الاستقامة.. خُلُق ونهج

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الاولى

عندما رجع بعض أصحاب رسول الله من سفرهم، فوجئوا بمقدار الشَّيب الّذي غطَّى رأسه، فقالوا: لقد أسرع إليك الشَّيب يا رسول الله، فأجابهم: "لقد شيّبتني سورة هود"، وهو يريد الآية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ…}[هود: 112]. فما هي المضامين الّتي انطوت عليها هذه الآية، حتّى جعلت رسول الله، وهو نبيّ مرسل، يتوقّف عندها، ويتأثّر بها إلى درجة أن تشيّبه من ثقلها وهمّها؟!

وإذا عرفنا أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله وهو في مكّة، وفي عام الحزن، العام الّذي توفّي فيه عمّه أبو طالب وزوجته خديجة، والعام الّذي واجه فيه أشدّ الصّعوبات من قريش، عندها ندرك أنَّ في الآية ما ينبئ بأنّ ما هو قادم سيحمل معه تحدّيات ومصاعب، وجاءت هذه الآية لتشدّ العزائم من أجل مواجهتها. وفي هذا إشارة واضحة إلى العلاقة بين التحدّيات والمصاعب والإغراءات والشّهوات والابتلاءات على أنواعها، وبين الاستقامة، فهي تتأثّر بها سلباً كما تتأثّر بها إيجاباً.

  لكن ما هي الاستقامة؟

معنى الاستقامة

باختصار، الاستقامة هي عكس الالتواء والاعوجاج. والاستقامة في أبسط معانيها، هي لزوم الطّريق السويّ والمستقيم والواضح، والخالي من أيّ انحراف وتلوّن ونفاق وازدواجيّة… هو الصّراط المستقيم الّذي أنعم الله به على عباده من غير المغضوب عليهم ولا الضالّين، من أجل أن يحيا النّاس حياةً أفضل في الدّنيا والآخرة.

والاستقامة خُلُق ونهج، ولطالما كان هذا الخُلُق هدف كلّ الأنبياء؛ أن يستقيم الإنسان مع نفسه، مع الله، والنّاس، وأن تستقيم أحوال النّاس بعضهم مع بعض، وأحوال دنياهم مع أحوال آخرتهم.

جاء أحدهم إلى رسول الله(ص) وسأله: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال الرّسول(ص): "قُلْ آمنتُ بالله ثم استقم". ماذا يعني هذا؟

يعني أنَّ إعلان الإيمان وحده لا يكفي، بل عليك أن تبرهن ذلك في الدّرب الّذي تسير عليه. هذا يعني ترجمة الإيمان إلى فعل، إلى التزامٍ ونهجٍ وطريقٍ في أيِّ ساحة من ساحات الحياة،  فالقضيَّة ليست أن تؤمن بقلبك، بل أن تؤمن بحركتك أيضاً.

البعض يفهم الاستقامة بالمحافظة على الأعمال التعبديَّة، لكنّ هذا وحده لا يشكّل استقامة، فقد تكون المسألة من قبيل: "لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم، وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ، وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ، وَلَكِنْ اُنظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ"، هذا هو المعيار، وبكلّ وضوح ودون مواربة، وليس هناك من حالات خاصّة أو استثنائيّة.

 فالإيمان الدّاخليّ هو حركة تنظّم علاقتك مع ربّك وعلاقتك مع من حولك، والنّاس لا يهمّهم من إيمانك إلا مدى ما يصل إليهم منه، من سلوكٍ ومعاملة فـ"الدّين المعاملة".. وتؤكّد التّعاليم والآداب الإسلاميّة هذا الربط مراراً وتكراراً: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق"، "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء"، "أحسن إلى النّاس يحسن الله إليك"، "لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ"، وغير ذلك الكثير من هذه الفضائل…

إذاً، أن تكون مؤمناً يعني أن تستقيم، وهذا يعني أن تكون عادلاً، منصفاً، نزيهاً، لا تغشّ، لا تكذب، لا تسرق، لا تغالي، لا تكره لا تمالئ، لا تحسد، لا تنمّ، لا تفتن… أن تستقيم في اليسر وفي العسر، في حال القوَّة وحال الضّعف، أن يستقيم قلبك ويدُك ولسانك وكلّ جوارحك.

أن تستقيم، يعني أن تستقيم نواياك ومقاصدك، فلا تكون بوجهيْن، أو لسانيْن، أو قلبين، أو موقفين أو مبدأين…

قد تبدو الاستقامة أمراً سهلاً في نظر الكثيرين، وخصوصاً عند من يُتقن السّير، أو فنّ تأجيل إيمانه لضمان استمرار مصالحه، أو اعتبار إيمانه جواز عبور يمكن أن تنتهي مدّته عند أيّ شهوة أو إغراء أو مطمع.

خيار والتزام

أيّها الأحبّة: الاستقامة خيار يختاره المرء بإرادته، وعليه دوماً أن يقيس هذه الاستقامة، وبدقَّة، أن يُراقب الدَّرب الّتي هو عليها، لعلَّها اعوجّت أو انحرفت أو (كوَّعت)، وعادةً ما يضطرُّ المرء إلى الاستعانة بمن يثق بهم ليساعدوه، والأهمّ في ذلك هو الاستعانة بالله، عندما يدعوه في كلّ صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، شرط أن يُطلق هذه الدّعوة من كلّ قلبه، لا من لسانه فقط، والله سيهديه.

الاستقامة، أيّها الأحبّة، هي بيد كلّ فرد؛ امرأةً كان أو رجلاً: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان: 3]، وعليه أن يدرك أنّ الطّريق ليس سهلاً، والسّير فيه يستلزم عدّةً، قوامها الصّبر، والتحمّل، والصّمود، والإخلاص، والوعي…

الاستقامة صبر على طاعة الله، وصبر عن المعصية والشّهوات المحرّمة، وصبر على البلاء والمواجهة والتحدّيات.

وخُلُق الاستقامة إذا ساد، فإنّه يضع الإنسان، فرداً ومجتمعات، على باب كلّ خير، يقول القرآن الكريم: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}[الجنّ: 16].

وإذا استقام الفرد، فكأنّه بنى لنفسه حصناً حصيناً، ويبشّره الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ? وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصّلت: 30- 31].

فالإنسان الّذي يعده الله أن يكون وليّه في الدّنيا والآخرة، ستكون سلّة حياته عامرةً بثمار السّكينة والاستقرار، وطمأنينة النّفس والقلب، والرّجاء الأكيد بالجنّة.

ثبات عند الشدّة

وقد تكون الاستقامة مطلوبةً على مستوى أمّة بحالها، عندما تتعرّض لنكسةٍ في مسيرتها، ما يمثّل اختباراً لثباتها واستقامتها، تماماً كما حدث مع المسلمين يوم أحد، عندما كادت شائعة قتل أحد المشركين لرسول الله تسقط الكثيرين، وتعود بإنجازات المسلمين إلى الوراء، وتشكّل هزيمةً ساحقةً لهم. يومها، راح البعض ممن يقاتلون مع النبيّ، بسبب خوفهم وضعف إيمانهم، يبحثون عمّن يتوسّط لهم عند أبي سفيان، قائد جيش المشركين، لترتيب أمورهم معه، فيما قلّة من المسلمين بقيت ثابتةً في مواقعها، لم يتراجعوا، ولم ينهزموا، وراحوا ينادون بالفارّين والمحبطين أن يرجعوا: "ويلكم، إلى أين تفرّون، ارجعوا لنصرة دينكم ودين ربّكم، فإن كان محمّد قد قتل، فإنّ ربّ محمّد باق، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله، وموتوا على ما مات عليه".

عندها نزل جبريل على رسول الله، ليبلّغ المسلمين جميعاً كيف يتعاملون مع مثل هذا الموقف، وكانت الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].

أيّها الأحبّة: الاستقامة هي الثّبات، هي عدم الانقلاب والمحافظة على المكتسبات الإيمانيّة كأمّة وكأفراد، وهي ما جهد رسول الله ليربّي النّاس عليها، وبقي كذلك حتّى آخر لحظةٍ من عمره الشّريف.

ونحن نعيش في هذه الأيّام، في الثّامن والعشرين من شهر صفر، ذكرى رحيله عن هذه الدّنيا.. ورسول الله لم يغادر الحياة حتّى قرّت عينه بثمار جهده الطّويل، وتعبه مع المسلمين ممن جاهد ونصر وعمل…

فرايات التّوحيد قد رجعت إلى الكعبة المشرَّفة، بعد أن حوَّلتها الجاهليّة إلى موقعٍ للشّرك ومركزٍ له، والنّاس الّذين كانوا يخشون الدّخول في رحاب الإيمان، راحوا يدخلون فيه بكلّ حريّة. فهل اكتفى رسول الله بهذا؟

 لا، بل كانت لديه مخاوف تنطلق من وقائع، ما جعله يخشى فعلاً على المستقبل الآتي، وقد عبّر عن ذلك عندما ذهب في مرضه لزيارة الشّهداء في البقيع، فقال لهم: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، والآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأولَى".

نعم، رسول الله كان يخشى التحدّيات الّتي قد تسبّب الفرقة والتّنازع والتّناحر. وللأسف، حصلت هذه الأمور فيما بعد مراراً وتكراراً، ومنها ما حصل تحت اسم رسول الله، ونحن اليوم نعيش الكثير من أمثلتها في الواقع.

 يومها، كانت صرخته المدوّية: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" "وَيْحَكُمْ، لاَ تَرْجِعنَّ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".

وكانت تحذيراته إلى كلّ من آمن به وأسلم: "يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُم، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ. أيّها النّاس، ليغشينّ أمّتي من بعدي فتن كقطع اللّيل المظلم، يصبح الرّجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوامٌ دينهم بعرض من الدّنيا قليل".

حزن المجاهدين

أيّها الأحبّة: في ذكرى وفاة رسول الله، نستعيد حزن عليّ وحزن فاطمة وحزن المسلمين جميعاً، وهم يودّعون خير خلق الله وسيّد البشريّة وخاتم النبيّين.

فليكن حزننا على رسول الله، حزن الّذين تفيض عيونهم دموعاً وقلوبهم شوقاً وعشقاً، وليكن حزننا حزن العاملين والمجاهدين، وحزن الثّابتين والمستقيمين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173]، هكذا نكون قد وفّينا الرّسول حقّه، ونكون قد حفظنا الوصيّة.

في هذه الذّكرى الأليمة، نتوجّه بقلوبنا إلى حيث مقام رسول الله، نعبّر له عن الولاء والعهد، ونشهد الله أنّنا آمنّا به قولاً وعملاً، ونبقى نصلّي عليه ونسلّم ونقول:

أشهد يا رسول الله أنّك أقمت الصّلاة، وآتيت الزّكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر حتّى أتاك اليقين، فجزاك الله عنّا وعن أمّتك خيراً كثيراً…

والسّلام عليك يوم ولدت، ويوم انتقلت إلى رحاب ربّك، ويوم تبعث حيّاً.

 والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بخير الزّاد، ألا إنَّ خير الزّاد التّقوى.. ومن التّقوى الأخذ بوصيّة رسول الله(ص) في وحدة المسلمين، حيث تذكر السّيرة النبويّة، أنّ رجلاً من اليهود مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله(ص) من الأوس والخزرج، فغاظه ما رأى من التئام شملهم واجتماعهم، بعد الّذي كان بينهم من عداوات وقتال، قبل أن يوحِّدهم الإسلام ويصبحوا بنعمته إخواناً.

وسرعان ما استعان هذا اليهوديّ بيهوديّ آخر، وطلب منه أن يجلس إليهم ويذكّرهم بيوم بُعاث، وما جرى فيه، وما قيل فيه من أشعار تحريضيّة، ويوم بُعاث هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظّفر فيه للأوس.

نفّذ الرّجل ما طُلب منه، فأوغر الصّدور مجدّداً بالحقد والعداوة، حتّى كادت كلا القبيلتين تقتتلان فيما بينهما، لولا أن بلغ الخبر رسول الله(ص)، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، وقال لهم: "يا معشر المسلمين، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الإِسْلام، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بَيْنَكُمْ"..

فعرف الأوس والخزرج أنَّ الّذي حصل بينهم هو نزغة من نزغات الشّيطان، وكيد من عدوّهم، فبكوا، وعانق الرِّجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله(ص) سامعين مطيعين، بعد أن أطفأ عنهم كيد عدوّهم…

أيّها الأحبّة، كم نحن بحاجةٍ إلى وعي هذه القصّة، كي لا نقع في حبال كلّ الّذين يعملون في اللّيل والنّهار من أجل إثارة الفتن في واقعنا، وحتّى لا يأتي من يذكّرنا بالصّفحات السّوداء في التّاريخ، وينسينا إيجابياته وعناصر الثّقة والقوّة فيه، أو بما جرى في هذا البلد أو ذاك، أو بما تحدّث هذا وذاك، ليستثيرنا ويثير غرائزنا المذهبيّة أو الطائفيّة، مستفيداً من سرعة توتّرنا وانفعالنا، وغفلتنا عن كلام ربّنا: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}، وعدم وعينا لكلّ ما يخطّط لنا.

أيّها الأحبّة: المرحلة هي مرحلة تفتيت هذه المنطقة، مرحلة العمل على تجزئتها، ورسم خرائط جديدة للتّقسيم، تذهب بنا إلى ما هو أبعد بكثير من سايكس بيكو، إلى الحدّ الطائفي والمذهبي والعرقي وما إلى ذلك.

العراق: خطر الخطاب المذهبيّ

نقول ذلك ونحن نتطلّع إلى العراق، البلد الّذي بات يعاني من تصاعد الخطاب المذهبي فيه، رغم أنّ الواقع لا يحمل هذا الطّابع، ونخشى أن يؤدّي هذا الوضع إلى إعادة الصّورة المشؤومة والدّامية الّتي عانى العراقيّون من نتائجها.

إنّنا في الوقت الّذي نرى أنّ على الحكومة العراقيّة أن تأخذ بعين الاعتبار المطالب المطروحة، ندعو العراقيّين إلى أن لا يقعوا في لعبة الشّارع والشّارع المضادّ، والّتي قد تسمح بدخول الكثيرين من المصطادين في الماء العكر، ولا سيَّما في ظلّ التّعقيدات التي تعيشها الساحة العراقيّة والمنطقة بأكملها، وأن ينطلق الجميع من قاعدة "لأسلمنّ ما سلمت أمور العراق ولو لم يكن فيها جور إلا عليّ خاصّة".

إنّنا نثق بأنّ وعي العراقيّين بضرورة الحفاظ على وحدتهم الإسلاميّة والوطنيّة، وتحقيق الأمن والاستقرار لبلدهم، سيساهم في تفويت الفرصة على كلّ الّذين يريدون إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء، أو الدّخول على خطّ هذا البلد تحت حسابات طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة وما إلى ذلك.

وهنا نعيد التأكيد على القيادات الدّينيّة والسياسيّة، بضرورة التّلاقي لمعالجة الواقع المستجدّ، ووقاية العراق من هزّات سياسيّة تضاف إلى اهتزاز متكرّر للواقع الأمني.

سوريا في عين العاصفة

أمّا سوريا، الّتي لا تزال في قلب العاصفة، والّتي تعيش وسط حالة من السّباق بين العنف المتصاعد والطّروحات المستجدّة للحلّ، فإنّ كلّ الأطراف فيها، والّذين كانوا جزءاً من الأزمة، مدعوّون ليكونوا جزءاً من الحلّ، حتّى وإن رأى البعض فيما يطرح من حلول، وما يقدّم من عروض، أموراً بعيدة عن الواقع.

لقد أصبح الجميع يدرك أنَّ المسافة بين ما تطلبه المعارضة وما يريده النِّظام باتت بعيدة، ولكن في ظلِّ الحديث عن استعصاء الحلول الأمنيَّة والعسكريَّة على أرض الواقع وكلفتها الباهظة، فإنّه لا سبيل لحماية سوريا كدور ومؤسّسات، وحماية الشّعب السوري، إلا بالذّهاب إلى طاولة حوار، تكون فيها مصلحة بقاء هذا البلد وحضوره فوق كلّ اعتبار.

إنّنا نرى أنّ الواقع في سوريا يحتاج إلى حكماء في الدّاخل، كما يحتاج إلى حكماء في الخارج، يعملون على تهيئة مناخات لحلول توقف استمرار نزيف الدّم والاستنزاف المدمّر للاقتصاد والعمران، لا إلى من يصبّ الزّيت على النّار.

إنّنا ندعو إلى الاستفادة من أيّة مبادرات حلّ والبناء عليها، بدلاً من قرار التسرّع في رفضها…

وفي هذا الوقت، فإنّنا نرحّب بالمبادرة الأخيرة الّتي أدّت إلى إطلاق سراح المعتقلين من الزوّار الإيرانيّين وغيرهم، آملين أن تساهم هذه الخطوة في بعث الأمل لحلّ مشكلة المخطوفين اللّبنانيّين في سوريا. ومن هنا، ندعو الدّول المؤثّرة للعمل على إطلاق هؤلاء المخطوفين، ليعودوا إلى بلدهم، ويحولوا دون أيّة مضاعفات سلبيّة قد تحصل من وراء إبقاء هذا الملفّ مفتوحاً، كما ندعو الدّولة اللبنانيّة إلى أن تقوم بالدّور المطلوب منها، لمعالجة هذا الملفّ والإسراع في حلّه.

البحرين: إعادة النّظر في الأحكام

وفي موازاة ذلك، نعيد التأكيد على الحكومة البحرينيّة، بضرورة إعادة النظر في قراراتها الأخيرة، والمحاكمات الجديدة لعددٍ من المعارضين، ونشدّد على ضرورة أن تكون الخطوات الحكوميّة منسجمةً مع دعوات الحوار الّتي دعت إليها شخصيّات بارزة في دولة البحرين، بدلاً من موجة جديدة من الأحكام من شأنها أن تزيد الأمور تفاقماً وتعقيداً، منعاً لأيّ توتّر قد تحدثه، في الوقت الّذي نريد للبحرين أن تقدّم نموذجاً في التّعاون بين كلّ مكوّناتها السياسيّة والدّينيّة.

لبنان: تقصير بحقّ المواطنين

أمّا لبنان، فهو لم يخرج بعد من آثار العاصفة الّتي أغرقت شوارعه وأحياءه ومناطقه، والّتي كشفت عن مدى الإهمال المزمن الّذي تعاني منه المناطق اللّبنانيّة، ولا سّيما الأحياء الفقيرة والمحرومة، والّتي، مع الأسف، يضع الكثير من الخطاب الرّسميّ الحقّ فيها على المواطنين، من دون النّظر إلى تقصير الدّولة في حماية مواطنيها، وتأمين البدائل، بعد أن اضطرّتهم ظروفهم إلى أن يبنوا في أماكن غير مهيّأة للسّكن، أو قرب مجاري المياه.

لقد كنّا نأمل من الحكومة والبلديّات أن تكون أكثر استعداداً لمواجهة هذه العاصفة، ولا سيّما أنّ الجميع كان ينتظرها، وأن تقي مواطنيها من بعض نتائجها.. ولكن، مع الأسف، تعوَّدنا أن تأتي الدّولة أخيراً، فيما المطلوب من المواطنين أن يقلّعوا أشواكهم بأظافرهم.

لقد كشفت هذه العاصفة الكثير من نقاط الضّعف في السّلامة العامّة والبنية التحتيّة، وهو ما يحتاج إلى استنفار جهود كلّ الوزارات المعنيّة، لدراسة السّبل الآيلة إلى وقاية البلد ما أمكن من أيّة عواصف قادمة، ولتأمين الاحتياجات السّريعة لكلّ الّذين تضرّروا.

عاصفة قانون الانتخاب

وفي هذا الوقت، لا يزال لبنان يعيش عاصفة قانون الانتخاب، بين شدّ وجذب من الأكثريّة والأقليّة، ومن المراهنين هنا وهناك على إحراج هذا الفريق لإخراجه.

إنّنا نقول: إنّ من حقّ اللّبنانيّين الّذين يتطلّعون إلى ربيع حقيقيّ، أن يحظوا بقانون انتخابيّ يليق بمستقبل هذا الشّعب، وبمستقبل الأجيال اللّبنانيّة الطّامحة لإخراج البلد من أتون الأزمة الطائفيّة والمذهبيّة، قانون يؤدّي إلى انتخاب ممثّلين حقيقيّين للشّعب، لا إلى قانون يلبي طموحات خاصّة، أو إلى قانون يكرّس الواقع الطائفيّ والمذهبيّ على حساب الانصهار الوطني الّذي يتحدّث الجميع عنه.

كما نأمل من الدّولة أن تشمّر عن ساعديها لحلّ كلّ المشاكل العالقة المطروحة بكلّ جديّة ومسؤوليّة، لا أن تضع كلّ هذه الملفّات في أدراج الإهمال أو التّسويف أو النّسيان.

أيّها المسؤولون، قد تكون العاصفة الطبيعيّة تركت تأثيراتها على واقعنا، وهي تأثيرات محدودة، فما الّذي تعدّونه لمواجهة عواصف المنطقة القادمة؟ ماذا تفعلون للوقاية منها أو للتّخفيف من وطأتها عندما تضرب في الأطراف أو في الأعماق؟!

Leave A Reply