبد

وفي هذا الأيام، نلتقي بذكرى مجزرة بئر العبد؛ التي أُريد من خلالها إطفاء الجذوة الإسلاميَّة، من خلال اغتيال الشَّخصية الرمز؛ الشخصيَّة الحوارية المنفتحة التي عملت على تقديم صورة الإسلام المنفتح على العصر وعلى الحياة، حيث أُريد لهذا الصّوت؛ صوت سماحة السيّد، رضوان الله عليه، أن لا يرتفع في السّاحة، لتخلو هذه السّاحة لأصوات الفتنة والقتل والعدوان.

وعندما نستذكر هذه المجزرة، علينا أن نتذكّر منابع هذا الإرهاب الاستكباريّ، الَّذي لا يتوانى عن قتل العشرات وإصابة المئات، في سبيل التخلّص من شخص واحد، لنعرف أنَّ ما نعانيه من إرهاب، إنما انطلق من القوى الاستكبارية، ويجب أن لا تنطلي علينا كلماتها المعسولة، وخدعها المعروفة في العمل للتخلّص من الإرهاب الذي هو صنيعتها سابقاً ولاحقاً.

 

عيد المعلّم

وأخيراً، ونحن على مقربة من عيد المعلّم، نحيّي المعلّمين في يومهم، ونبارك لهم عطاءهم، ويكفي في تكريمهم أنَّ رسول الله(ص) قال: "إنما بُعِثتُ معلّماً". وهنا، ندعو إلى إنصاف المعلّمين مادياً ومعنوياً، وعلى كلّ المستويات، ليؤدّوا دورهم كاملاً بما يخدم قوَّة الأوطان؛ فقوَّة الأوطان بعلمها ومعلِّميها.

 

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 15 جمادي الأولى 1436هـ الموافق : 6 اذار 2015م

 

Leave A Reply