الحثُّ على ضَبْطِ الغضبِ اتّقاءً لآثارِهِ المدمِّرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 133- 134]. صدق الله العظيم.

من الطبيعي أن يغضب الواحد منَّا إن تعرَّض له أحد بأذى جسدي أو معنوي، أو تعرض أحد لعائلته أو طائفته أو مذهبه أو الجهة التي ينتمي إليها أو لمقدَّس من مقدَّساته، بل قد لا يكون من الطبيعي أن يحدث أيٌّ من ذلك ولا ينفعل أو يتوتر، بل قد يكون ذلك واجباً عندما يكون الغضب لله عزّ وجلّ أو لانتهاك حرمة من حرم الله.

من عواقبِ الغضبِ

فالغضب، إذاً، أمر طبيعي وصحي، لكن هذا الغضب قد يصبح مدمِّراً، وقد تكون عواقبه وخيمة إن تركه صاحبه يتمادى ولم يتحكَّم به. ويكفي للدلالة على ما قد يؤدِّي إليه الغضب، ما نشاهده ونسمع به من توترات ومشاكل تحدث، داخل البيوت أو بين الجيران أو الأحياء، أو على الطرقات أو بين العائلات أو الجهات السياسية، والتي أدَّت وتؤدّي إلى فتن وحروب وقتل أو حالات طلاق أو قطيعة وتنابذ وهجران، هذا إلى جانب الآثار الصحية والنفسية التي تنتج من الغضب.

وهذا ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة، ففي الحديث: "الغضب جمرة من الشيطان توقَد في قلب ابن آدم". وفي الحديث: "الغضب مفتاح كلّ شرّ". وفي الحديث: "أيّ شي‏ء أشدّ من الغضب؟ إنَّ الرجل ليغضب فيقتل النفس الّتي حرَّم الله ويقذف المحصنة".

وعلى صعيد الإيمان، ورد الحديث: "الغضب يُفسِد الإيمان كما يُفسِد الخلُّ العسل".

وتداعيات الغضب لا تقع فقط على الآخرين، بل على نفس الغاضب، في الصورة التي يبدو عليها عند غضبه، وفي الكلام والتصرفات التي تصدر عنه، والتي قد تسقط موقعه واحترامه، وحتى كشف أسراره التي لا يريد لها أن تكشف، وفي ذلك قول الشَّاعر:

أَغْضِبْ صَدِيقَكَ تَسْتَطْلِعْ سَرِيرَتَهُ للِسِرِّ نَافِذَتَانِ: السُّكْرُ وَالغَضَبُ

ولذلك ورد في الحديث: "الغضب ممحقة لقلب الحكيم".

الإمساكُ بلجامِ الغضب

ومن هنا، حثَّت الآيات القرآنية والأحاديث الإنسان على أن لا يدع غضبه يتحكم به، وأن يمسك بلجامه ليمنع أيّ تداعيات تحصل من ورائه على صعيد الدنيا والآخرة.

فعلى صعيد الدنيا ورد: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله"، "ومَن كَفَّ غَضَبَه، سَتَرَ اللهُ عَورَتَه".

أما على صعيد الآخرة، فقد أشار الله سبحانه إلى أن إمساك الإنسان لغضبه، هو الطريق لبلوغ رحمته وبلوغ جنته، عندما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وفي الحديث: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة"، وفي الحديث: "مَنْ كَفَّ غضبَهُ، كَفَّ اللهُ عنهُ عذابَهُ".

والإنسان قادرٌ على ضبط غضبه إن هو أراد وقرَّر، وليس صحيحاً أن يقول أحدهم أنا لا أملك أعصابي، وهذا الضَّبط مظهر قوَّة لا مظهر ضعف، وهو ما أشار رسول الله (ص) إليه عندما "مرّ بقومٍ يرفعون حجراً، قال: ما هذا؟ قالوا: نعرف بذلك أشدَّنا وأقوانا. فقال (ص): ألا أخبركم بأشدكم وأقواكم؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: أشدكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق".

وسائلُ لتجاوزِ الغضب

ولم يكتف الإسلام بأن حثَّ الإنسان على امتلاك غضبه، وأظهر له الفوائد الكثيرة التي تحصل له من جراء ذلك، بل أمدَّه بالوسائل التي تعينه على تجاوز غضبه.

أولاً: أن يرى في ذلك تخلقاً بأخلاق الله وتمثلاً به، فالله سبحانه لا يتصرف بغضب مع عباده، أو برد فعل عندما يسيئون التصرف معه ويعصونه، رغم كل ما قدَّمه ويقدِّمه إليهم، بل يحلم عنهم، وهذا ما نعبِّر عنه في الدعاء: "تَتَحَبَّبُ إِلَيْنا بِالنِّعَمِ وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ إِلَيْنا نازِلٌ وَشَرُّنا إِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يزالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ يَأْتِيكَ عَنّا بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ أَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ، وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما أَحْلَمَكَ وَأَعْظَمَكَ وَأَكْرَمَكَ!".

وفي ذلك، ورد الحديث عن رسول الله (ص): "يا عليّ لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد وتفكَّر في قدرة الربِّ على العباد وحلمهِ عنهم".

ثانياً: أن يتذكَّر الإنسان الله عند غضبه، لأنه بذكر الله تسكن النفس وتهدأ وتطمئنّ، وحتى يذكره الله عند غضبه عليه.

فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): "إن الله عزّ وجل أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه: أن اذكرني عند غضبك أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق".

ثالثاً: أن يصمت الإنسان عندما يتعرَّض لموقف يؤدي إلى غضبه، حتى لا تصدر عنه الكلمات التي تسيء إليه وإلى الآخرين أو يتصرَّف من موقع انفعاله.

ففي الحديث: "دَاوُوا الغَضَبَ بِالصَّمْتِ".

رابعاً: أن يغيِّر الوضعيَّة التي هو عليها، وقد أشارت الأحاديث إلى أنَّ عليه إذا كان قائماً أن يجلس، وإذا كان في مكان فلينتقل منه إلى مكان آخر. وقد ورد في الحديث: "إذا غضب أحدكم فليتوضَّأ".

خامساً: أن يتمثل بذلك بالنبيّ (ص) والأئمّة (ع) الذين ما كانوا يتسرعون بالغضب، وكانت أبرز صفاتهم الحلم.

وننقل في ذلك ما ورد في السيرة عن أعرابي أتى إلى رسول الله (ص)، فأمسك بتلابيب صدره، وقال له: يا محمَّد، اؤمر لي بعطاء، فليس المال مالك، ولا مال أبيك. هنا تذكر السيرة أن رسول الله (ص) اكتفى بأن ابتسم له وأمر له بعطاء.

ويبقى أخيراً، وهو الأهمّ، أن يتَّقي الإنسان ما أمكن المواقع التي تؤدي إلى غضبه، وقايةً له من تداعياتها، وخشيةَ أن لا يملك نفسه.

ومن هنا، جاء وصية رسول الله (ص) لرجل جاء إليه قائلاً: علِّمني جوامع الكلم، فقال له رسول الله: لا تغضب (أي لا تتواجد في أماكن تعرف مسبقاً أنها قد تؤدي إلى غضبك).. فأعاد الرجل عليه، فكرر رسول الله عليه أن لا يغضب، وكررها رسول الله ثلاثاً.

أهميّة استحضار هذه القيمة

أيُّها الأحبة: إننا أحوج ما نكون في هذه المرحلة إلى استحضار هذه القيمة، قيمة الإمساك بالغضب، لأننا نعيش في واقع كل ما فيه يدعو إلى التوتر وفقدان الأعصاب، بسبب تزايد الأعباء المعيشية ومتطلبات الحياة التي باتت تثقل كاهل الإنسان وتخرجه عن طوره وتفقده توازنه، أو لما نشهده من ظواهر الفساد والانحراف، أو للظلم المستشري من حولنا وفي هذا العالم، وما تنقله وسائل الإعلام وتبثه مواقع التواصل من التصريحات أو التعليقات أو الكلمات غير المسؤولة.

إننا لن نستطيع أن نعزل أنفسنا عن هذا الواقع أو نهرب منه أو أن نتجرَّد من أحاسيسنا فلا نتوتر، ما يمكننا فعله هو أن نبرِّد هذه التوترات بالوعي لتداعيات الغضب وآثاره، وأن نستعين عليه بما أمدَّنا الله من عقل، وما أودعه لدينا من إيمان، وبما وعد به الكاظمين للغيظ والعافين عن الناس.

وأن نرتقي بذلك إلى حدّ أن نبادل توتير الآخرين لنا وانفعالاتهم بالأحسن، كما قال الله سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 34 -35].

نسأل الله أن يوفِّقنا لذلك، ونستعيذه من سورة الغضب وعدم الصبر.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة رسول الله لنا إلى الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، عندما قال: "أوصيكَ بِتَقوى اللهِ تَعالى؛ فإنَّه رَأسُ الأمرِ كُلِّه. قلت يا رسول الله، زدني: عَليكَ بِتِلاوةِ القُرآنِ وذِكرِ اللهِ تَعالى؛ فإنَّه ذِكرٌ لكَ في السَّماءِ، ونورٌ لكَ في الأرضِ. فقلت له زدني، قال: عَليكَ بِطولِ الصَّمتِ إلَّا في خيرٍ؛ فإنَّه مَطْرَدَةٌ للشَّيطانِ عنكَ. فقلت له زدني، قال: إيَّاك وكَثرةَ الضَّحِكِ؛ فإنَّه يُميتُ القلبَ، ويَذهَبُ بِنورِ الوَجهِ. فقلت له زدني: قال: صل قرابتك وإنْ قطعوك، وأحبَّ المساكين وأكثر مجالستهم، قلت يا رسول الله زدني، قال: قل الحقّ وإن كان عليك مرّاً. قلت يا رسول الله: زدني، قال: لا تخف في الله لومة لائم".

أيّها الأحبة: إننا أحوج إلى هذه الوصايا التي إن أخذنا بها فسنكون أكثر وعياً ومسؤولية والتزاماً برسول الله (ص) وقدرة على مواجهة التحديات.

فراغ رئاسيّ ومعاناة معيشيّة

والبداية من معاناة اللبنانيين على الصعيدين المعيشي والحياتي، والتي يبشَّر اللبنانيون بأنها ستزداد سوءاً بفعل الارتفاع المستمرّ لسعر صرف الدولار الأمريكي الذي يبدو أنه لن يقف عند حدّ أو يخضع لضوابط، والذي ينعكس، وفي ظلّ انعدام أيّ رقابة، ارتفاعاً مضاعفاً في أسعار السلع والمواد الغذائية والمحروقات والدواء والاستشفاء وكل حاجات الناس الأساسية، والذي لم تعد تداعياته تقف عند حدود عدم قدرة اللبنانيين على تأمين سبل عيشهم الكريم واحتياجاتهم، بل تعدت ذلك إلى أمنهم واستقرارهم في هذا البلد الذي تزداد يوماً بعد يوم أعداد الفارين منه والهاربين من جحيمه.

ومع الأسف، يحصل كل ذلك في ظلّ عدم وجود دولة قادرة على إخراج البلد من حال التردي الذي وصل إليه وإنسانه في معاناته، حيث يستمرّ مشهد الفراغ الحاصل على صعيدي رئاسة الجمهورية والحكومة من دون أن يبادر من ائتمنهم اللبنانيون على إدارة شؤونهم إلى القيام بمسؤوليَّتهم، والعمل لملء هذا الشغور، ولمنع التداعيات الخطيرة التي يتمّ التَّحذير منها في الداخل والخارج إن هو استمرّ على الصعيد الاقتصادي أو الأمني، وحتى على صعيد كيان الدولة.

إننا أمام هذا الواقع المتردّي، نعيد دعوة القوى السياسيَّة إلى تحمل مسؤوليَّتها، والإسراع اليوم قبل الغد في تهيئة كل الظروف لانتخاب رئيس للجمهوريَّة، والذي أصبح واضحاً أنه لن يأتي إلا بالتَّوافق، ولن يكون بغلبة فريق على آخر.

إننا نعيد تأكيد ما قلناه سابقاً وأكثر من مرَّة، أن القوى السياسية قادرة على السير بهذا الاستحقاق إن خرج الجميع من حساباتهم الخاصة والفئوية أو رهاناتهم الخارجية، وأخذوا في الاعتبار حسابات الوطن وإنسانه، ولا يراهننّ أحد أن يأتي المدد من الخارج، فالخارج إما مشغول بأزماته وانتخاباته، أو أن لبنان لم يعد من أولوياته بعدما أصبحت في مكان آخر، أو لأنَّ لبنان بات ساحة صراع المحاور الجاري إقليمياً ودولياً، فيما لم يحن بعد موضوع التسويات.

إن على القوى السياسية أن تأخذ في الحسبان خطورة استمرار الوضع المعيشي والحياتي على حاله، والذي قد يجعل الناس يخرجون عن طورهم وعن الصبر الذي لا يزالون يتحلون به، ما قد يمهِّد الطريق لمن يريد العبث بأمن هذا البلد واستقراره، وخطورة التطورات التي تجري على صعيد المنطقة والعالم، مما لا يمكن مواجهتها ببلد يعاني ما يعانيه على المستويات الاقتصادية والمعيشية أو السياسية وانعكاساتها على وحدته الداخلية.

ملفّ الفساد والقضاء والأمن

ونبقى على صعيد الداخل، لنثمن أي جهد يبذل في مواجهة ملف الفساد الذي استشرى في هذا البلد، وندعو إلى متابعته وعدم فرملته، كما تفرملت الكثير من المبادرات السابقة تحت وطأة الضغوط السياسية، أو بفعل استثمار هذه الملفات في سياق الصراع السياسي، ومن ثم إغلاقها عندما يخمد هذا الصراع، حيث لا قيام لهذا البلد ولا نهوض له إلا بإزالة هذا الفساد ومعاقبة الفاسدين.

وهنا في هذا الإطار، نعيد تأكيد أهمية عودة القضاء للعمل ليؤدي دوره على هذا الصعيد، لكننا نريده أن يكون نزيهاً أميناً على العدالة، ومستقلاً وبعيداً كل البعد عن أيّ حسابات سياسية أو غير سياسية، أو أن أداة من أدواتها، حتى لا يفقد دوره في تحقيق العدالة للجميع.

أما على الصعيد الأمني، فإنا لا بدَّ من أن ننوه بالدور الفاعل الذي تقوم به القوى الأمنية في تفكيكها للخلايا الإرهابية، وملاحقة وضبط عمليات السرقة والمخدرات، رغم كل الظروف الصعبة التي تعانيها بفعل الواقع الاقتصادي القاسي، وندعو إلى دعمها بكل ما يضمن استمرارها بأداء هذا الدور، منعاً لعودة الإرهاب وتفشي الجريمة، والحؤول دون أن يتحول هذا البلد ملاذاً آمناً لكل الذين يعملون على خرابه.

ذكرى يوم الشّهيد

وأخيراً، فإننا في يوم الشَّهيد الذي نعيش ذكراه في هذه المناسبة، لا بد أن نستحضر التضحيات التي قدَّمها هؤلاء الشهداء، عندما بذلوا حياتهم من أجل عزَّة هذا الوطن وكرامته واستقلاله، وبعيداً من كل الحسابات الخاصة والآفاق الصعبة.

إن من حق هؤلاء الشهداء علينا أن نكون أوفياء لهم، بأن نبقيهم في العقل والوجدان، وأن تستكمل مسيرتهم من أجل حفظ الوطن وكرامة إنسانه.