الإمام الصّادق (ع): الحوار في مواجهة المخالفين

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]. صدق الله العظيم.

مرّت علينا في السابع عشر من ربيع الأوّل، ذكرى ولادة الإمام السادس من أهل هذا البيت الطاهر، وهو الإمام جعفر بن محمد الصّادق (ع).

هذا الإمام الذي عرف، ككلّ أئمة أهل البيت (ع)، بالعلم والحلم والعبادة وحسن الخلق وكثرة الصدقة والتواضع… وقد تميز هذا الإمام بنشر علوم أهل البيت (ع)، من خلال أحاديثه أو تلامذته الذين كانوا يتوافدون إليه من كلّ الأقطار والأمصار، حتى ارتبط مذهب أهل البيت (ع) به، ولذا يقال عنه المذهب الجعفريّ. وتميّز بتصدّيه للأفكار والتيارات التي أخذت آنذاك تنخر المجتمع الإسلامي، وتهدّد الإسلام في الصّميم، والتي واجهها بسعة علمه ومعرفته وانفتاحه ومحبته، واستعمل في ذلك أسلوب الحوار، فحاور المتصوّفة والزنادقة والملاحدة، وكلّ من كان يختلف معه في الرأي، فكان رائداً في ذلك، حتى سمي إمام الحوار.

ونحن اليوم سنستفيد من هذه المناسبة الكريمة، لنتوقّف عند نماذج من حواراته، والتي كانت مع من كانوا يشكّكون في وجود الله:

حواره (ع) مع ملحدين

النموذج الأوّل: وهو أنّ عبدالله الديصاني، وهو أحد كبار الملاحدة، سأل هشام بن الحكم، وهو من تلامذة الإمام الصّادق (ع): ألك ربّ؟ فقال: بلى. قال أقادر هو؟ قال: نعم، قادر قاهر. قال: يقدر أن يدخل ربك الدّنيا كلّها في البيضة، لا تكبر البيضة ولا تصغر الدّنيا؟ قال هشام: أنا لا أملك جواباً، فلو تمهلني حتى أجيبك. فقال له: قد أنظرتك حولاً. قال ذلك لثقته بعدم القدرة على الإجابة عن سؤاله.

فجاء هشام بن الحكم إلى أبي عبد الله (ع)، فقال له: يا بن رسول الله، أتاني رجل بمسألة، ليس المعوَّل في حلّها إلا عليك، وأخبره بالمسألة، فقال الإمام الصادق (ع): يا هشام، كم حواسّك؟ قال خمس. قال: أيّها أصغر؟ قال النّاظر، أي بؤبؤ العين. قال: وكم قدر النّاظر؟ قال: مثل العدسة أو أقلّ منها. فقال له: يا هشام، فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى عندما ترى. فقال: أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً، فقال له الإمام الصّادق (ع): “إنّ الذي قدر أن يدخل الّذي تراه العدسة أو أقلّ منها، قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة، لا تصغر الدّنيا ولا تكبر البيضة”.

والنموذج الثاني، نقله أيضاً هشام بن الحكم، حيث يقول: كان في مصر زنديق يجاهر بعدم وجود الله، فجاء إلى المدينة ليناظر الإمام الصّادق (ع)، ولمّا عرف الإمام سبب مجيئه، ابتدأه الإمام (ع)، وقال له: أتعلم يا هذا أنَّ للأرض تحتاً؟ قال نعم: قال: فدخلت تحتها (أي هل نزلت إلى أعماق الأرض حتى تعرف ما فيها)؟ قال: لا. قال (ع): فما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري، ولكن أظنّ أن ليس تحتها شيء. فقال له الإمام (ع): الظنّ عجز، لمَ لا تستيقن؟ ثم قال له (ع): أفصعدت إلى السماء؟ قال: لا. قال له الإمام (ع): أفتدري ما فيها؟ قال: لا، قال: أبلغت المشرق والمغرب؟ قال: لا، قال له الإمام الصادق (ع) عندها: “عجباً لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل أعماق الأرض، ولم تصعد السّماء… وأنت جاحد بما فيهن؟ وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟”

فقال الملحد: ما كلّمني بهذا أحد غيرك، فقال له الإمام: “فأنت من ذلك في شكّ؟!… يا هذا، ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل. يا أخا أهل مصر! تفهّم عنّي، فإنّا لا نشكّ في الله أبداً – لأنَّ لدينا ما يزيل هذا الشّكّ. أمّا كيف؟ فسأدلّك – أما ترى الشَّمس والقمر واللّيل والنّهار يلجان، فلا يشتبهان – ولا يضلّ أحدهما طريقه، ولا يدخل أيّ منهما في مجال الآخر، كلّ له حدوده وموقعه – ويرجعان… – يغيب كلّ منهما ويرجع في وقته المحدَّد، والله يقول: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}؟! -يا أخا أهل مصر، لم السّماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تسقط السّماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها (بعضها) ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟”

 قال الرجل عندئذٍ: أمسكهما الله ربهما وسيّدهما. ثم آمن على يد الإمام الصّادق (ع). فقال الإمام عندها لهشام: خذه إليك وعلّمه. فكان معلّم أهل الشّام وأهل مصر.

النموذج الأخير: عندما جاء الجعد بن درهم بقارورة، وجعل فيها تراباً وماءً، فاستحال دوداً وهواماً، فراح يدعي بين النّاس أني خلقت ذلك، فأنا سبب كونه، فصدّقه الناس.. فجاء بعض العلماء إلى الإمام يستعينون على هذا الرّجل، حتى لا يضلّ الناس به، فقال لهم (ع): قولوا له إن كان ما يقوله حقّاً، وهو خالقها، فليقل كم عددها، ثم كم من الذّكران والإناث، وكم وزن كلّ واحد فيها؟ وإذا كان قادراً على الخلق، فليخلق غير هذا. فأبلغوه ذلك، فلم يستطع عليه ردّاً.

الحاجة إلى لغة الحوار

أيّها الأحبّة، هذه بعض حوارات الإمام الصّادق (ع)، وقد رأيناه في كلّ حواراته هذه، لم يضق صدره بمحاوريه، ولم ينهرهم في كلامه، ولم يسئ إليهم، بل كان يستمع إليهم، ويحترم كرامتهم، ويجيب عن تساؤلاتهم، رغم فظاظتهم وقساوتهم معه وتجرّؤهم على ربّه وخالقه.

فكان اللَّيّن في حديثه، يردّ على الحجّة بالحجّة، والمنطق بالمنطق، ويقدّم الدّليل الذي يأخذ بالإنسان إلى الحقيقة والطّمأنينة، وقد شهد له من حاوره بهذه الإنسانيّة، فهذا ابن المقفّع، صاحب كتاب “كليلة ودمنة”، والذي كان ممن تأثّروا بالزندقة، يقول بعد حوار جرى بينه وبين الإمام الصّادق (ع): “ليس هناك من يستحقّ اسم الإنسانيّة كجعفر بن محمّد”. وعندما سأله أحدهم: لم اخترته من بين الناس؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أره عند غيره، من حسن المنطق، وحسن الأسلوب، وحسن الخلق.

في ذكرى الإمام الصّادق (ع)، نحن أحوج ما نكون إلى الأخذ بلغة الحوار؛ أن يكون هو ما نستهديه في إيصال أفكارنا، وفي التّعامل مع من نختلف معهم. فالحوار إن لم يؤدّ إلى اقتناع الآخر، ويوصل إلى إزالة الاختلاف، فعلى الأقلّ يؤدّي إلى أن يفهم المتحاورون بعضهم بعضاً، ويزيل ما قد يكون علق لديهم من تصوّرات مغلوطة ومسيئة، وهو يبرّد القلوب، ويزيل الهواجس والأوهام الّتي عادةً ما ينتجها البعد وعدم اللّقاء، ويؤمّن فرص التّعايش بين المكوّنات المختلفة دينيّاً ومذهبيّاً وفكريّاً وسياسيّاً.

فلتكن ذكرى ولادة الإمام الصّادق (ع) فرصةً لنعيد النّظر في المنطق الّذي يحكم واقعنا؛ حين استبدلنا بمنطق الحوار منطق الاستفزاز، وتسجيل النقاط الذي لا ينتج شيئاً سوى المزيد من التوتّرات والانفعالات، وبذلك نكون ممن استجابوا لله عندما قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النّحل: 125].

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام الصادق (ع) حين قال: “إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها، فأكثر من الحمد والشّكر لله. قال الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، فإنّ الله عزّ وجلّ قال في كتابه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} يعني في الدنيا {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ}يعني في الآخرة. يا سفيان، إذا حزنك أمر، فأكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة”.

فلنعمل بهذه الوصايا التي بها نعزّز علاقاتنا بالله تعالى، ونحظى بعفوه وغفرانه وتأييده وتسديده، ونبلغ رضوانه، ونصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

خطر الكورونا

والبداية من لبنان، الذي تزداد فيه أعداد الإصابات بوباء الكورونا بشكل خطير، بحيث أوشكت المستشفيات على أن لا تكون قادرة على استقبال المزيد من الحالات، وهذا يستدعي من الدّولة القيام بمسؤوليّتها لمواجهة هذا الوباء، بالتشدّد في الرّقابة على المواطنين للالتزام التامّ بسبل الوقاية، ومساعدة المستشفيات للقيام بالدّور المطلوب منها لتأمين سبل العلاج.

وفي الوقت نفسه، نجدّد دعوة المواطنين إلى ضرورة التقيّد التامّ بالإجراءات الوقائيّة؛ من لبس الكمّامة والتباعد الآمن، وعدم التهاون بها، كونها السبيل الوحيد لمواجهة هذا الوباء، بعدما أصبح واضحاً أن لا قدرة لهم على تحمّل إجراءات الإقفال التامّ، وحتى الاقفال الجزئيّ، وإن كنا نخشى أن نصل إليه.

إنّنا نقول للّبنانيّين، إنّ قرار مواجهة هذا الوباء بيدكم أوّلاً وآخراً، اصبروا قليلاً على مزاجكم وعاداتكم وما ألفتموه في سابق أيّامكم لترتاحوا طويلاً.

عقبات أمام التّأليف

أمّا على صعيد تشكيل الحكومة، فلا يزال التّباطؤ يطبع مسار تأليفها، وكأنّ البلد بألف خير، وكأنّ اللّبنانيّين يستطيعون الانتظار طويلاً.

ومن هنا، فإنّنا ندعو القوى السياسيّة المعنيّة بتأليف الحكومة، إلى تحمّل مسؤوليّاتها تجاه الناس الذين أودعوهم مواقعهم وحمّلوهم مسؤوليّتهم، بأن يخرجوا من أنانياتهم وحساباتهم الخاصّة ومصالحهم الفئوية والطائفية، وأن يبادروا لإزالة كلّ العقبات التي لا تزال تعترض تأليف حكومة كفوءة نزيهة قادرة على التعامل مع كلّ الملفّات المطروحة بكلّ مسؤوليّة.

إنّ على القوى أن تعي أنّ الشّعب لن يرحم استهتارها بمصالحه ومستقبله ومستقبل أبنائه، ولن يقبل مجدَّداً بأن يذلّ ويهان حتى يحصل على حاجاته الأساسيّة والضروريّة.

إنّ الشعب لا يستجدي عندما يطالب بحقوقه، ولا يُمَنّ عليه بها، بل من واجب من يتحمّلون المسؤوليّة أن يؤمّنوا له ذلك.

إنّ من المعيب أن يكون في البلد من لا يزال يربط مصيره ومصير أبنائه بما يجري من استحقاقات في الخارج، أو بلوغ موقع ما، أو يُقيّد موقفه بهذا الشّرط أو ذاك، أو للكيد من هذا الفريق أو ذاك، في وقت يرى أمامه بلداً ينهار وتتداعى أركانه وقواعده.

التّدقيق الجنائيّ.. والطّحين!

وفي مجال التّدقيق الجنائيّ الذي كان أقرّ سابقاً في مجلس الوزراء، وكلّفت إحدى الشّركات بالقيام به، والذي استبشر اللّبنانيّون بالبدء بتنفيذه، ورأوا فيه البداية للإصلاح ولاسترداد الأموال المنهوبة، ومعرفة أين ذهبت أموال المودعين، فإنّ اللّبنانيّين يتساءلون عن السبب فيما يجري الحديث عنه من وجود عراقيل أمام الشركة تمنعها من أداء دورها. ومن هنا، فإنّنا ندعو إلى أن تتمّ المسارعة إلى إزالة كلّ العوائق القانونيّة وغير القانونيّة التي نراها ذريعةً لعدم متابعة هذا التّدقيق، ونعتقد أن الطريق مفتوح لإزالة هذه العوائق إن خلصت النيّات.

ونقف عند قضيّة الطّحين الذي اكتشف وجوده في مخازن لا تتوفّر فيها أدنى الشّروط الصحيّة، والتي شكّلت إساءة إلى الدولة اللبنانيّة تجاه دولة شقيقة قدَّمت هذه الهبة لصالح اللّبنانيّين، وكشفت عن مدى الإهمال الّذي تعانيه واحدة من إدارات الدّولة، وعن مدى التفريط بمصالح المواطنين، حيث كان ينبغي لهذه الهبة أن توزَّع عليهم، لا أن توضع في المستودعات.

إنّنا ندعو القضاء إلى التحرّك، وأن يضع يده على هذه القضيّة من أجل الكشف عن كلّ ملابساتها، ومحاسبة المسؤولين عنها مهما كانت مواقعهم، حتى لا تتكرَّر مثل هذه الكوارث في مواقع أو وزارات أخرى.

صمود وبطولة

وأخيراً، نشعر بالاعتزاز بالصّمود والصّبر والثّبات بالموقف الذي جسّده الأسير الفلسطيني ماهر الأخرس، والذي أثبت أنّه اللّسان الناطق في هذه الأمّة… إننا نحيّي هذا الصمود وهذا الموقف الصّلب في مواجهة العدوّ الصّهيوني وظلمه وغطرسته، ونأمل أن تصل رسالته إلى الشّعوب العربيّة والإسلاميّة وكلّ أحرار العالم، للعمل لفكّ الطوق، ليس عن جسد ماهر الأخرس فحسب، بل عن شعب بأكمله يتفرّج العالم على ظلامته، ولا يتقدّم خطوة واحدة لنصرته والدّفاع عنه.