الإمام الرضا(ع) مبدأ العطاء وكرامة الإنسان

السيد علي محمد حسين فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم…

مرت علينا في الحادي عشر من هذا الشهر، شهر ذي القعدة الحرام ذكرى ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع).

هذا الإمام هو ممن أشار إليهم القرآن الكريم بأنهم أئمة يهدون بأمر الله واستجابوا لما أوصى به إليهم من فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا عابدين لله خاضعين لإرادته..

وهذا ما عبر عنه اللقب الذي صاحبه واقترن باسمه، فلا يذكر إلا معه اسم الرضا.. فقد أرضى هذا الإمام الله بالعبادة والطاعة..

وامتلك قلوب الناس حتى الذين لم يلتزموا بإمامته، وكانوا يختلفون معه في الدين بمحبته لهم وبحسن خلقه وتواضعه معهم..

وفي ذلك، ذكر إبراهيم بن العباس في حديثه عنه: “ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا(ع)، وشاهدت منه ما لم أشاهده من أحد، ما رأيته جفا أحداً بكلام قط، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردَّ أحداً عن حاجة قدر عليها، وكان دائم التبسم يبادل السيئة بالحسنة، وكان إذا خلا ونصبت الموائد أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس”.. وعندما كان يقال له: لماذا لا تفرد لهؤلاء مائدة خاصة.. كان يقول: “إنَّ الرب تبارك وتعالى واحد، والأب واحد والأم واحدة، والجزاء بالأعمال”..

وقد ورد عن ابن الضحاك وهو من أرسله المأمون لاصطحاب الرضا(ع) من المدينة المنورة إلى خراسان، وكانت آنذاك مركز الخلاقة العباسية، لينصب ولياً للعهد: “والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشد خوفاً لله عز وجل، وكان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في أمور ويستنصحوه لدنياهم، فيجيب حتى الصغير منهم بكل محبة وتواضع، فلما وردت به على الخليفة العباسي المأمون سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدته منه في ليله ونهاره، فقال المأمون: “أما علمت أن هذا هو خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم”.

ونحن اليوم في ذكرى الولادة المباركة لهذا الإمام(ع)، نستعيد قبساً من سيرته لنستهدي بها والتي أشار إليها أحد أصحابه وهو اليسع بن حمزة، فقال: “كنت في مجلس أبي الحسن الرضا(ع) أحدّثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن أمور دينهم، إذ دخل عليه رجل غريب، فسلم على الإمام وقال: افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به بلدي، فأسألك يا ابن رسول الله أن تعينني على ذلك، وسأتصدق بالذي توليني إياه عنك عندما أصل إلى بلدي، فأنا لست بموضع الصدقة هناك فأنا غني فيه ولدي مال يكفيني، فقال له الإمام(ع): اجلس حتى يتفرق الناس، وبعد أن فرغ المجلس إلا من أصحابه الذين كانوا يداومون في مجلسه دخل إلى حجرته وأتى بصرة فيها بمبلغ من المال وكانت أزيد مما يحتاج إليه هذا السائل وأعطاه إياها من وراء الباب، وقال له: استعن بها في مؤونتك ونفقتك وتبرّك بها، ولا تتصدّق بها عنّي.. هنا استغرب أحد أصحاب الإمام من أسلوب الإمام في إعطاء هذا الرجل الصرة من وراء الباب ومن دون أن يريه وجهه.. فإخفاء الوجه عن السائل قد يكون طبيعياً لو كان المبلغ قليلاً استحياء منه، ولكن المبلغ لم يكن كذلك فسأل الإمام(ع) عن سبب ذلك فأجابه الإمام(ع) مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه”..

أيها الأحبة:

لقد جاء هذا الشعور الإنساني من الإمام الرضا(ع) تجاه هذا السائل تعبيراً عن المنهج الإسلامي الذي يدعو إلى حفظ كرامة الإنسان وعدم تعريضها للإهانة من أي كان، واعتبر الدفاع عن الكرامة واجباً دينياً ودعا إلى حفظ كرامة الآخرين أياً كان جنسهم أو لونهم أو موقعهم الاجتماعي أو طائفتهم أو مذهبهم أو آراؤهم..

فلم يجز للإنسان أن يهدر كرامة الآخرين بأن يسخر منهم أو أن يحتقرهم أو يهينهم أو أن ينعته بألقاب تسيء إليه أو أن يفضح عيوبه خلال غيابه، وحتى رفض الإساءة للآخرين بفكره بأن يظن السوء بهم..

وهو أبطل ثواب الصدقة وآثارها إن أساءت إلى كرامة من تقدم له أو تسببت له إهانة..

إننا أحوج ما نكون إلى تعزيز الإحساس بالكرامة في هذه الحياة، أن نعززها في أنفسنا وفي الآخرين ونراها أغلى ما عندنا، فندافع عنها ولا نسمح لأحد أن ينتقص منها أو أن يساومنا عليها مقابل مال أو موقع أو أمن، فلا شيء يمكن أن يعوض فقداننا لكرامتنا..

وبذلك نعبر عن إنسانيتنا، فلا إنسانية بلا كرامة، فالله قرن الإنسانية فيها عندما قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.. وبذلك نعبر عن إيماننا فالله فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه.. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}..

وبالكرامة تبنى المجتمعات وتحفظ الأوطان وتصان، فهي لا تبنى بالذين يقبلون الإهانة ويرضون بما يفرض عليهم ويخضعون للآخرين لقاء ما يقدمونهم لهم.. وبها يتحقق إرادة الله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}..

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أشار الإمام الرضا(ع) إلى أحد أصحابه حين سأله عن خيار الناس، قال: “خيار العباد الّذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أُغضبوا غفروا”..

فخيار العباد في منطق الإمام(ع) هم الذين يفرحون عندما يبذلون الخير ويسارعون إلى التوبة والاعتذار إلى الله عندما يُخطئون ويشكرون عندما يعطون ويصبرون عندما تواجههم المحن والبلاءات والشدائد وإذا تعرضوا للإساءة يعفون ويتجاوزون..

هؤلاء هم خيار الناس وبهم يبنى المجتمع ويصبح أقوى وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان الذي لا يزال الهاجس المعيشي والحياتي يتصدر اهتمامات اللبنانيين حتى أنه غيّب عنهم هاجس فيروس كورونا رغم خطورته واستمرار عدّاد الإصابات فيه، والتي نخشى أن تتفاقم بعد فتح المطار وقدوم الوافدين من الخارج إن لم يتم التقيد بإجراءات الوقاية بكل دقة..

في هذا الجو يستمر في هذا البلد ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء حتى لامس العشرة آلاف ليرة وأسعار السلع والمواد الغذائية ومس أخيراً الخبز لقمة عيش الفقراء وسعر بطاقات السفر التي لن تسمح بعودة اللبنانيين إلى بلدهم أو زيارة أهلهم معه فضلاً عن عودة السياحة إلى لبنان..

ويضاف إلى ذلك زيادة ساعات التقنين وحتى التبشير بالعتمة في الأيام القادمة لعدم توفر مادة الفيول والمازوت..

إننا أمام كل ما يجري نعيد دعوة الحكومة التي أخذت على عاتقها معالجة أزمات البلد إلى أن تخرج من ترددها وتأخذ كل الخيارات التي توقف انهيار البلد، بعد أن أصبح واضحاً أن تقاعس هذه الحكومة عن أداء دورها بدأ يترك تداعياته على تماسكها وعلى ثقة القوى السياسية التي دعمتها وعلى الشارع الذي راهن عليها لتلبية مطالبه..

لقد كنا ولا نزال نقول أن مبرر وجود هذه الحكومة وأية حكومة هو مدى قدرتها على تأمين احتياجات الناس وقدرتها على صيانة البلد من الأخطار التي يتعرض لها.. وقد بات الخطر الاقتصادي يتصدر هذه الأخطار، ولا عذر للحكومة لعدم قيامها بمسؤوليتها بوضع اللوم على الداخل والخارج، فهي مسؤولة ما دامت قد تحملت المسؤولية ولا تزال، وإلا عليها أن تغادر..

إننا نعي جيداً حجم الضغوط التي تواجه هذه الحكومة من الداخل الذي لا يريد لها النجاح ويسعى لإفشالها ومن الخارج الذي يمارس ضغوطه ويملي شروطه عليها، ولكن هذا لا يعفي الحكومة من أخذ الخيارات التي تستطيع بها تجاوز ضغوط الخارج، وتتوقى ما تواجهه من الداخل.. وهي تملك القدرة على ذلك، إن قررت خوض معركة الإصلاح الإداري والمالي والنقدي واستعادة الأموال المنهوبة والنهوض الاقتصادي وحسن إدارة أموال الدولة، فهناك في هذا العالم من ينتظر جدية هذه الحكومة في القيام بالإصلاحات لتساعد على التخفيف من أزماتها إن لم تحلها، وقد أعلن ذلك..

ويكفيها في الداخل ثقة المواطنين الذين سيؤازرونها ويقفون معها ويصبرون إن رأوها تلبي طموحاتهم وما خرجوا لأجله إلى الشارع في السابع عشر من تشرين..

إن على الحكومة أن لا تراهن كثيراً على أن لا بديل عنها، لأن هذا الخيار سوف يسقط سريعاً بازدياد معاناة الناس، وبلوغهم الجوع الذي يبشرون به وبمن يترصدونها..

في هذا الوقت، لا بد من التنبه جيداً إلى كل الأصوات الخارجية التي تسعى لإثارة الفتنة داخل البلد، وتأليب اللبنانيين بعضهم على بعض ودفع البلد إلى مزيد من الانقسام، من خلال الإشارة إلى تحميل فريق بعينه مسؤولية كل المعاناة التي يعاني اللبنانيون منها، في الوقت الذي يعي فيه الجميع أن السبب في ذلك يعود إلى فساد الطبقة السياسية التي حكمت البلد، وإلى الضغوط التي يمارسها الخارج عليه..

وفي هذا الإطار تأتي الإشارات الأخيرة التي أطلقها العدو في إعطاء تراخيص لبعض الشركات بالتنقيب عن النفط والغاز في محاذاة البلوكات اللبنانية وهي مدعاة لكثير من الحذر واليقظة والتنبّه إلى الرسائل التي تحملها والتي تضاف إلى رسائله التهديدية الأخيرة بتدمير لبنان. وبالتالي فإننا ننوه بالموقف اللبناني الموحد الرافض للتفريط بالسيادة والحقوق والثروات اللبنانية النفطية والغازية وغيرها، وندعو إلى تعزيز الوحدة الوطنية التي هي السلاح الرئيسي في مواجهة مطامع العدو، وإلى استنفار عناصر القوة التي يمتلكها هذا البلد والتي تمنع الإقدام على أية مغامرة محسوبة..

وفي جانب آخر، بدأ العدو الصهيوني يعد العدة لتنفيذ قراره بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، وفي هذا المجال، إننا نؤكد على كل الشعوب العربية والإسلامية ودولها بالوقوف مع الشعب الفلسطيني بكل الوسائل لتعزيز صموده، الذي يبقى له الدور الأساس في مواجهة هذا المشروع، ونحن على ثقة أن مشهد الوحدة التي بدأنا نراها لدى الشعب الفلسطيني ستفوت الفرصة على هذا العدو في إنجاز مشروعه.

وأخيراً إننا نلتقي غداً بالذكرى العاشرة لرحيل المرجع السيد فضل الله(رض).. هذه الذكرى التي تعيدنا إلى كل التاريخ الذي عشناه معه وبين يديه.. حيث نعمنا بفكره وروحانيته ومحبته التي دخلت إلى كل القلوب وحرصه على قوة هذه الأمة وحيويتها ووحدتها وانفتاحها على بعضها البعض، رغم الاختلافات والتنوعات في الفكر والسياسة..

لكننا رغم غيابه الثقيل علينا نشعر بالأمل بأن فكره يتجذر ومنهجه يمتد وأن الجيل الرسالي الذي ساهم في إيجاده بدأ يعطي الأمة وعياً وحياة وحيوية وحضوراً في كل الميادين، وأن المؤسسات التي بناها لتخدم الفقراء والأيتام والفكر والوعي في لبنان وخارجه ستبقى تعطي وتتعزز رغم الصعوبات والتحديات وستستمر في العطاء.. وستبقى خطواته بوصلة يُهتدى بها في الظلام الذي يحيط بنا والتحديات التي تواجه حاضرنا ومستقبلنا.. فجزاه الله عنا وعن هذه الأمة كل خير..