التَّاريخ سيخجل من مسلمين فجَّروا أنفسهم حقداً وعمى بصيرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }

ان ما يحدث في كثير من ساحاتنا المحلية والعربية والإسلامية يؤكد أنّنا نعيش جاهلية جديدة، جاهلية جوهرها تعصّب مذهبي وديني مقيت.

لا شيء اختلف عن الأمس، كأنّنا عشية وقعة كربلاء، ومنطق يزيد، الذي لا يجد أي حرج في قتل من يقف في وجه مشروعه السياسي، حتّى لو كان ابن بنت رسول الله.

لقد بلغ واقعنا من السقوط والانحدار بحيث أصبحت القسوة ديناً والقتل جهاداً.. والنفس التي كرمها الله وأرادها أن تكون خليفة له تتحول إلى شظايا تدمر وتقتل …

قد تكون هناك اختلافات في الساحة على المستوى المذهبي والسياسي أو في النظرة إلى هذا الأمر أو ذاك، فنحن بشر ونختلف، ولكن هذه الخلافات مهما حصلت لا يمكن أن تبرر القتل وإزهاق أرواح حرمها الله.. وحتى المعركة لو اقتضت الظروف حصولها فلها أصولها وأخلاقياتها، ولم يترك الامر مشرعاً ومفتوحاً تتلاعب به الانفعالات والأحقاد والضغائن والتوترات، ليخرج الخلاف عن طوره ويفلت من عقاله.

مع ان الاصل في الاسلام هو عدم وجود حروب لا باسمه ولا بغير اسمه .. الافي حالات مقيدة ومحددة .. والسلام عليكم هو الشعار، هو التحية التي تتردد ملايين المرات كل يوم .. السلام .. اي سلام هو هذا الذي يترافق مع الترويع والترهيب والتخويف والقتل، اي انفصام للهوية الاسلامية بتنا نشهده ويسبب الخوف والرعب وينشر الأذى..

هناك خلل وهناك فجوة، لان الدين لم يخلق لهذا.. انما خُلق الدين كوقاية وكعلاج لهذه الظواهر إن نشأت بين البشر.. خُلق الدين ليكون اداة فصل واداة تهدئة وتقريب وتأليف، ومن يقول غير هذا هو واهم وجاهل ومحرّف ..

فليأتونا من الدين بما يبرر تكفير من يقول لا اله الا الله مقابل الحديث: من قال لا اله إلا الله  محمد رسول الله، حرم عليك ماله ودمه وعرضه.

وليأتونا من يقول ان اهل القبلة الواحدة هم ليسوا على الدين نفسه.. أعطونا الدليل، ناقشونا حاورونا، يا من تستسهلون سفك الدم بغير وجه حق بناء على حجج واهية، ووجهات نظر لا تثبت امام النقد والبينات والاحاديث والادلة التي تمتلئ بها كتب المسلمين من كل المذاهب وعلى مدى العصور ..

ان ما يجري اليوم في ارجاء العالم الاسلامي ستخجل منه اجيال المستقبل، وسيخجل التاريخ من مسلمين فجروا انفسهم حقدا وعمى بصيرة ومن دون اي رحمة وهم يظنون ان الرسول ينتظرهم ليكافئهم. وقد نسوا ان رسول الله هو رسول الرحمة، يفعلون ذلك من دون ادنى شك ولو قرؤوا الاسلام لعرفوا كم كان شديدا وحساسا في موضوع الدم وحياة الانسان .

..اذا جاء أحد وسأل أؤلئك اليس في كتابكم آية تقول :{..مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا..} (المائدة/32) فبماذا يجيبون ؟

وكيف يفسرون آية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}.. هل يتنكرون لتفسيرات كل العلماء التي اعتبرت ان الله في هذه الآية حازم شديد اللهجة لاهمية الموضوع وخطورة ارتكابه: خلود في جهنم وغضب الله ولعنته وعذابٌ عظيم.

وماذا يفعلون بوصية نبيهم: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»، .. «فلا ترجعنّ بعدى كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ‏«‏إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها، على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق»..( وللأسف هناك من يتوقع ان يدخل الجنة بتفجيره أبرياء، فقط لانهم يخالفونه ولانهم مصنفون عند جماعته خارجون عن الدين ).

فتّشوا في كل أدبيات الإسلام بما فيها القرآن والأحاديث، والتشريعات، وإنتاج الفقهاء، لن يعثروا على مؤشر يمكن ان يكون دليلاً على صلة الإسلام كدين، بالارهاب والتكفير.

ان العنف والقسوة وسفك الدم منتجات لا تُصنّع في قلب مسلم مؤمن، إلا إذا خضع لعمليات غسل دماغ، يتولاها فريق عمل يعملون في غرف مغلقة يستغلّون الفضاء المفتوح ويستغلون المشاعر ويستغلّون تعطيل العقول.. يشتغلون بالباطل وهمهم ان يقنعوا العالم انه الحق…

وهمّ الباطل في الأمس واليوم، أن يظهر نفسه أنّه هو الحق، فحين استشهد علي (ع) في محراب الصلاة، استغرب كثير من أهل الشام ذلك، وتساءلوا: كيف ذلك وعلي لا يصلي؟ لان هذا ما كان يروّجه معاوية ويسخّر له أجهزة متعدّدة: رواة أحاديث، وقصاصي حكايات، وشعراء، وقضاة ومفسري قرآن، والهدف أن يشوّه صورة علي.

واليوم ربّما يوجد الكثير من المسلمين من يعتقد أن أتباع هذا المذهب أو ذاك هم كفار، وخارجون على الدين، ودمهم حلال، ويجب محاربتهم،. ويعلنون فتاوى في هذا الشأن … ويستغلون عاطفة وحماس الكثيرين .

ويقول لك قائل ما ذنب هؤلاء التابعين(المغسولة أدمغتهم) الله يقول لهم الجهل ليس عذرا وغسيل الادمغة ليس مبررا. والله لم يستثن من عقابه احداً حتى ولو كان على مستوى التنفيذ بكلمة تحريض او تشجيع او تجييش: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى". علما ان المسؤولية اكبر على المخططين والمهندسين والمتلاعبين بالعقول وبالأنفس والأرواح…..

ان المشكلة كل المشكلة في المعضلة التي نحن فيها ،هي من اين يؤخذ هذا الدين؟ من هم الوسطاء بين الناس ودينهم، بين الناس وكتابهم، وبين الناس وربهم؟ ما هو مستوى علومهم ومعارفهم، ما هو تاريخهم وواقعهم، ما هو منسوب تقواهم وورعهم، والاهم كيف هي قلوبهم ؟ هل هي قاسية؟.. عندها تكون المشكلة، وقد اعطانا الله مثلا اليهود الذين جعل قلوبهم أشد قسوة من الحجارة، بما فعلته ايديهم من التعصب والانانية.. و كذلك ضرب لنا مثلا قسوة فرعون والنمرود .. ثم لا ننس ان القسوة كانت عصا يزيد لإسكات الحسين، وإلغائه وشطبه، لأنه لم يستطع تحمل نقائه وصفائه…..

ايها الاحبة:

في مواجهتنا لهذا المنطق التكفيري الذي نعيشه.. نبدأ من درس علي : "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك "

– ان نحصد العنف من صدور غيرنا بتحصين صدورنا ضده..

– ان نحصد السوء من ألسنة غيرنا بتنقية ألسنتنا منه ..

– أن نحصد القسوة من قلوب غيرنا بملء قلوبنا بالرحمة واللين .

– ان لا نكون إلغائيين، ليس فقط في خطاباتنا اعلاميا او سياسيا على اهمية ذلك وضرورته، بل أيضا ان نكون كذلك حقا في بيوتنا ومدارسنا واحيائنا،

– لا نستعمل العنف لا مع بعضنا البعض ولا مع غيرنا فهو ليس لغتنا ، ولا اسلوبنا ،ليس لاننا في موقع الدفاع ، بل لاننا أتباع أمير المؤمنين علي(ع). علي الذي قال لاصحابه: "اكره لكم ان تكونوا سبابين "..

– لا ندعو على احد بالهلاك بل ندعو له بالهداية، لاننا على نهج الإمام الذي كان يقول،«لئن تهتدي إليّ فئة فتعشو إلى ضوئي لأحب إليَّ من أن أقاتلها أو تبوء بآثامها». علي الذي وقف أحدهم يسبّه ويقول: قاتله الله ما أفقهه من كافر. فوثب أصحابه ليقتُلوه فصاح بهم الإمام: «هوّنوا عليكم، وكفوا. إنه سبّ بسب أو عفو عن ذنب، وأنا أهلٌ لأن أعفو..»

هذا هو نهج الإسلام، وطريقه.

وسنظل ندعو الجميع للوحدة والحوار وسنظل نذكّر ونفتخر ان ديننا هو دين الرحمة وان رسول الله ارسل رحمة للعالمين.. وسنظل نسعى لبث قيمة الرحمة

فالرحمة تُعلم إلتقاء العقل مع العقل، والقلب مع القلب، والإنسان مع أخيه الإنسان، فهي حبّ وتواصل وخير وبناء. أما القسوة فهي باب الدمار، والخراب، والموت.

وقانا الله واياكم شرور التعصب وشرور غفلة العقل وقسوة القلب.. وندعو: اللهم ارحمنا برحمتك وارحم امة نبيك والطف بها وقها من شرور انفسها ومن المسيئين اليها ومن العابثين بها.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا أن ندعو الله عند أيّ كرب ونشكره، كما دعاه الإمام الحسين(ع) عندما حاصره جيش عمر بن سعد من كلّ جانب، ومنع عنه الماء، حيث تذكر السيرة أنّه توجّه إلى الله قائلاً: "اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي عند كلّ شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة. كم من كرب يضعف عنه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل عنه القريب والبعيد، ويشمت به العدو، وتعييني فيه الأمور، أنزلته بك، وشكوته إليك، راغباً إليك فيه عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولي كلّ نعمة، وصاحب كلّ حاجة".

أيها الأحبة، بهذه الثقة المطلقة بالله، والتي لا يشوبها شكّ، نواجه كلّ التحديات، سواء كانت أمنية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو ضغوط الحياة وصعوباتها، ونحن على ثقة بأن هذا الرب الرحيم الكريم الودود العطوف، لن يخذلنا، وسيكون معنا في كل الظروف، مؤيداً وناصراً ومعيناً ومثبتاً، ولا سيَّما في هذه المرحلة التي يواجهها لبنان وكل العالم من حولنا.

ونبدأ من لبنان الذي امتدت إليه الأيادي الآثمة من جديد، من خلال التّفجير المزدوج الَّذي حصل في بئر حسن، على مقربة من سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والَّذي أودى بحياة العشرات من المدنيين والأبرياء.

إنَّنا نرى في هذا التفجير خطورة كبيرة، نظراً إلى صورته، وأسلوبه، والموقع الذي حصل فيه، وتداعياته على البلد واستقراره، ونخشى أن يكون جزءاً من مسلسل يطاول أكثر من منطقة لبنانية، ويهدف إلى إدخال لبنان في أتون صراع مذهبي طائفي، ويجعل من دماء اللبنانيين وأجسادهم، صندوق بريد تُوجَّه من خلاله الرسائل للداخل والخارج.

ومن هنا، نتوجَّه إلى اللبنانيين، كلّ اللبنانيين، ولا سيما من هم في مواقع المسؤولية، للتنبه إلى هذا الخطر الداهم، الَّذي لن يقف عند حدود مذهب معيّن، ولا موقع سياسيّ أو دبلوماسيّ، بل سيمتدّ خطره إلى الجميع، فهذا ما أكَّدته كلّ التَّجارب السّابقة مع هذا العقل الإلغائي الإقصائي.

وندعو إلى عدم الاكتفاء بتصريحات الشَّجب والإدانة والاستنكار، والقيام بواجب التعزية بالضحايا، برغم أهمية هذا الأمر، بل لا بدّ من أن يضاف إلى ذلك، العمل على عدم تأمين البيئة الحاضنة لمن يفكّرون في القيام بهذه الأعمال، والسعي إلى تعزيز الوحدة الداخلية بكلّ عناوينها، والكفّ عن الشّحن المذهبيّ والطائفيّ، واعتماد الخطاب السياسي المتوازن والهادئ، وسد كل الثغرات الأمنيّة والسياسيّة. كما ندعو إلى التّنسيق الكامل بين الأجهزة الأمنيَّة، والمسارعة إلى تشكيل حكومة جامعة، تسهر على أمن البلد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

إننا نريد لكلّ اللبنانيين أن يكونوا خفراء على أمن هذا البلد، ويشاركوا الأجهزة الأمنية في أداء دورها. وهنا، لا بدَّ من تقدير دور الأجهزة الأمنية كافة، وعملها الدؤوب لكشف خطوط هذا العمل التفجيري. وإننا أمام هذه الفاجعة، نتقدَّم بخالص العزاء لكلّ عوائل الشّهداء، سائلين المولى أن يتغمّدهم برحمته الواسعة، وأن يشفي الجرحى ويخفف عنهم آلامهم.

وفي ذكرى الاستقلال، نجدّد الدعوة للبنانيين للحفاظ على هذا الإنجاز الوطني، من خلال تعميق منطق الاستقلال في داخل نفوسهم، بحيث لا يعيشون في هذا البلد بأجسادهم، فيما تبقى عقولهم وقلوبهم خارجه. ونحن هنا، لا نمانع أن يكون للبنانييّن والطّوائف والمذاهب والمواقع السياسيَّة، علاقاتهم الخاصة، شرط أن تكون لحساب هذا البلد، لا على حسابه.

إنَّنا نريد للبنانيين أن يعمّقوا استقلالهم، بتعزيز لغة الحوار فيما بينهم في كلّ القضايا، فلا يمكن لأيّ فريق في هذا البلد أن يعزل نفسه عن بقية الفرقاء، أو أن لا يبالي بمشاعرهم، كما نريدهم أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة كل المخاطر، ولا سيَّما الخطر الصهيوني الذي يهدّد استقلال البلد وثرواته النفطية كلّ يوم.

وعلينا في هذا اليوم أن نذكر أولئك الأبطال الذين صانوا ويصونون الاستقلال بدمائهم، وخصوصاً أبطال المقاومة، والجيش اللبناني، وكل الشعب الصّامد على حدود فلسطين، الذي يتحدى الكيان الصهيوني ويواجهه بصموده، وكل من يعمل في الليل والنهار ليبقى لبنان حراً مستقلاً سيداً.

وبعيداً عن لبنان، وانطلاقاً مما يجري في المنطقة، فإننا ننظر بإيجابية إلى كلّ الخطوات السياسيَّة في الخارج، لمعالجة الأزمات القائمة، سواء فيما يتعلق بالملف الإيراني النووي، حيث نسجّل لإيران موقفها الثّابت في الاحتفاظ بحقّها الشّرعي والقانوني في الملف النّووي السّلمي، أو فيما يتعلَّق بالملف السّوري، حيث نأمل أن ينطلق الحوار سريعاً بين مختلف مكونات الشعب السوري، لإيقاف نزيف الدم والدمار، والعودة بسوريا إلى شاطئ الأمان، وإن كنا لا نزال نرى تلكؤاً من الدول الكبرى الفاعلة في معالجة هذا الملف. كما ندعو إلى العمل لحوار جدي في مصر ينهي أزمة هذا البلد، وكذلك الأمر في تونس وليبيا واليمن والعراق والبحرين.

وأخيراً، ووسط كل أجواء التوتر الَّذي يعيشه العالم العربي والإسلامي، لا بدَّ من الالتفات إلى ما يجري في فلسطين، ولا سيَّما المسجد الأقصى، حيث يعمل العدو الصهيوني باستمرار لتقسيمه زمانياً ومكانياً، وصولاً إلى إزالة معالمه، ولا بدَّ من الوقوف إلى جانب الشّعب الفلسطيني ودعمه بكلّ الإمكانات، حتى لا يحقّق العدو أهدافه في لحظة تخلٍّ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ ودوليّة.

Leave A Reply