الثّقة بالله والتّوكّل عليه في مواجهة مخاطر الحياة

 

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. صدق الله العظيم.

الخوف حالة غريزيّة وفطريّة في الإنسان، فمن الطبيعيّ أن يخاف من كلّ ما يهدّد أمنه وحياته واستقراره، أو من كلّ ما يعرّضه لأذى جسديّ أو معنويّ، أو ما يجعله في معرض الإصابة بالآفات والأمراض…

الاستعانة بالله

ومن رحمة الله بعباده، أنّه لم يتركهم يواجهون هذه المخاوف، فهو مدَّهم بالقدرات العقليّة والإمكانات الجسديّة، والوسائل الماديّة التي تجعلهم قادرين على دفعها، والوقاية منها.

ولم يقف الأمر عنده على ذلك، فقد أكّد الله لهم أنه حاضر في حياتهم، وهو غير غائب عنهم، وأنّه المهيمن على الأمر كلّه، فلا أحد غيره يملك أمراً من دونه، فله الخلق والأمر، وكلّ الخلائق لا تملك لنفسها نفعاً ولا خيراً إلا به {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وهو لذلك، دعا الإنسان عندما يواجه المخاوف، أن لا يشعر بأنّه وحيد مستفرد أمامها، وأن يتوكَّل عليه، ويستعين به، وأن يلجأ إليه في كلِّ أموره وقضاياه.. ولذلك قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}.

معنى التوكّل

والتوكّل على الله سبحانه وتعالى ليس كلمةً تقال، إنما هو ذلك الإحساس الذي يملأ القلب، ويشعر الإنسان حقيقة بأنَّ الله هو من بيده الأمر والتَّدبير، فلا يرى أحداً غيره رازقاً وناصراً ومعيناً ومؤيّداً وطبيباً ومعطياً ومانعاً، وأن لا قوّة فوق قوّته، ولا حكمة فوق حكمته، ولا أحد يحبّ عباده كما يحبّهم، فيدفعه ذلك إلى أن يضع أموره عنده ويستند إليه ويثق به، وهو ما يمدّ الإنسان بطاقة معنويّة وروحيّة كبيرة، وسيكون الله عند حسن ظنّ عبده المتوكّل عليه، ولن يخذله.

وهذا ما أشار إليه رسول الله (ص)، عندما سئل عن حدّ التوكّل فقال: “العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك، لم يعمل لأحد سوى الله، ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم يطمع في أحد سوى الله، فهذا هو التوكّل”.

وقد عبَّر عن ذلك النبيّ إبراهيم (ع)، عندما كان يرى الله حاضراً في كلّ شيء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.

المتوكّلون بعين الله

وقد أشارت الآيات والأحاديث الشّريفة إلى أنّ المتوكلين على الله سيكونون بعين الله ورعايته، فلا يمكن لهذا الربّ الرّحيم إلا أن يكون عند حسن ظنّ من وثق به حقيقة، ورأى فيه الأمل والمرتجى.

وهذا ما أشار إليه تعالى عندما تحدَّث عن رسول الله (ص) والذين كانوا معه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

وهو ما قاله لرسوله (ص) عندما وثق بتأييده له، عندما وصل المشركون إلى باب غار ثور، حيث اختبأ بعيداً من أعين قريش التي كانت تلاحقه في طريق هجرته من مكّة إلى المدينة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَ}.

وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْر}.

وقد ورد في الحديث: “من توكَّل على الله، ذلّت له الصّعاب، وتسهَّلت عليه الأسباب”.

وفي الحديث: “الثّقة بالله تعالى ثمن لكلّ غال، وسُلَّم إلى كلّ عال”.

السّعي أوّل

ولكنّ الحديث عن التوكّل، لا ينبغي أن يفهم أنه بديل من السّعي والعمل والقيام بالمسؤوليّات التي ينبغي على الإنسان القيام بها، كما يعتبر البعض أنّه بتوكّله على الله، أو بدعائه، سيحصل على ما يريد، من دون الأخذ بالأسباب والنّعم التي وفّرها الله له في مختلف جوانب الحياة.

وأنتم تعرفون قصّة الرّجل الذي دخل المسجد ولم يربط ناقته عند دخوله، اعتقاداً منه أنّه بتوكّله على الله لن تهرب، فخرج من المسجد فلم يجد النّاقة، فجاء إلى رسول الله مستنكراً، قائلاً له: يا رسول الله، كيف تدعونا إلى التوكّل، وأنّ الله يكفينا همَّ أمور الدنيا بتوكّلنا عليه، ولم يحصل ذلك مع ناقتي؟ فقال له (ص): “اِعقلها وتوكّل”، أي قم بما عليك القيام به، حيث كان عليك أن تربطها بما يمنعها من أن تشرد، واترك بعد ذلك الأمر لله فيما لا قدرة لك عليه، فالله عندها سيكفيك الأمر.

وهذا ما عبَّر عنه رسول الله (ص) لأصحابه، فقد ورد أنّه لما نزلت الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ…}، أغلق بعض أصحابه الأبواب، وقالوا قد كفينا بعد أن اتّقينا الله، وتوكّلنا عليه، فجاء رسول الله (ص) ونهاهم عن هذا المنطق، وقال لهم: عليكم بالطلب ثم التوكّل عليه. لذلك، أشارت الأحاديث إلى أن المتوكّلين هم الزارعون، الذين يحرثون الأرض ويبذرون البذور فيها ويسقونها، ثم يتوكّلون على الله في ما لا قدرة لهم عليه.

واجب أخلاقيّ ودينيّ

لذلك أيّها الأحبّة: أمام كلّ التحدّيات التي تواجهنا، والظروف الصّعبة التي تعصف بنا، وما أكثر هذه التحدّيات! سواء كان ما يواجهنا تحديات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية، وخصوصاً التحدّيات الصحية التي تداهمنا في هذه الأيام، علينا أن نقوم بكلّ ما يمكننا القيام به، من تطويرٍ لسبل الوقاية والعلاج، ومن التزامٍ بما ينصح به ذوو الخبرة، والذي يرقى لأن يكون واجباً أخلاقيّاً ودينيّاً، وأن نتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى بقلوبنا، لنعلن له أننا واثقون بأنّه القادر على أن يخرجنا من كلّ ما نعانيه ونخافه، وأن ينقلنا من عسر إلى يسر، ومن بلاء إلى عافية، ومن شدّة إلى رخاء.

لذلك، سندعو الله أمام كلّ ما يجري: “اللّهمّ! من أمسى وأصبح وله ثقة أو رجاء غيرك، فإنّي أصبحت وأمسيت وأنت ثقتي ورجائي في الأمور كلّها؛ فاقض لي بخيرها عاقبة، ونجّني من مضلات الفتن، برحمتك يا أرحم الراحمين”.

 

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالاستهداء بالصفة التي تميّز بها الإمام الجواد (ع) الذي نعيش ذكرى ولادته في العاشر من شهر رجب، وهي صفة الجواد، فقد كان كريماً معطاءً، لا يبخل على الناس بكلّ ما منّ الله عليه، وهذه قيمة نحن أحوج ما نكون إلى أن نستهدي بها، لبناء مجتمع قويّ متماسك ولمواجهة التحدّيات.

أيّ معالجة للأزمات؟!

والبداية من لبنان، الذي تقف فيه الحكومة على عتبة امتحان جدّيّ، حيث ينتظر كلّ من في الداخل والخارج، الأسلوب الذي ستتعامل به الحكومة مع استحقاقات مصيريّة، سواء منها ما يتعلق بسداد الدَّين المعجَّل، حيث تقف الحكومة أمام خيارات أحلاها مرّ، أو في نوعيّة الحلول التي ستطرحها لمعالجة الأزمات الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة.

وكيف ستتعامل مع ملفات شائكة كملفّ الكهرباء والنفايات، والارتفاع المتزايد لسعر الدولار، وودائع الناس في المصارف… والنجاح في هذا الامتحان لن يكون سهلاً، باعتبار حجم الملفّات المتراكمة على هذه الحكومة، فهي تحمل على كاهلها أزمات العقود السابقة، والتي أوصلت البلد إلى حدّ الانهيار، وتتحرّك في ظلّ تعقيدات الداخل، سواء من القوى السياسية المعارضة للحكومة، أو من الشارع الذي عاد لينتفض مجدّداً في وجهها ولم يعطها الثقة، وفي ظلّ ضغوط الخارج الذي لايزال يرسم علامات الاستفهام حولها، وهو بالتالي لن يقدم لها مساعدات، وإن قدّم لهاـ فلن تكون كافية للخروج من أزماته.

بالطبع، فإن هذه الأوضاع الضاغطة لا تفرض عليها الاستسلام، بقدر ما تدعوها إلى المزيد من العمل وبذل الجهد لمعالجة كلّ الملفّات التي تواجهها بجدّية، وبعيداً من كلّ المحاصصات والحسابات الخاصّة، وهي كفيلة إن حصلت، أن تفرض نفسها على الداخل والخارج، وتردّ على الأصوات المشكّكة فيها.

وهنا ننوّه بالإجراءات الأخيرة التي أخذتها الحكومة، لرفع السرية المصرفية عن كلّ الذين يمارسون عملاً عامّاً، ونأمل أن تأخذ هذه الإجراءات طريقها إلى التّنفيذ، وأن تتبعها إجراءات مماثلة تعيد ثقة المواطنين بالدّولة بعدما فقدوا الثقة بها.

وفي إطار الحديث عن المعالجات، فإننا ندعو الحكومة إلى أن لا تكون هذه المعالجات على حساب أغلبيّة المواطنين، الذين لم يعودوا قادرين على تحمّل أعباء يبشَّرون بأنها ستطال مواردهم وأرصدتهم وحاجاتهم الإنسانيّة، بل أن يتحمّلها كل الذين أثروا على حساب ثروات الشعب وإمكاناته، في عمليّة نهب وفساد غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد، والتي كان نظام المحاصصة الغطاء الأبرز لتمريرها، من دون أيّ رقيب أو حسيب، وبتواطؤ واضح بين القوى السياسيّة والماليّة.

أزمة المصارف!

في هذا الوقت، برزت إلى الواجهة أزمة المصارف في ظلّ القرار الذي صدر بحقّها، وبعيداً من صوابية هذا القرار أو عدمه، فإنّنا ندعو إلى معالجة هذا الملفّ بكلّ حكمة وجدّية، والذي باتت تداعياته واضحة على المواطنين، فإن كان القرار القضائي الآخر قد جمّد هذا الملفّ، فإنه لا يعني أن يغلق على زغل، فمن حقّ المواطنين أن يعرفوا ماذا حصل، سواء فيما يتعلّق بودائعهم التي يخشون من ضياعها، أو ما يتعلّق بالمال المهرَّب إلى الخارج.

في مواجهة كورون

وفي مجال آخر، وفي إطار الأزمة الصحيّة التي لاتزال تعصف بلبنان أسوةً ببقيّة العالم، والتي بات من الواضح أنها تتطلّب المزيد من الإجراءات التي ينبغي للدّولة بكلّ أجهزتها القيام بها، لمعالجة تداعيات هذا المرض، وتأمين كلّ المستلزمات لمواجهته، وأن لا يمنعها عن ذلك حاجز أو رفض من هنا وهناك.. بعد أن بتنا نسمع عن ممانعة من قبل قوى سياسيّة وغير سياسيّة في بعض المناطق لتجهيز مستشفيات حكوميّة، بما يجعلها قادرة على استقبال حالات قد تحصل في هذه المناطق أو خارجها.

وفي الوقت نفسه، فإننا نهيب باللّبنانيّين أن يكونوا على مستوى المسؤوليّة لمنع انتشار هذا المرض، بالالتزام بإجراء العزل المنزليّ لمن بلزم منهم العزل، والأخذ بسبل الوقاية، إن من ناحية النظافة الشخصية، أو بتفادي السلام بالأيدي أو التّقبيل أو التواجد في أماكن الاكتظاظ حيث لا تدعو الحاجة الماسّة إليه، وكما أشرنا سابقاً، فإن هذه المسؤولية ليست خياراً، بل هي واجب ديني ووطني وإنساني تجاه النفس والآخرين.

ونحن في هذا الوقت، وكما ندعو إلى الوقاية الصحيّة، ندعو إلى توقي الأخبار غير الدقيقة التي تنتشر على بعض مواقع التواصل، سواء التي تهوِّل من هذا المرض، أو تلك التي تقدِّم أخباراً مغلوطةً عن أعداد المصابين، أو عن طبيعة هذا المرض، والرجوع في ذلك إلى ذوي الاختصاص الذين يؤكّدون أن هذا المرض بحدّ ذاته ليس خطيراً، ولكن مشكلته تكمن في عدم اتخاذ إجراءات الوقاية وفي سرعة انتشاره.

ذكرى مجزرة بئر العبد

في هذا الوقت، تطلّ علينا في الثامن من هذا الشّهر ذكرى مجزرة بئر العبد، التي سقط فيها المئات من الشّهداء والجرحى بهدف اغتيال رجل كان هو عنوان المرحلة في الوعي والموقف الصّلب تجاه العدوّ ومن وراءه، وقد حمى الله السيّد فضل الله (رض) آنذاك، ليؤدّي دوره الرّساليّ، ويقود حركة الوعي والمواجهة في الأمَّة على مختلف المستويات.

إنّنا عندما نستذكر هذه المحطّة، نؤكّد على الجميع أن يستعدّوا لمزيد من الوعي، وتحمّل المسؤولية في وجه الذين صنعوا المأساة في الماضي ولايزالون يصنعونها في الواقع.

مناسبة عيد المعلّم

وأخيراً، نتوقّف عند مناسبة عيد المعلّم، لنهنِّئ المعلمين والمعلمات في عيدهم، ولنعبّر عن التقدير والشّكر لدورهم في تنمية العقول، وتربية الأجيال.

 

Leave A Reply