الاعتذارُ عن الخطأِ دليلُ شجاعةٍ وإيمانٍ

السيد علي فضل الله

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. صدق الله العظيم.

دعت هذه الآية النّاس إلى أن يسارعوا إلى جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض الّتي أعدَّها الله للمتّقين.. وقد بيَّنت صفاتهم أنهم ينفقون في حال اليسر وحال العسر، ويكظمون غيظهم عندما يتعرّض لهم أحد بسوء، ويبادلون السيّئة بالحسنة.

فضيلة الاعتذار

وهي أشارت إلى فضيلة يتحلّون بها، ولا بدَّ من التوقّف عندها، وهي أنهم قد يُخطئون وقد يفعلون الفاحشة، ولكنَّهم سرعان ما يعتذرون من ربّهم ويتوبون.

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنَّ الله سبحانه يعذر الإنسان لخطئه، فالإنسان بطبعه يخطئ ويتجاوز الحدود، ولكنّه لا يعذره إن هو أصرّ على هذا الخطأ ولم يتراجع عنه.

وهذا الأمر كما أراده الله في العلاقة معه، أراده أن يحصل في العلاقة مع الناس.

فالله سبحانه يريد للإنسان المؤمن إن هو أخطأ وأساء بحقّ الآخرين، أكان ابناً أم بنتاً أم زوجاً أم زوجة، أم زميلاً له في العمل أو في الدراسة أو في الطريق، وحتى لو كان دونه في الموقع والوظيفة أو صغيراً في العمر، أن يبادر إلى محو آثار هذا الخطأ، وإزالة تداعياته بالاعتذار أو بأيّ وسيلة أخرى. فلا ينبغي أن يقف أمام اعتذاره أيّ شيء، وليس خافياً مدى الأثر الإيجابيّ الّذي يتركه الاعتذار في نفس من أُسيء إليه.

فالاعتذار ينزع فتيل الغضب عنده، ويحتوي توتّره ويبرّد قلبه ويعيد إليه كرامته، ويتدارك بذلك المعتذر مضاعفات الخطأ الذي حصل منه. وهو الطريق الذي يبلغ به رضا الله، فالله قرن توبته على من أخطأ بهذا الاعتذار. وحتى لا يغلق الباب على من لا يستطيع الاعتذار، دعاه إلى أن يتوجّه إليه ليقوم هو بإرضائه.

وهذا ما ورد في دعاء الإمام زين العابدين: “أللَّهم فَأَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَةٍ مِنْ إِمَائِكَ، كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ، فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غِيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِهَا، أَوْ تَحَامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ أَوْ هَوًى، أَوْ أَنَفَةٍ أَوْ حَمِيَّةٍ، أَوْ رِيَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ، غَائِباً كَانَ أَوْ شَاهِداً، حَيّاً كَانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي، وَضَاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّهَا إِلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يَا مَنْ يَمْلِكُ الْحَاجَاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ بِمَشِيَّتِهِ، وَمُسْرِعَةٌ إِلَى إِرَادَتِهِ، أَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِمَا شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً…”.

هل في الاعتذار مذلّة؟

وقد واجه الإسلام عقليّة النّاس التي تعتبر الاعتذار خضوعاً أو ذلاً أو إهانةً لأشخاصهم أو كراماتهم، ولا سيّما إن صدر هذا الاعتذار عمن هو دونهم في العمر أو في الموقع والمكانة.

ولذا، بتنا نجد الأمّ تنصح ابنتها إن هي أخطأت بعدم الاعتذار لزوجها، كي لا “يكبر” رأسه، والأب ينصح ابنه بعدم الاعتذار للزوجة لأنه “رجل البيت”، والمدير إن هو أخطأ لا يعتذر للموظّف، لأنّ موقعه لا يسمح له بذلك، والمعلّمة لا تعتذر للطالب لأنّ ذلك سوف ينتقص من موقعها، وسيدة المنزل لا تعتذر للخادمة، والطبيب لا يعتذر لمريضه إن ارتكب خطأً بحقّه، ويرى ذلك مضراً بموقعه المهني وسمعته، والعالم الدّيني ليس على استعداد لأن يعتذر إن هو أخطأ في رأي أو موقف، لئلّا يخلّ ذلك بالموقع الديني الذي ينبغي أن يصان، وبالطبع هذا يخالف منطق الإسلام.

ونلمس هذا لدى من يتصدّر المواقع العامّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، ممن يفعل الأفاعيل ويرتكب الجرائم، ولكنه ليس على استعداد لأن يعتذر من الذين أساء إلى حاضرهم ومستقبلهم، وهدّد حياتهم وعبث بحياة من اكتووا بناره، فهو يرى نفسه أكبر من الاعتذار.

فقد اعتبر الاعتذار مظهر قوّة وعنوان شجاعة، فالقويّ والشجاع هو من يعتذر، لأنّ من يفعل ذلك ينتصر على شيطان نفسه.

قبولُ الاعتذارِ واجبٌ

ولكنَّ هذا الاعتذارَ رغم أهميّته، يبقى ناقصاً، ولا يحقِّق هدفه في إنهاء التوتّر والنّزاع، إلا بقبول هذا الاعتذار ممن اعتذر منه.

ولذلك، حثَّت الأحاديث على قبول الاعتذار، وحذّرت من عدم التجاوب معه.

فقد ورد في الحديث: “إن شتمك رجل عن يمينك، ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك، فاقبل عذره” ولا تتردّد في ذلك.

وقد اعتبر هذا مظهراً من مظاهر الوعي لدى القابل للاعتذار، ففي الحديث: “أعقل الناس أعذرهم للنّاس”. أمّا لماذا؟ فلأنّ العاقل حريص على إنهاء التوتّر الذي قد يحصل بنتيجة الخطأ، فعدم قبول العذر، يعني أن يوصد المرء الباب في وجه من جاء معتذراً ويريد إنهاء تداعيات الخطأ، ليقول له بذلك، لا أريد أن أتابع العلاقة معك، وأريد لهذا التوتر أن يبقى.

وقد وصل الأمر برسول الله (ص) إلى أن يعلن براءته ممن لا يقبلون الاعتذار، فقال: “من أتاه أخوه متنصّلاً، فليقبل ذلك منه، محقّاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل ذلك، لم يرد عليّ الحوض”.

وقد اعتذر الإمام زين العابدين (ع) إلى الله سبحانه في دعائه، من مسيء جاء إليه معتذراً ولم يقبل اعتذاره، فقال: “اللّهمّ إني أعتذر إليك من مظلومٍ ظُلِم بحضرتي فلم أنصره… ومن مسيءٍ اعتذر إليّ فلم أعذره”.

إننا لا نريد من كلامنا هذا أن نبرّر الأخطاء، بل على العكس، ندعو المؤمن إلى أن لا يسيء ولا يعتذر، كما هو مطلوب منه، ولكنّنا لا ينبغي أن نغفل أنّ الإنسان قد يخطئ، ولذا نريده إن أخطأ، أن لا ينتظر طويلاً حتى يتراجع عن خطئه، بل أن يسارع للاعتذار.

جرأة المعتذرين

أيّها الأحبة: الحياة تحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يقفون بكلّ جرأة ليقولوا نحن أخطأنا إن هم أخطأوا، ويقومون بإصلاح ما صدر عنهم.

هؤلاء بهم تبنى الحياة، وهم يساهمون في توسيع مساحات التّسامح والمحبّة فيها، لا الّذين يتعصّبون لأنفسهم ويصرّون على أخطائهم.

نسأل الله أن يجعلنا ممن إذا أساء استغفر، وإذا أخطأ اعتذر، وإذا اعتذر لنا أن نقبل ونغفر.. فالله يرحم المعتذرين والمتسامحين {يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بقول الله تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}، والتي يشير الله سبحانه وتعالى من خلالها، إلى أنّ الإنسان سيُسأل عندما يقف بين يديه عن كلّ نعمة أنعم بها عليه.

وأوّل ما سيسأل عنه هو، كيف تعامل مع صحَّته؛ هل وقاها مما قد يضرّها، وهل حفظها وقام بواجبه تجاهها؟.

فالإنسان في حساب الله ليس حرّاً أن يفرِّط في صحّته، أو يتعامل مع جسده من دون حدود وضوابط، فيأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، ويتلذّذ بما يشاء، أو يتواجد حيث يشاء، حتى لو كان ذلك على حساب صحّته، ولا يعالج نفسه بالعلاج الكافي عندما يتعرّض لمرض، فهو يوم القيامة سوف يتحمّل المسؤوليّة عن تفريطه بها، كما يدان عندما يسيء إلى صحّة الآخرين ويهدّد حياتهم.

ومتى وعي الإنسان ذلك، سيكون ـ بالطبع ـ أقوى وأقدر على مواجهة أعباء المرض وتحدّياته، والقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه.

هل تنفع الإجراءات؟!

والبداية من جائحة كورونا، حيث يشهد لبنان تفشّياً متصاعداً ينذر بكارثة صحيّة، بعد تجاوز أعداد المصابين بهذه الجائحة أرقاماً قياسيّة لامست الخمسة آلاف، بحيث أجمع المعنيّون على أنّ هذا الوباء خرج، أو كاد أن يخرج عن السيطرة، ما استدعى أن تبادر الدولة إلى أخذ إجراءات الإقفال لمدّة ثلاثة أسابيع.

ونحن أمام هذا الواقع، نؤكّد أهميّة الأخذ بأيّ إجراءات كفيلة بالحدّ من هذا الوباء، ومنع تداعياته الخطيرة والكارثيّة على المواطنين وعلى الطّاقم الصحّي.

ولكنّنا نخشى أن لا تلبّي هذه الإجراءات الهدف المرجوّ منها، لكثرة الاستثناءات التي اعتمدها قرار الإقفال، بعد عدم قدرة اللّبنانيّين على تحمل أعباء فترة طويلة من الإقفال في ظلّ الواقع الاقتصادي الذي يعانيه البلد، وعدم تأمين الدولة المساعدات الماديّة التي تمكّن المواطنين من تحمّل أعباء هذا الإقفال أسوةً ببقيّة العالم.

ومن هنا، نؤكّد ضرورة معالجة أيّ ثغرات تؤدي إلى عدم الالتزام بهذا القرار، والتشدّد في تطبيقه، كما نجدّد دعوتنا للمواطنين إلى التقيّد التامّ بإجراءات الوقاية.

فمن المؤسف، أنّ هناك من لا يزال يتعامل بخفة مع هذه الجائحة، من دون أن يأخذ بالاعتبار التجارب المرّة للذين أصيبوا، والتي قد تصيب أحباءه والمحيطين به، والتي تؤدي إلى ندمه حيث لا ينفع النّدم.

التَّدهور المستمرّ

في هذا الوقت، يستمرّ الانهيار على الصعيد الاقتصادي والمالي، والتّدهور في صرف سعر اللّيرة اللبنانيّة في مقابل الدّولار، في ظلّ غياب أيّ إجراءات تؤدّي إلى إخراج البلد من تداعيات ذلك على الصّعيد المعيشي للمواطنين، وقدرتهم الشرائيّة وتأمين حاجاتهم الأساسيّة.

حيث لا يزال الواقع السياسيّ على حاله من الإنكار لكلِّ ما يجري على هذا الصَّعيد، ويتعامل بكلّ برودة مع الاستحقاق الحكوميّ، والذي يبدو أنّه وضع على رفّ الانتظار، حيث لا نشهد زيارات أو لقاءات أساسيّة للتوصّل إلى حلول لعمليّة تأليف حكومة قادرة على إنقاذ هذا البلد، حيث لا تزال أسيرة لعبة عضّ الأصابع التي تمارسها القوى السياسيّة المعنيّة بالتّأليف، أو انتظار لسراب هو لن يأتي من الخارج، لا عاجلاً ولا آجلاً، بعدما أصبح من الواضح أنّ لبنان ليس على أجندة هذا الخارج، على الأقلّ في هذه المرحلة، ولن يؤدّي الانتظار إلا إلى ازدياد المآزق لهذا البلد، وأنّ على اللّبنانيّين أن يقلّعوا أشواكهم بأظافرهم.

سجالاتٌ بلا نتيجة

في هذا الوقت، تطفو على السطح السجالات الداخليّة التي لن تؤدي إلى أيّ نتيجة، سوى أنها تساهم في زيادة الشَّرخ الداخليّ، وتؤدّي إلى إضعاف قوّة لبنان في مواجهة التحدّيات، في وقت هو أحوج ما يكون لاستجماع عناصر قوّته ومنعته.

ونتوقّف عند التّحقيق حول انفجار المرفأ الذي ينتظره اللّبنانيّون، حيث يبدو أنّه بات أسيراً للاشتباك السياسي القضائي، والذي ليس جديداً على المشهد اللّبناني، فالتّداخل بين السياسة والقضاء، والمستمرّ منذ عقود، هو أحد الأسباب التي جعلت البلد يصل إلى هذا المستوى من السّوء والتردّي.

مصالحة أم حرب؟!

وبالانتقال إلى ما يجري من احتقانٍ في المنطقة، ووسط قرع طبول الحرب، والّذي يتهدّد استقرارها، نرى أنّ الساحة العربية والإسلامية بأمسّ الحاجة إلى الوحدة الداخلية والتعاون فيما بينها، في ظلّ التداعيات التي تواجهها وستواجهها.

وهنا نرحّب بالمصالحة بين هذه الدول، كالتي جرت في القمة الخليجية الأخيرة، ولكنّنا نريدها مصالحة مفتوحة تأخذ في الحسبان مصالح الدول العربية والإسلامية كلّها، وأن لا تساهم في زيادة الشّرخ بينها، كما قد يبدو، ومن خلال إعلانها، أنّ الخطر هو إيران، فيما الخطر الأساس هو العدوّ الصهيوني لا غيره.

أميركا تهتزّ

وأخيراً، فإنّ ما حصل في أميركا من مشاهد الانقسامات بطريقة جديدة، أظهر مكامن الضّعف في هذا المجتمع، والتي قد نرى تداعياتها على الدّاخل الأميركي، ويخشى أن تنعكس على خارجه.