التزامنا بالأخلاق خير تعبيرٍ عن حبِّنا للحسين(ع)
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}. هذه الآية التي كان الحسين(ع) يكررها عندما كان يتطلع إلى أصحابه وهم أوفى الأصحاب، وعند كل شهيد كان يسقط بين يديه في المعركة..هم صدقوا في إيمانهم وفي علاقتهم بربهم وبرسولهم وبإمامهم..صدقوا في الثبات عل الموقف الحقّ عند الإمتحان، وفي حملهم لقيم الرسالة.
لإعادة إنتاج عاشوراء
أيها الأحبة، إنَّ الأحداث التّاريخيَّة مهما كانت عظيمة، فهي في الغالب تنتهي بغياب أصحابها عن مسرح الحياة، ويصبح حديثها حديث تاريخ، لكن هناك من المحطَّات والأحداث في التَّاريخ، ما يظلّ مناراتٍ شامخةً لا يخبو ضوؤها، ولا تشيخ أبداً مع الزَّمن، بل على العكس، هي في تجدّدٍ مستمرّ.. وكي نميِّز بين الأحداث التاريخيَّة الآنيَّة أو العبثيَّة وبين تلك الأصيلة والمتجذِّرة، علينا أن ننظر إلى قدرة هذا الحدث أو ذاك على الامتداد التّاريخيّ عميقاً نحو المستقبل من ناحية، ومن حيث قابليّة استنساخه واستلهامه من ناحيةٍ أخرى.. ما معناه أنّه بقدر ما يمكن استحضار الحدث من التّاريخ ليكون حاضراً ومؤثّراً، بقدر ما نتلمَّس أنّ لهذا الحدث جذوراً عميقة ضاربةً في الإنسانيّة كلّها.. وأبرز هذه المحطّات التاريخيّة، ثورة كربلاء، تلك الثَّورة، ورغم بعدها بالزَّمن عنَّا، فنارها لا تخمد، بل تتوقَّد أكثر كلَّما استُحضرت سيرة الحسين، وكلَّما حطَّت المناسبة برحالها كذكرى وعبرة بين يدي مريديها وعاشقيها. يشهد لذلك كل هذا الحشد الغفيروالذي دائماً نؤكد أننا لا نريده شكلياً بل يتحرك في النفوس، ودائماً ندعو إلى أن تتوسع دائرة هذا الحضور ليصل إلى كل الساحات والمستويات الشعبية والنخبوية والعلمية…فعاشوراء تتملك كل المقومات من خلال منطلقاتها وشعاراتها ورجالها ونسائها..أن تبلغ المدى الإنساني، فضلا عن الديني والمذهبي.
إن التأكيد على الجانب التّاريخي، وسرد الأحداث، وهذا كلّه جيّد ومهمّ،شرط عدم المبالغة. لكنّ الأهمّ أن نجلب التّاريخ إلى عصرنا، ونحاكم وقائع العصر وفق معايير كربلاء، ومن منظار رؤية الحسين لقضايا الحقّ والعدل والظّلم، والإيثار والعطاء. لتكون عاشوراء شاهدة على كل عصر.
ألا يوجد في ساحاتنا، وفي مواقع الحكم ومواقع الحلّ والرّبط في هذا العالم، وفي واقعنا، مشاريع تشبه مشروع يزيد وابن زياد وعمر ابن سعد؟ اليس لدينا الآلاف من يزيد وابن زياد وابن سعد وحتى الشِّمر، إلى آخر لائحة المستفيدين وبائعي الضَّمائر والمواقف بالدِّرهم والدِّينار؟ و في الوقت نفسه هناك من إستلهم الحسين(ع) وأصحاب الحسين في التفاني من أجل الحق والعزة والحريّة.
إنَّ كلّاً من موقعه مدعوّ ـ ونحن مدعوّون ـ إلى إعادة إنتاج عاشوراء، وفي هذه الثّورة الكثير الكثير مما علينا إعادة إنتاجه للاستفادة والعبرة.. لتكون دواءً للأمراض الّتي تفتك بنا.. يجب أن لا تبقى عاشوراء في دائرة الدموع الباردة بل الحارة التي تغسل القلوب والعقول وتولد الحياة. وأبرز ما علينا إعادة إنتاجه وفق تشخيصنا للأزمات الّتي يعيشها عالمنا، هي مفردة الأخلاق..
فمفردة الأخلاق هي من أكثر المفردات الَّتي نحتاج إلى إعادة إنتاجها إنطلاقاً من عاشوراء، وذلك في ضوء واقعنا السيِّئ الّذي أوّل ما يضحّى فيه هو الأخلاق الّتي يطاح بها ويضرب عرض الحائط، لا سيما عند التحديات والتوترات.
فقد عايشنا ومازلنا نعايش كيف من السَّهل للثَّورات أو الحركات أن تتحوَّل أو تنقلب أو تتبرّأ من مبادئها.. وسمعنا كيف أنَّ البعض يتحرك استعداده للتَّعاون مع الشَّيطان، (علماً أنه ينطلق في ثورته من بعد ديني ضدّ الشّيطان).. تعالوا نرَ كم من الثَّائرين ومن ينظّرون لهم، في ما سمي بعصر الثّورات العربيّة، تحلّوا بالنّزر اليسير من قيم الأخلاق، بل من الأجدى أن يكون السّؤال: هل عرفت هذه الثّورات ما يمكن تسميته الأخلاق، وحسن الخلق، ومكارم الأخلاق، على مستوى القيادات والقاعدة، هذا إن لم تصل إلى استباحة الدّماء والأموال؟!
الأخلاق في ثورة الحسين(ع)
وفي محاولةٍ لاستعادة موقع مفردة الأخلاق في سيرة الحسين وثورته، فماذا نرى ؟
الحسين(ع) حريص على هذه القيمة، فالحسين إسلامي قبل أن يكون ثائراً ومتحدياً..وعمق الإسلام هو حسن الخلق.
هل كان للتَّفكير في الأخلاق موقع وسط الدِّماء…؟
أوّل مظهر أخلاقيّ نستعيده، هو التزام الحسين بالعهد، أي الصّلح الّذي كان بين أخيه الإمام الحسن ومعاوية. يومها، وبعد استشهاد الإمام الحسن(ع)، اتجهت جماهير العراق إلى الحسين تطالبه بخلع معاوية، واستلامه الحكم، ولكنَّ الحسين ردَّ بالرفض، والسّبب أنّ بين الإمام الحسن ومعاوية عهداً وهو عهد الصّلح، وسيظلّ قائماً ما دام معاوية حيّاً. فلماذا إذاً لم يخرج الحسين على معاوية؟
كان الحسين لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، كما كان علي(ع) يقول: قد يرى الحُوّلُ القُلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين، والله ما معاوية بأدهى مني ،ولكنه يغدر ويفجر..
الأمر الثاني هو عدم مبادرته للقتال، فعندما أقبل القوم يجولون حول معسكر الحسين عليه السلام وينظرون إلى النّار تضطرم في الخندق، فنادى الشِّمر بن ذي الجّوشن بأعلى صوته: يا حسين، تعجلتَ بالنار في الدنيا قبل يوم القيامة. فقال له مسلم بن عوسجة: يا ابن رسول الله، جعلتُ فداك، ألا أرميه بسهم؟ فقال عليه السلام :" لاترمه، فإني أكره أن أبدأهم بقتال ".
والإمام الحسين(ع) عندما انطلق لمواجهة يزيد، بالرغم من موقعه كإمامٍ وحفيد رسول الله، إلا أنّه لم يستخدم اللّغة الدينيّة في التَّكفير، إنما حدَّد مشكلته بوضوح، وهي أنَّ يزيد يمتلك صفات لا تؤهِّله لقيادة أمر المسلمين… الحسين(ع) لم يصف يزيد بأنّه رجل كافر مثلاً، وكان قادراً من موقعه على أن يفعل هذا وله كلّ الشرعيَّة، وعندما أعلن حكمه: "مثلي لا يبايع مثله"، كان حكماً سياسيّاً له بعد أخلاقيّ، والصِّفات الّتي أوردها عن يزيد (فاسق وفاجر وقاتل، وفاسد…)، لا تؤهِّله لأن يكون حاكماً في أيِّ بلد، فكيف إذا كان هذا البلد إسلاميّاً، وموقع الحاكم فيه مستمَدّ من خليفة رسول الله؟ والأمر نفسه استعمله مع الذين لم يلحقوا به، لم يقل عنهم كفار، بل قال من قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين.
والأخلاق في ثورة الحسين تجلَّت في شفافيَّة دعوته ووضوحه وعدم مواربتها. فالحسين(ع) ومنذ خروجه من المدينة، حدَّد في وصيّته أهداف نهضته: طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. والحسين لم يُخفِ وراء السِّتار أهدافاً اخرى لنهضته ليعلنها فيما بعد، أو يعمل على تحقيقها في السّرّ. كان صادقاً وواضحاً مع المسلمين، ومع الّذين يخرج عليهم.
فعلى امتداد رحلته من المدينة إلى كربلاء، كان ركبه يزداد عدداً ويتناقص حسب خيارات الملتحقين به وأهدافهم، ولكنّ الحسين لم يخادع، ولم يناور لكسب المزيد من الأنصار بالإكثار من الوعود الورديّة بالمناصب والمكاسب، بل نراه عندما علم باستشهاد مسلم بن عقيل في الكوفة، يقول لمن معه: قد خذلَنَا شيعتُنا، فمن أحبّ أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام.
وهذا ما فعله ليلة العاشر، خاطب أصحابه أنَّ القوم لا يريدون قتل غيره، وأنَّ بوسع كلِّ واحدٍ أن ينسحب تحت جنح الظَّلام وينجو من القتل، لأنّه لم يكن يريد أن يهدر دم قاعدته وأصحابه. ثم إنَّ الحسين الثَّائر لم يقف خلف هذه القاعدة، لم يدفعها أمامه وهو في الخلف أبداً. أخلاق الحسين لم تسمح له إلاّ بأن يكون واضحاً مع الّذين معه.. وهذه قمّة الأخلاق الثّوريَّة والأخلاق السياسيّة والإنسانيَّة على السَّواء؛ إنّها الحساسيَّة تجاه حياة ودماء الّذين وقفوا معه وآمنوا بمشروعه..
وعلى المستوى الإنسانيّ، وصل الأمر بالإمام الحسين(ع)، عندما وصل الحرّ الرّياحي من جيش ابن زياد إلى مشارف كربلاء، وكان الوقت ظهراً، والحرّ شديداً، وكان جيش الحرّ الرّياحي عطشاً مجهداً، وخيوله تلهث من العطش، ومع معرفة الإمام بأهداف الحرِّ وبما هو مقبل عليه، أمر أصحابه بسقي الخيل والرِّجال ممن هم قادمون ليحاربوه.. قائلاً لهم: «أوسعوا لهم».. فالتَّعطيش والتَّجويع والتَّعذيب ليس لها في قاموس الحسين(ع) مكان، ومهما كانت الأسباب، لأنّه في هذه الحال، إنسانيَّتك هي الّتي تكون على المحكّ وليس قوَّتك.. وفي هذا السّياق أيضاً، برزت تجلّيات أخلاق الإمام(ع) في حرصه على حوار جيش يزيد، بحيث لم يفوِّت فرصة هدايتهم، مستعملاً معهم كلّ الأساليب لثنيهم، لعلّه ينقذهم مما سيواجهونه من غضب الله ورسوله عليهم. وبقي يحاورهم حتى اللحظة الأخيرة…حتى أنه بكى من أجلهم.
لا فصلَ بين الأخلاق والحياة
هذه هي بعض أخلاق ثورة الحسين؛ هي أخلاق الصّفاء والطّهر الّتي ميَّزتها وأعطتها هذا البعد الإنساني.. فلنتعلَّم من الحسين أنَّ الأخلاق ليست موعظةً يمكن أن نلقيها عند الضّرورة، أو لافتة نرفعها ونستريح بعدها من أيّ عبء. إنّ أيّ عمل يخلو نسيجه من الأخلاق، هو من دون شكّ في دائرة الشّبهة، وبعيد عن الدّين والمذهب..
إنَّ الفصل بين الأخلاق والسّياسة، لا مكان له في حياة الحسين وقراراته، لذلك فإنَّ مبدأ: (الغاية تبرّر الوسيلة)، لا مكان له أيضاً في أيِّ عملٍ أو قرار. وهذا ما نعانيه في هذا العصر من فكّ الارتباط بين الأخلاق والحركة في الواقع.. وكأنَّ الأخلاق فرضت لتتحرّك في الفضاء لا على الأرض ـ للأسف ـ كما نشهد في واقعنا.. إنَّ الأخلاق لا بدّ من أن ترافق كلّ حركة الحياة. لا يمكن لزاويةٍ من الزّوايا في الحياة أن تكون منزوعة الأخلاق.. الأخلاق الإنسانيَّة هي كالهواء بالنِّسبة إلى الأجساد، فكما أنَّ الجسم يختنق من انعدام الهواء، كذلك فإنَّ الإنسانيَّة تختنق من دون أخلاق… مثلاً، هل يمكن الفصل بين العلم والأخلاق؟ إنّ الشّواهد تؤكّد أنّ العلم من دون أخلاق يصبح خطراً ومدمّراً.. والرّياضة من دون أخلاق تصبح المنافسة فيها غير شريفة وهدّامة، والتّجارة من دون أخلاق تصبح جشعاً واحتكاراً، وحتّى الطبّ من دون أخلاق يصبح استغلالاً وقتلاً.. إنَّ فكرة الوصول إلى الأهداف مهما كانت الأثمان، أمر يجب رفضه، فالأساليب، كما الهدف، يجب أن تكون على مستوى عالٍ من الوضوح والشفافيّة..
في هذه الذِّكرى، ذكرى عاشوراء، فلتكن الدّعوة إلى نبذ الفساد باسم الحسين، ونبذ انتهاك الحرمات والكرامات الإنسانيّة باسم الحسين، ولننبذ الغشّ والرشوة والازدواجيّة والمعاملات الَّتي تحت الطاولة، فكلُّها مفردات يجب أن تختفي أمام طهر عاشوراء وطهر الحسين…
وأخيراً نقولها في هذه الأيَّام العاشورائيَّة، إنَّ التصاقنا بالأخلاق ثمَّ الأخلاق ثمَّ الأخلاق، لهو خيرُ تعبيرٍ عن إحياء عاشوراء وعن حبِّنا للحسين، وعن اعتبارنا من هذه الذِّكرى والنَّهل من معينها.
والحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله؛ هذه التّقوى الّتي عبّر الحسين(ع) عنها بجهاده وتضحياته ودمه النّازف في كربلاء، فهو لم يبخل على الله حين دعاه إلى أن يضحِّي بنفسه من أجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يعمل على إصلاح أمَّة جدّه رسول الله(ص)، وأن يوقظها من سُباتها ويبعث فيها الحياة، وأن يعيد إليها الإحساس بحريَّتها وعزَّتها، وقد عُبّر عن لِسان حاله بهذه الأبيات:
تركت الخلق طرّاً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
أتيتك يا إلهي عند وعدي منيباً علّني أحظى رضاك
سلكت الكرب والأهوال درباً وجئت ملبّياً أخطو خطاك
أيّها الأحبَّة، حبّنا للحسين(ع) وعشقنا له، لا يكون إلا عندما نذرف الدّموع خشيةً من الله وحبّاً له، وعندما نكون أكثر استعداداً للتَّضحية من أجل رضاه، بحيث يكون شعارنا الدّائم رضا الله والتّضحية في سبيله. وعندما نكون كذلك، نكون أكثر قدرةً على مواجهة الصِّعاب والتّحدّيات، والتي لا تُواجَه إلا بالتَّقوى.
فلسطين العصيَّة على اليأس
والبداية من فلسطين، الّتي أكَّد الشَّباب الفلسطينيّ فيها أنّه عصيّ على الإحباط واليأس الَّذي راهن الكثيرون عليه، وأثبت أنّه لا يزال يمتلك زمام المبادرة، ولا يعدم الوسائل عند أخذه قراره بالمواجهة.
إنَّ هذه الهبَّة التي حصلت، كما يحلو للبعض أن يسمّيها، أو هذه الانتفاضة، كما ينبغي أن تسمَّى، لا نراها مجرّد ردّ فعلٍ عابر، بقدر ما مثَّلت وستمثِّل حركةً في المسار الطّويل في مواجهة احتلال العدوّ الصهيوني وغطرسته.
لقد بات واضحاً للشّعب الفلسطينيّ أنَّ عليه أن يقلّع أشواكه الكثيرة بأظافره وحده، بعدما تخلّى الكثيرون عنه، وبعدما فقد ثقته بالوعود الّتي تغدَق عليه، وبالحلول التي لن تكون لحسابه في أيِّ حال، رغم كلِّ الجراح والآلام، لأنّه يعرف أنَّ الحريَّة والعزّة لا تُعطى، إنما تُؤخذ بالأثمان الباهظة.
ونحن أمام ما جرى، نجدِّد التحية لهذه الرّوح الفلسطينيّة الشّابّة الّتي نجحت في أن تُدخل الرّعب إلى قلب هذا الكيان المتغطرس، ونعيد التَّشديد على المسؤوليَّة الّتي تقع على عاتق القيادات الفلسطينيَّة، في أن ترتقي إلى مستوى تطلّعات الشَّعب وتضحياته، وأن تقف معه وتؤازره وتدعم حركته بكلِّ الوسائل، كي يتابع مسيرته التاريخيَّة، والمهمّ أن لا تكون عبئاً عليه وعائقاً أمامه.
وفي الوقت نفسه، ندعو مجدّداً العالم العربي والإسلامي إلى تحمّل مسؤوليّاته، وأن لا يقف متفرّجاً، أو يكتفي بإصدار بياناتٍ باردةٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، بل أن يبادر إلى اتخاذ قرارات وإجراءات وتحركات من شأنها أن تلجم هذا الكيان الصّهيونيّ، أسوةً بالقرارات الّتي اتّخذت في مواجهة هذا البلد أو ذاك…
ويبقى في هذا المجال أن نقول لمن يضع اللّوم والمسؤوليّة فيما يحصل على الضّحايا، ويتّهمهم بالإرهاب: لماذا لم تسأل عن الأسباب الّتي دفعت بهؤلاء إلى أن يهبّوا وينتفضوا، وبهذه الصّورة، مع وعيهم لتبعاتها ونتائجها؟
إنَّ على هذا العالم، وحتى ينعم بالسَّلام، أن يفكِّر ولو لمرّة واحدة في أنَّ هناك شعباً من حقّه أن يعيش في وطنه حرّاً مستقلاً، وأن يعود أهله المشرّدون في أصقاع الأرض إلى بلدهم، بدلاً من العيش في المخيّمات أو المنافي، فالسّلام لا يُبنى إلا مع العدل.
العراق: تلاحمٌ في وجه الإرهاب
وإلى العراق الَّذي يخوض معركته في مواجهة الإرهاب التّكفيريّ الرابض على مساحاتٍ واسعةٍ من أرضه، من خلال التّلاحم بين جيشه والحشد الشَّعبيّ والعشائر. إنّنا نأمل أن يكون ذلك فاتحة طريقٍ لإعادة الأمن والاستقرار إلى هذا البلد، في الوقت الّذي ينبغي أن تستمرّ، وبفعاليّة وقوّة، معركته ضدّ الفساد والمفسدين وكلّ دعاة الفتنة.
لبنان: الحلّ بالتَّوافق
وفي لبنان، يستمرّ الواقع السياسيّ على حاله من التَّجاذب والصِّراع، حيث لا حلول تُرتَجى لكلِّ الملفّات العالقة، وكأنَّ شيئاً لا يجري في المنطقة، وكأنّ نيرانها لن تصل إلى هذا البلد..
إنَّنا لا نزال نأمل من كلِّ الطاقم السياسيّ، أن يسارع إلى إيجاد الحلول لكلّ القضايا المطروحة والملحّة بروحٍ مسؤولةٍ وجادّة، والَّتي يضغط الحراك الشَّعبيّ لمعالجتها، وأن تتواصل جلسات الحوار، وأن تعود اجتماعات الحكومة، لعلّ ذلك يساهم في استمرار مناخ الاستقرار، ويفتح ولو ثغرةً في جدار المأزق السياسيّ القائم..
إنّنا نعيد التّأكيد أنَّ الحلَّ في لبنان، ومهما تغيَّرت الظّروف المحيطة به، لن يكون إلا بالتّوافق، لكنّنا نريده التّوافق البنّاء، لا التّوافق على تقسيم جبنة الوطن ومستقبله ومستقبل أبنائه.. ونأمل أن يكون ما جرى بالأمس، من غرق عائلة لبنانيّة في البحر هرباً من واقعها، دافعاً للمسؤولين لكي يفكّروا أكثر في إنسان هذا البلد، وأن يسألوا: لماذا هربت هذه العائلة وهي تعرف حجم الأخطار التي تواجهها؟ بدلاً من أن نضع اللّوم عليها، كما يحلو للبعض أن يفعل، فإنَّ اللّوم يقع على كلّ الذين جعلوها تتوه في المجهول…
فلنسارع إلى إشعار إنسان هذا البلد بإنسانيّته، وبأنَّ هناك دولةً تفكّر فيه وفي مستقبله، حتى لا نسمع أخباراً مماثلةً ونستقبل جثامين جديدة.
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ: 3 محرَّم 1437هـ الموافق 16 ت1 2015