الاخوّة الإيمانية

السيد علي محمد حسين فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} صدق الله العظيم.

تتنوع الأطر والروابط التي ينضوي تحتها المؤمنون فهناك الإطار العائلي والعشائري والوطني والقومي والعرقي وغير ذلك من الأطر، وقد احترم الإسلام كل هذه الأطر، ودعا إلى تعزيزها وتفعيلها عندما دعا إلى صلة الرحم واكد حب الإنسان لوطنه ولقومه ومجتمعه.

ولكن رغم أهمية هذه الأطر وحاجة الإنسان إليها في تأمين معيشته والقيام بشؤونه وتيسير سبل حياته، يبقى الإطار الأسمى هو الذي دعا الله إليه وجعله فرضاً وواجباً على المؤمنين، وهو الإطار الإيماني، عندما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}..

وقد ورد في الحديث: “لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا.. “اتقوا الله وكونوا إخوة بررة متحابين في الله، متواصلين”.. وورد: “المسلم أخو المسلم أَحَبَّ أم كره”.. “المسلم أخو المسلم”.. لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ولا يحقره.

وقد اعتبرها الله نعمة أنعم الله بها على المؤمنين.. وقد أشار الحديث الوارد عن الإمام الصادق(ع) إنكار هذه الأخوة واستبدالها بكلمة عدو عندما تحدث هناك خلافات أو نزاعات أو توترات فيما بين المؤمنين: “”من قال لأخيه المؤمن أنت عدو فقد كفر: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.. وقال لرسوله(ص): {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}..

وهذه الرابطة الإيمانية لم يرد لها الإسلام أن تقف عند حدود المشاعر والأحاسيس والعواطف، بل تتعدى ذلك إلى الحقوق والواجبات، فالمؤمن له حقوق وعليه واجبات تجاه أخيه المؤمن ومن واجبه القيام بالواجبات الملقاة على أخيه المؤن وأداء الحقوق التي له عليه.. ففي الحديث للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله هز وجل عليه:

الأول: أن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكرهه لنفسك.. فلا يكون المؤمن مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه..

والثاني: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويديك ورجليك..

“الله الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه”..

والثالث: أن تتبع رضاه، وتجتنب سخطه، وتطيع أمره.

والرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والخامس: أن لا تشبع ويجوع، وتروى ويظمأ، وتكتسي ويعرى..

والسادس: أن تعينه ان لم يكن له معين في بيته واهله

والسابع: أن تبر قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مرضته، وتشهد جنازته، وإن كانت له حاجة (دين أو تفريج غم أو هم) تبادر مبادرة إلى قضائها، ولا تكلفه أن يسألك، فإذا فعلت ذلك، وصلت ولايتك لولايته، وولايته بولايتك.

وفي حديث آخر: ” للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة له من الله عز وجل، والله سائله عما صنع فيها: الإجلال له في عينه، والود له في صدره، والمواساة له في ماله، وأن يحب له ما يحب لنفسه، وأن يحرم غيبته، وأن يعوده في مرضه، ويشيع جنازته ولا يقول فيه بعد موته إلا خيراً”..

وقد عبر عن ذلك الإمام الصادق(ع) حين سأل أحد أصحابه كيف من خلفت من إخوانك؟ فأحسن الثناء وزكى وأطرى، فقال له: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة، قال: وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ قال: قليلة، قال: فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك لتذكر أخلاقا قل ما هي فيمن عندنا، قال(ع): فكيف تزعم هؤلاء أنهم شيعة (أخوة).

وهذا النموذج عبر عنه المسلمون عملياً فهم عندما هاجروا من مكة إلى المدينة، ولم يكن آنذاك بيد المهاجرين ما يستعينون به على شؤون حياتهم وسد حاجاتهم في المدينة، فآخى النبي(ص) بينهم وبين الأنصار وهم مسلمو المدينة.. وقد عبر هؤلاء عن هذه الأخوة بأن استقبلوهم وتقاسموا معهم الأموال والبيوت والأراضي وأثروهم على أنفسهم وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.

أيها الأحبة: إننا أحوج ما نكون إلى استعادة هذه القيمة التي نخشى أن نكون قد فقدناها بحيث باتت تغلب على واقعنا لغة المصالح والحسابات الخاصة على علاقة التباذل والتواصل والتعاون والتراحم، بحيث لم نعد نرى مظاهر لها في واقعنا.. ما أشار إليه الحديث الشريف: “مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.. وأرواحهم من روح واحدة”..

وحديث: “المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضه بعضاً”.. “إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد”..

إن تعزيز هذه العلاقة وتحويلها إلى سلوك عملي، هو صمام أمان من الفتن والتوترات التي قد تحدث داخل العائلة والعشيرة او الوطن والقومية وفي الأطر السياسية أو الاجتماعية، فمن يعيش الإخوة الإيمانية لا يمكن أن يعرف أنانية أو حقداً أو عداوة أو أن يسيء الظن بالمؤمنين الآخرين، أو ينطق بكلمة أو يتخذ موقفاً يسيء فيه إلى أعراض المؤمنين الآخرين أو كرامتهم أو حياتهم أو قوتهم أو أن يحدث شرخاً بينهم أو معهم.. “فالمؤمن لا يمكن أن يكون إلا أخا المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه”.

لقد استطاع رسول الله(ص) بهذا المجتمع المتكافل والمتعاون والتراحم، أن يبني مجتمعاً يشد بعضه بعضا ويقوي بعضه أزر بعض أمام التحديات التي واجهته وأن يحقق به الانتصارات وتبنى به حضارة لا يزال العالم يأخذ منها.

إننا في هذه المرحلة الصعبة أحوج ما نكون إلى أن نعمق هذه المعاني الكبيرة للأخوة ونعززها ونعبر عنها في سلوكنا وعلاقاتنا، وأن نقوم بواجباتها وحقوقها، وسنكون بذلك قادرين على أن نخرج من كل ما نعاني من أزمات وتوترات وصراعات قد تنشأ بفعل التنوعات التي نعيشها، ونكون بذلك فعلاً خير أمة أخرجت للناس.

وليكن دعاؤنا في هذا الطريق: اللهم اغفر لنا ولأخواتنا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا أنك رؤوف رحيم…

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال لرسوله(ص) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد}..

فقد دعانا الله سبحانه وتعالى من خلال رسوله(ص) أن لا نُخدع بالكلمات الرنانة ولا بالخطابات المنمقة، فهناك من الناس من يتقنون لغة الخطاب ويملكون بأساليبهم القدرة على التأثير على عقول الناس وعلى قلوبهم وعواطفهم واستجلابهم إليهم.. بل أن ندرس ما وراء الكلمات والخطابات وإلى ماذا يهدف هؤلاء على مستوى الأرض والعباد والبلاد، وماذا سيفعلون عندما يتملكون قلوب الناس وعقولهم ويصلون إلى مواقع القرار عندها..

إننا أحوج ما نكون إلى هذا الوعي بعدما أصبح الإعلام والتأثير على الناس علماً يدرس في الجامعات حتى نتقي من يريدون الإساءة ولنكون أقدر على مواجهة التحديات..

والبداية من لبنان الذي ازدادت فيه أعداد المصابين بجائحة كورونا، وقد بلغت الذروة في الأيام الماضية مما يدعو مجدداً إلى التذكير بضرورة التقيد التام بإجراءات الوقاية بلبس الكمامات ومراعاة التباعد.. وعدم التهاون بالالتزام بها.. فهذا هو الطريق الوحيد حتى الآن والأسلم لمواجهة التداعيات الخطيرة لهذه الجائحة وتفادي كل آثارها..

في هذا الوقت لم تتوقف معاناة اللبنانيين على الصعيد المعيشي حيث يستمر التقلب في سعر صرف الدولار في السوق السوداء من دون أية ضوابط، وارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية رغم الدعم الذي أعلنت عنه الحكومة للسلة الغذائية ولم يتم معالجة التقنين الحاد في الكهرباء واستمرار أزمة المحروقات ولا سيما المازوت، فيما تعود إلى الواجهة أزمة النفايات بكل تبعاتها..

وما يزيد في هذه المعاناة هو اضطرار العديد من المؤسسات إلى صرف موظفيها وعدم إعطائهم كامل رواتبهم لعدم قدرتها..

وهنا نأسف أن تكون المؤسسات التي نشرف عليها أن تكون من هذه المؤسسات بعدما كنا حريصين أن لا يمس بالعاملين في هذا الظرف العصيب، ونأمل أن تتحسن الظروف ليعودوا إلى عملهم.

ومن هنا نعيد دعوة الحكومة إلى تحمل مسؤوليتها وعدم توفير أي جهد للتخفيف من تفاقم الوضع المعيشي الذي يخشى إن استمر أن يهدد بانفجار شعبي لا يدري أحد إلى أين تصل عواقبه.. ولا يعني هذا التنكر لما تقوم به الحكومة من مبادرات داخلية أو مساعٍ لفتح أبواب الخارج للحصول على مساعدات، لكن هذا لم يعد كافياً لعلاج أزمات البلد المستعصية وفي ظل استمرار الضغوط الخارجية التي تعيقها من فتح أبواب متاحة لها ما يحتاج منها إلى جهد إضافي الأساس فيه القيام بخطوات جادة لمعالجة المشاكل الملحة على المواطنين وعدم التباطؤ والتردد بالقيام بالإصلاحات ومعالجة الخلل في واردات الدولة وإعادة ما نهب منها.. لإعادة ثقة المواطنين بها والتي بدونها لن يقفوا معها ولن يصبروا على ظروفها، والتي أصبح من الواضح أنها هي الطريق لمساعدة لبنان لمن يريد مساعدته..

إننا لن نهون من الصعوبات التي تواجه هذه الحكومة من الداخل والخارج، لكن هذا لا يدعو إلى البناء عليه لتبرير عدم قيامها بالخطوات المطلوبة، بل يدعوها إلى العمل الجاد والسريع..

فالحكومة لم تقم بما هو واجب عليها، وهذا ما عبر عنه واحد من أهلها ممن كان له دور في إدارة المال العام حيث قال وأمام مجلس الوزراء بأن الحكومة لم تأخذ بأية إجراءات تمنع من التدهور المالي أو من تحميل الخسائر للمواطنين والمس بودائعهم في الوقت الذي كان عليها العمل على تحميل المسؤولية لمن استفادوا من النظام المالي وأثروا على حساب الناس سواء من المصارف أو ممن كانوا يديرون البلد..

وفي هذا الوقت الذي يزداد الوضع الداخلي قتامة على مختلف الصعد، يستمر الجدل في هذا البلد حول قضايا من الواضح أنها تزيد من انقسامهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى العمل معاً لإخراج البلد مما يهدد كيانه ووجوده واستقراره.. إننا نقولها مجدداً لكل القوى السياسية والمرجعيات الدينية، أن الوقت ليس وقت طرح قضايا خلافية لن يصل طارحوها إلى نتيجة إلا زيادة الشرخ الداخلي، وإذا كان هناك من يرى ضرورة بحثها الآن، فلا ينبغي أن يكون على الهواء وعبر المنابر، بل في مواقع الحوار الموجودة أو التي يمكن أن توجد.. على أن يكون الحوار فيها موضوعياً هادئاً وبعيداً عن أجواء التشنج والتوتر والكيدية، ويأخذ بعين الاعتبار مصلحة هذا الوطن والحفاظ على مواقع القوة فيه..

من جهتنا فإننا ومن موقع إيماننا سوف نكون إلى جانب الحق ضد الباطل ومع العدل ضد الظلم ولن نكون حياديين في هذا العالم الذي تهيمن عليه قوى جشعة تسعى إلى أن تأكل كل ضعيف، وتسعى إلى الهيمنة لحسابها وعلى حساب الشعوب المستضعفة.. إننا في عالم لا يحترم فيه إلا الأقوياء ولا مكان فيه لمن يكون ضعيفاً أو يفرط بمواقع القوة..

وأخيراً استعدنا ونستعيد في هذه الأيام ذكرى العدوان الصهيوني على هذا البلد، والذي كان من الواضح أن أهدافه لم تكن للرد على عملية الأسر بل لقيام شرق أوسط جديد، ينطلق من هذا البلد، ولكن وحدة اللبنانيين ومقاومتهم فوتت الفرصة على صانعي هذا المشروع وحطمت جبروت العدو في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب وسهل الخيام ووادي الحجير وأظهرت لبنان قوياً قادراً على فرض قراراته ومواقفه..

ونحن في هذا المجال، نستذكر كل هذه الإنجازات لنؤكد مجدداً على ضرورة الحفاظ على مواقع القوة التي حققت انتصاراً وحمت البلد ممن أرادوا به شراً.. فالعدو لن يكف عن استهداف هذا البلد، ثأراً لهزيمته، وعلى الحريصين على هذا البلد أن لا يكفوا عن الاستعداد له..