الثبات على الإيمان في زمن التحديات

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 
الخطبة الأولى
 

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} صدق الله العظيم

 

نعم، في زمن الفتن بكل ما تنتجه من الآم وجراح، يظلّ الاعتصام بحبل الله القويّ المتين هو الحصن وهو السّلاح والردّ. 

لقد حدّثنا رسول الله عن هذا الزّمن، وهو الّذي عانى الكثير الكثير ليرسي كلمة الحقّ والموقف الحقّ، إذ قال: «يأتي زمانٌ على أمّتي، القابض على دينه كالقابض على الجمر». سيكتوي بالنار من يثبت على دينه وقيمه وقرر أن يواجه الباطل ولا يستكين له.

 

إنّها حكاية بدأت منذ بدء الخليقة وستستمرّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ حكاية الصّراع بين الحق والباطل الذي لا يتوقف وحكاية الثّبات الذي لا بد أن يستمر؛ ثبات المؤمنين الصّابرين الّذين يقرّرون أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا، ويظلّوا ثابتين على إيمانهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى واحدة من صور الثبات هذه عندما تحدث عن أصحاب الأخدود الّتي تتكرّر في كلّ زمان ومكان، كلّما واجه الحقّ باطلاً.

 

أصحاب الأخدود ضربوا المثل الأعلى في ثبات النّفس والإرادة والكلمة، وحكاية أصحاب الأخدود، وإن كانت ظروفها مختلفة، لكنّ المغزى هو هو.

وملخّص هذه الحكاية، أنه قبل الاسلام وأيام المسيحية، اعتنق آخر ملوك اليمن (ذو نواس) اليهوديّة وقد استخدم نفوذه ليفرض عقيدته فرضاً على الناس من حوله فتحولوا الى اليهودية. وأُخبر ذو نواس أنّ في نجران قوماً لم يغيروا وثبتوا على ما جاء به السيد المسيح(ع)، ويعملون بأحكام الإنجيل ـ فسار إلى المدينة، وجمع من كان فيها على دين المسيحيّة، ليخضعهم فأبوا وثبتوا على إيمانهم، رغم التّهديد والوعيد، فما كان من الملك إلا أن حفر أخدوداً، أي خندقاً، مُلئ حطباً، وأُشعلت فيه النّار، وصار يُؤتى بالرّجل أو المرأة، ويُخيّر بين رمْيِهِ في النّار أو التّراجع عن دينه. وقد ذكرت الرّوايات الكثير من وقائع التّضحية، ومنها أنّ امرأة ومعها فتى لها، تقاعست أن ترمي نفسها عندما لفحها وهج النّار،وكادت تتراجع، فناداها ولدها: يا أمّاه اصبري، فإنّنا على حقّ، فرمت نفسها وولدها معاً في النّار. وفيها نزلت الآيات: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}

 

أيّها الأحبّة:

إن أصحاب الأخدود فئة ضعيفة بمقاييس القوة الظاهريّة المادية وبمقاييس النّاس، لكنّها ليست كذلك في مقاييس القوى الّتي تحرّك التّاريخ وتغيّر مسارات الأحداث.

هذه الفئة الضّعيفة ظاهريّاً، قرّرت التمرّد على ضعفها، وقلة عددها، وأخذت القرار أن تواجه السّلاح بالموقف، والنّار بالإيمان، والطّغيان بعدم الخضوع له والنزول عند إرادته، مؤسسين بذلك لبداية تمرد وتحرك وصولا الى ازالة هذا الطغيان وتثبيت منطق الحق وان التضحيات لا يمكن ان تذهب سدى في حسابات الله. مهما طال الزمان، فالله متم نوره ولو كره الكافرون.

 

والصّراع بين الحقّ والباطل، أيّها الأحبَّة، ليس حالة طارئة في حياة البشريَّة، هو موجود منذ أن وجد الإنسان، ومنذ أن وجد الخير والشّرّ، ورحى هذه المعركة مستمرّة في الدّوران، فثمَّة معسكران في كلّ مرحلة؛ الأوَّل طواغيت وفراعنة وجبابرة ومستكبرون يظنّون أنَّ الحياة خُلقت من أجلهم ومعهم، أذنابهم ممن يسبِّحون بحمدهم أو ينفّذون خططهم لقاء فتات موائدهم،من الذين يبيعون قيمهم ودينهم ومبادئهم لحسابهم. والمعسكر الثّاني معسكر الحقّ والعدل والحريّة ورفض الظّلم والطّغيان، وقادته الأنبياء والرّسل ومن اتّبعوهم بإحسان ممن هم على استعداد للتّضحية بالغالي والنّفيس لأجل تثبيت ما آمنوا به. لأجل أن تستقيم الحياة بالعدل والحرية وتزول سطوة الطواغيت.

 

أيّها الأحبَّة:

لقد قصّ القرآن الكثير من وقائع هذا الثّبات والتمسّك بالإيمان، ولعلَّ النّمرود الّذي وقف في مواجهة دعوة النبيّ إبراهيم(ع) وحكم عليه بالحرق بالنَّار ليس أوّل نيرون في التّاريخ سعى لإسكات صوت الحقّ، ولن يكون آخره، فهناك أكثر من نيرون أتى بعد ذلك، وهو موجود الآن، وسيأتي في المستقبل…وهذا النمرود قد لا يكون فردا بل جماعة ودولاً.. مثله مثل فرعون الذي واجهه موسى وانتصر عليه مع قلة قليلة من المستضعفين بعون الله.

 

لقد كان لسلاح الثّبات على المبدأ، والصّبر على تحمّل تبعات الموقف، الدّور الحاسم في استمرار مسيرة الإيمان، الّتي كان يتسلّم رايتها نبيّ لاحق من نبيّ سابق.

من هنا سرّ تركيز القرآن على خُلُق الثّبات في صناعة شخصيّة المؤمن. فهذا الثّبات كان الكيمياء السحريّة الّتي أنتجت شخصيّات لا تهزّها مغريات الدّنيا ولا أسلحة الطّواغيت في مسيرة الإسلام، أمثال عائلة ياسر، وبلال، وأبي ذرّ، ومالك الأشتر، والمقداد، وغيرهم الكثير، مثل هؤلاء الكثير ممن استجابوا لله حين ناداهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

 

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ *أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 

 

 

إنَّ التربية الإلهيَّة للأنبياء على الثّبات، ومواجهة أيّ تهديد لضرب الرّسالة، تنطلق من إعداد نفسيّ متين للمؤمنين: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}

الدِّين ـ أيُّها الأحبَّة ـ يتوجَّه دائماً إلى تحرير الإرادة من أزمة الارتهان لخوف أو رغبة أو مصلحة أو ضعف أو قهرأو لألمٍ أو معاناة.  كانت الإرادة تُوجَّه دائماً إلى نقطة رجاء واحدة: الله الواحد الأحد {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا، كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}

 

كان الدّين ولا يزال يكرِّس عند المؤمن حقيقة غير قابلة للتّغيير أو التّمييع: المؤمن المؤمن، والمؤمن الموقن بالله، لا يُهزم مهما كانت نتائج المواجهة أو المعركة، فالثّبات على الحقّ والدّفاع عن الموقف، والصّمود في وجه أيّ باطل، هو بحدّ ذاته تأسيس لنصر… إرهاصات هذا النّصر تتراكم يوماً بعد يوم، وما لا أنجزه أنا وأنت، سينجزه آخرون غداً وبعد غد، والمهمّ أن تستمرّ المسيرة. وقد وعد الله الذين استضعفوا في الأرض أن يكونوا الوارثين…

 

ويبقى الأساس الذي يطمح إليه كل مؤمن أنَّ بلوغ الجنّة يكون بالثّبات: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}

 

 كم نحن بحاجة إلى هذا الثّبات، نربّي عليه أنفسنا، وندعو إليه غيرنا، لنواجه به التحدّيات؛ تحدّيات الانحراف والطّغيان والظّلم، كي لا تهتزّ الأقدام وتتزلزل المواقف وتضعف النّفوس. حيث بات القابض على دينه وعلى مبادئه وعلى مقاومته وعلى كرامته، كالقابض على الجمر، وكالذي يسير عكس التيّار، ولا بدّ من أن يعاني.

 

وليكن دعاؤنا: اللّهمّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا، كما ثبّتّ المجاهدين في سبيلك من قبلنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، كما هديت المؤمنين بك منذ بدء الخليقة، وهب لنا من لدنك رحمة، بما أنت رحمة للعالمين، إنّك أنت الوهّاب.

 

ربّنا أفرغ علينا صبراً، وثبّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا واياكم الصبر والثبات

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله في كلّ الظروف، فالتقوى هي الَّتي تجعلنا أكثر انشداداً إلى الله وتمسّكاً به، وتشعرنا بالأمان والاطمئنان ما دام الله معنا، وكما وعدنا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، ومن يشعر بأنَّ الله معه، فلن يضعف ولن ينهزم، مهما اشتدَّت الصّعوبات وكبرت الآلام. إننا نتطلّع إلى هذه المرحلة بهذه الروحيّة، وبها نواجه التّحديات.

 

لبنان

والبداية من الجريمة المروّعة الّتي حصلت في برج البراجنة يوم أمس، وأدَّت إلى استشهاد عدد كبير من الناس، وجرح العشرات من الأطفال والنّساء والشّيوخ والشّباب، ممن كانوا في مساجدهم وبيوتهم ومحلاتهم، ومن العائدين من مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم.

لقد جاءت هذه الجريمة لتشكّل شاهداً إضافياً على الطَّبيعة الإجراميَّة للَّذين خطَّطوا لهذا العمل وقاموا به، ومدى الخطر الَّذي لم يعهِ البعض؛ خطر من يقتل بدون حساب، ولا يراعي في ذلك ديناً أو إنسانيّة، فأيّ ذنب ارتكبه كلّ هؤلاء الناس حتى يُقتلوا ويُجرحوا وتدمّر محلاتهم ويروّع الآمنون في بيوتهم!؟

 

إنَّنا لا نرى هدفاً لمرتكبي هذه الجريمة سوى القتل للقتل، وتنفيس الحقد تجاه هؤلاء الناس الطيبين والعزّل والآمنين، فالهدف إن كان مذهبياً، فالذين قتلوا وأصيبوا هم من مذاهب مختلفة، وإن كان سياسياً، فما يعرفه هؤلاء أنه ليس في موقعه، وهو لا يُصرف في السّياسة. وإن كان الهدف هو تغيير قناعات، فهذا العمل الوحشيّ لا يغيّر القناعات بل يعمّقها، وإن كان الهدف من ذلك هو الترهيب، فالكلّ يعرف طبيعة هذا المجتمع الذي لا يستكين للترهيب، وهو الذي تربّى على قول: "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذَّليل، ولا أقرّ إقرار العبيد"، وحمل عبء القضايا الكبيرة، وتحمّل ما تحمّل من أجلها، وهو دائماً على استعداد ليتحمّلها، انطلاقاً من دينه وإيمانه ورسالته.

 

لقد باتت الحاجة كبيرة في هذا الوقت، وأكثر من أي وقت مضى، إلى تضافر الجهود لمواجهة جادّة وواعية وحكيمة لهذا المنطق التدميريّ الإلغائيّ والإقصائيّ، الَّذي يرفض أصحابه كلّ الذين يختلف معهم، والَّذي يصيب القيم والدين، كما يصيب الإنسان والمجتمعات والأوطان.

إنَّ الحاجة ماسّة لمواجهته فكرياً وثقافياً وسياسياً وأمنياً، وتجفيف منابعه، لا المالية فحسب، بل الفكرية والدينية والسياسية أيضاً، وإنهاء التغطية التي يحظى بها على كلّ المستويات، ومعالجة الأسباب التي ساهمت في تنامي هذا المنطق، الذي بات التيار الغالب في هذه المرحلة، بعد أن كان لا قرار له ولا استقرار ولا موطن، لا في العقول ولا في القلوب…

وهنا، ندعو إلى تكاتف جهود الجميع من كل الأديان والمذاهب والمواقع السياسية والدول للتصدي لهذا الخطر، فهذا المنطق لا يمكن أن يكون قوةً لأحد، ولا يمكن أن يستند عليه أحد، فهو مشكلة للجميع إن استشرى، ولذا على الجميع أن يتحمّل عبء مواجهته.

 

إن هذه الفاجعة أدمت القلوب، لكنها ممزوجة، كما عوّدتنا هذه المنطقة، بالعنفوان والصبر والثبات والعزيمة والإرادة، وقد أجّجت في الوقت نفسه، مشاعر الغضب لدى الجميع، بصرف النظر عن انتماءاتهم.

 

إننا نتقدَّم من عوائل الشّهداء بأحرّ تعازينا القلبية، ونسأل الله تعالى الرحمة وعلوّ الدرجات للشهداء، وندعو للجرحى بالشفاء العاجل. وفي الوقت نفسه، نثمّن هذا الجوّ التضامنيّ العالي الذي لمسناه من كلّ القوى السياسية والدول والمرجعيات الدينيَّة، والذي نريده أن يتحول إلى مشروع عمل، بحيث لا يبقى في إطار المجاملات أو المشاعر التي تنتهي بانتهاء أمدها، وبذلك، نفوِّت الفرصة على مرتكبي هذه الجريمة، والنافخين في نار الفتنة المذهبية بين اللبنانيين أنفسهم، أو بين اللبنانيين والسوريين، أو بين اللبنانيين والفلسطينيين.

 

لقد باتت الحاجة أكبر إلى تعزيز مناخات الحوار والتلاقي، ومعالجة الأزمات المستعصية التي يعانيها هذا البلد، وتشكيل أرضية أمان، بعدما بات واضحاً أنَّ الغطاء الأمني الذي كان يظلّل لبنان، قد فتق، ولا نقول إنه انتهى.

إنَّ علينا أن نعي مدى صعوبة المرحلة وتداعياتها، في ظلّ استعار النيران على أكثر الجبهات في المنطقة، وسعي كلّ الأفرقاء لتحقيق مكاسب إضافية انتظاراً للاستحقاقات القادمة، والَّتي على اللبنانيين أن يقوا أنفسهم منها بمزيد من الوحدة والتضامن الفعّال والتعاون مع الجهات الأمنيّة، بحيث يكون كلّ مواطن خفيراً في منطقته لمنع تسلّل من يريدون إشعال الفتنة والعبث بأمن هذا الوطن وتنفيس أحقادهم.

إنَّ كلّ هذه الدّماء والدّموع تستصرخ المسؤولين حتى يجمّدوا خلافاتهم وصراعاتهم، ويسارعوا في إيجاد الحلول للمشاكل المستعصية الّتي تربك البلد، وتجعله في مهبّ الرياح العاتية والعواصف الهوجاء، ولا سيّما مشكلاته الحياتيّة، وعلى رأسها النفايات.

 

إننا نأمل أن يكون التوافق على الجلسة التشريعية مقدّمة لجلسات تشريعية متتالية، فإذا كانت الضرورة قد حكمت انعقاد هذه الجلسة، فالضرورة تقتضي أن تتابع جلسات المجلس النيابي والحكومة، وتقتضي أيضاً الإسراع في إيجاد توافق داخلي يسمح بانتخاب رئيس جمهورية يمتلك أهلية لإدارة شؤون البلد، وقدرة على مواجهة التحديات الكبيرة التي تنتظر لبنان، والتي قد تمسّ وحدته وحتى كيانه.

وفي الاتجاه نفسه، يبقى أن نشير إلى الاستهداف الَّذي لا يزال لبنان يتعرّض له من الكيان الصّهيونيّ، من خلال الكشف الأخير عن شبكة عمالة جديدة تهدف إلى جمع معلومات عن شخصيّات وجهات لحساب هذا العدوّ…

إنَّنا في الوقت الَّذي نقدّر للجهات الأمنيّة دورها الفاعل في الداخل اللبنانيّ في المتابعة المستمرّة لعملاء العدوّ.. والملاحقة لكلّ المتربصين بأمن هذا البلد وقوته، ننبّه كلّ الذين انشغلوا عن هذا الكيان، إلى أنّهم إن نسوا هذا العدو فهو لن ينساهم..

 

يوم الشهيد

وأخيراً، مرَّت علينا قبل أيام ذكرى يوم الشَّهيد ـ وكلّ الأيام للشهداء ـ الّتي هي مناسبة تعيدنا بالذاكرة إلى أولئك الّذين قدَّموا أغلى التَّضحيات، ولم يبخلوا على وطنهم وأمتهم بأغلى ما عندهم، عندما دعاهم الواجب إلى أن يقفوا في وجه المحتلّ والغازي والعابث بكرامات الناس ومقدّراتهم والمستهين بالحرمات.

ونحن عندما نتنفّس العزّة، ونشمّ نسائم الحرية، ونشعر بالفرح والعنفوان والقوّة، نرى جهود هؤلاء حاضرة وراء كلّ ذلك، ومن حقّهم علينا أن نتابع ما بدأوه، وأن نبقيهم في الوجدان.. فالأمة الواعية هي الّتي ترفع شهداءها على الأكفّ.. وتجعلهم قادة مسيرتها…

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله 

التاريخ:1 صفر 1437هـ الموافق: 13 ت2 2015
 

 

Leave A Reply