الدّفع بالّتي هي أحسن.. أسلوب الصّابرين الرّساليّين

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

 

الدّفع بالّتي هي أحسن

يريد الله سبحانه من خلال هذه الآية أن يبيِّن الأسلوب الّذي ينبغي أن يتعامل به الإنسان المؤمن الواعي مع الأخطاء والإساءات التي قد تصدر عن الآخرين تجاهه، سواء كان الآخر قريباً أو جاراً أو صديقاً أو خصماً، وسواء صدرت هذه الإساءات عن قصدٍ أو غير قصدٍ، فدعاه إلى أن لا يتصرَّف مع هؤلاء بالأسلوب نفسه الّذي يتصرَّفون به معه، فيبادل إساءاتهم بمثلها أو بأكثر منها، بل بأن يدفع بالّتي هي أحسن، فلا يكتفي بعدم الردّ على الإساءة وأن يعفو، بل أن يردَّ على الإساءة بالحسنة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنَّ هذا الخيار لن يكون سهلاً، ولا سيّما عندما تكون الإساءة شديدة ومؤثِّرة، لأنَّ ذلك يستدعي الوقوف في وجه رغبة النَّفس التي تدعو إلى الثّأر والانتقام، وفي وجه الجوِّ العام الذي يعتبر عدم الردِّ ضعفاً وهزيمة وذلًّا، فهو يحتاج إلى جهاد نفس، وإلى إرادةٍ لكبح تسويلات النَّفس وجموحها لردّ الصاع صاعين.

ولكنَّ الله سبحانه يشير إلى أن نتائج ذلك ستكون كبيرة على مستوى الدنيا والآخرة، فهو لا يؤدّي فقط إلى اقتلاع الشرّ من قلوب المسيئين، بل يحوِّلهم إلى أصدقاء وأحبّة، ويجعل التقدير عالياً لأولئك الذين أشار الله إليهم بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، فهم سيكتبون عنده من الصَّابرين الذين يوفيهم أجورهم بغير حساب، والّذين يمنحهم حظّاً عظيماً وموقعاً مميَّزاً عنده، وهو ما عبَّر عنه عندما قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}، وقوله سبحانه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.

مواقف للإمام زين العابدين (ع)

وهذا الأسلوب نستحضره اليوم في حديثنا عن الإمام زين العابدين (ع)، الذي مرّت علينا ذكرى وفاته في الخامس والعشرين شهر محرَّم، هذا الإمام الّذي عندما يُذكَر، يُذكَر معه العلم والعبادة والشجاعة والكرم وتحرير العبيد، وقد لازمته صفات الحلم والصّفح والصّبر ومقابلة الإساءة بالإحسان، مما أشّارت إليه الآية، وكان ذلك أكثر ما يميِّز شخصيّته.

ونحن اليوم سوف نتوقّف عند بعض المحطات التي جسَّد الإمام (ع) فيها هذه القيمة:

موقفه مع أحد أقربائه

موقف أوَّل من أحد أقربائه الّذي كان يحسد الإمام (ع) ويحقد عليه، ما دفعه يوماً إلى أن يتهجَّم عليه، ويصفه بنعوت مسيئة، وعلى مرأى من أصحابه، فلمَّا انصرف، قال لأصحابه: "لقد سمعتم ما قال هذا الرَّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه!"، فقالوا: نفعل، وإن كنّا نحبًّ أن تردَّ الردّ الذي يستحقّه. فمضى هؤلاء مع الإمام، وهم لا يشكّون أنَّ ردّ الإمام (ع) سيكون قاسياً. ولكن في الطّريق، سمعوه يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فلمَّا وصل الإمام (ع) إلى بيت ذلك الرّجل، خرج متوقّعاً الشّرّ، وهو يعتقد أنّ الإمام (ع) جاء ليحاسبه على بعض ما كان منه. لكنّ الإمام (ع) هدّأ من روعه، وقال له: ما جئنا لهذا، ولكن لأقول لك: "إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك".

كلمات قليلة كانت كافية لتهزّ أعماق هذا الرّجل، ولتجعله يعيد النظر في كلّ تصرفه مع الإمام (ع)، وليقول له: ما قلته ليس فيك وأنا أحقّ به، أنا الخاطئ، وأنا الجاني.. أرجو أن تعفو عني، وأن تستغفر لي ربّك، وصار هذا الرجل من بعدها من أخلص النّاس للإمام، بعدما أزال الإمام (ع) بتصرّفه هذا كلّ الحقد الذي كان في قلبه.

وهنا نسأل: ماذا لو بادل الإمام هذا الرّجل بمثل فعلته، أو بأقسى من ذلك، كما يحصل عادةً منّا؛ أكان الإمام (ع) قد حقَّق ما تحقَّق له بأسلوبه، أو كسب لرسالته ما كسب؟

وموقف ثان، حيث تحدِّثنا السّيرة عن أمة للإمام (ع)، كانت تحمل إبريقاً نحاسياً ليتوضّأ به الإمام، ولسوء تصرّفها، وقع هذا الإبريق على رأس الإمام فشجَّه، فقالت له: والكاظمين الغيظ، قال: "قد كظمت غيظي"، قالت: "والعافين عن الناس"، قال: قد عفوت عنك، قالت: والله يحبّ المحسنين، قال: "اذهبي، أنت حرّة لوجه الله".

موقفه مع هشام بن إسماعيل

وموقف آخر مع هشام بن إسماعيل، وكان هشام والياً على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان، وكان من أركان بني أميّة، ومعروفاً بعدائه للإمام زين العابدين (ع) ولأهل البيت (ع). وتذكر السيرة أنه بعد موت عبد الملك بن مروان، تولّى ولده الوليد بن عبد الملك الخلافة، فعزل الوليد هشاماً بسبب معارضته لخلافته، وقرّر أن يوقفه للناس ليقتصّوا منه على إساءاته لهم، وكان هشام يقول حينها، أنا لا أخشى أحداً أكثر من زين العابدين، لما ارتكبه بحقّه من ظلم. ولكنّ الإمام (ع) لم يقل حينها كما نقول إنّه حان وقت الاقتصاص، بل طلب من أصحابه أن لا يتعرّضوا له بسوء. ولما وصل إليه قال له: "انظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا، ومن كلّ من يطيعنا". فنادى هشام، وهو يستمع إلى هذا المنطق، بأعلى صوته: "الله اعلم حيث يجعل رسالته". وأصبح بعدها من محبّي الإمام.

وقد صوَّر هذا المشهد أحد الشعراء حين قال:

ملكنا فكان العفو منّا سجيّة فلمّا ملكتم سال بالدَّم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح

فحسبكم هذا التّفاوت بيننا وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح

 

موقفه مع مروان بن الحكم

وموقف آخر يمثّل القمّة في الحلم ومبادلة الإساءة بالإحسان، وهو الّذي جرى مع مروان بن الحكم. ومروان هذا كان معروفاً بعدائه الشّديد لأهل البيت (ع) وغلظته عليهم، فهو من أوائل من خرجوا لقتال عليّ (ع) في حرب الجمل، وبعدها في صفّين، وكان من المحرّضين على عليّ (ع) وسبّه وشتمه، وهو من قال لوالي المدينة لما استدعى الحسين (ع) لمبايعة يزيد، ورفض آنذاك الحسين (ع) البيعة له: إن لم يبايع الحسين يزيد، فلا تدعه يخرج، بل اضرب عنقه.

مروان هذا حين ثارت المدينة على بني أميّة، وقرّر أهلها إخراج بني أميّة منها، وكان هو على رأسهم، وأراد أن يهرب، فتّش حينها عمّن يدع عنده عائلته، وحاول لدى الكثيرين، ولم يقبل أحد بذلك، الكلّ تنصّل خوفاً من أن يتلبّس بالقرب من مروان بن الحكم. لم يجد حينها سوى الإمام زين العابدين (ع) من يقبل ذلك ويقول له: "عائلتك مع عائلتي، وحرمك مع حرمي". ولم تكن عائلته بسيطة، بل كانوا أربعمائة نفر. فقام الإمام (ع) بنفقتهم وإطعامهم. وهنا تقول بنات مروان: والله إنّنا لم نجد من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند الإمام زين العابدين (ع). وهذا الأمر إن لم يؤدّ إلى تغيير سلوك مروان بن الحكم كثيراً، إلّا أنّه غيَّر سلوك عائلته وأولاده.

طريق الصّابرين

 

أيّها الأحبّة: إنّنا أحوج ما نكون إلى اعتماد هذا الأسلوب، أن يكون هو الأساس في بنائنا لأنفسنا وفي تعاملنا مع الآخرين، لنواجه به الإساءات الّتي تحصل من الآخرين، بفعل الأخطاء التي تصدر عنهم، أو بفعل الظروف الضّاغطة، أو الإشاعات، أو ما يبثّ عبر الإعلام، وما يجري على مواقع التّواصل، لنعالج به كلّ هذه التوترات والانفعالات والعصبيّات الّتي لا تعالج بردود الفعل، بل بالأسلوب الذي أراده الله سبحانه وعبَّر عنه الإمام (ع)، وهو أسلوب الواعين والرّساليّين، أسلوب الأنبياء والأئمة الذين يهمّهم أن يقتلعوا الشرّ والحقد والعداوة من قلوب الآخرين، ويقلبوا الصّورة السلبيّة عندهم، ويعيدوهم إلى طريق الصّواب.

وإذا كان البعض يرى أنّ هذا الأسلوب قد يجرّ إلى تمادي البعض بالإساءة ممن يرون في ذلك ضعفاً، فإنّنا لا نرى أنّ هؤلاء هم القاعدة، بل إنهم الاستثناء، فهؤلاء لا بدَّ من أن تبادَل إساءاتهم بالمثل، وأن نأخذ بحقّنا منهم، وقد عبَّر عن ذلك الإمام زين العابدين (ع): "وأمّا حقّ من ساءك، فأن تعفو عنه، فإن رأيت أنّ العفو عنه يضرّه، انتصرت".

أيُّها الأحبّة: قد يكون هذا الطريق صعباً، لذا هو طريق الصّابرين، ولكنه طريق الدنيا والآخرة، فيكفينا في ذلك قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وقد قال رسول الله(ص): "ألا أخبركم بخير خلائق الدّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، ووصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك".

فلنتّقِ الله عزَّ وجلَّ ليعيننا على التحلّي بهذا الأسلوب، وليكن دعاؤنا الدّائم هو ما ورد عن الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق:

"وَسَدّدْنِي لأنْ أُعَارِضَ مَنْ غشَّنِي بِالنُّصْحِ، وأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمني بِالْبَذل، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَن اغْتَابَنِي إلى حُسْنِ الذّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السيّئَةِ.. يَا أَرْحَمَ الراحمين".

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام زين العابدين (ع) لنا، والتي وردت في حوار جرى مع أحد أصحابه، فقد جاء أنّ هذا الرّجل رأى الإمام زين العابدين (ع) في ليلة باردة ممطرة، وعلى ظهره كيس طحين، فقال له: "يا بن رسول الله، ما هذا؟"، قال: "أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز"، فقال له: "فهذا غلامي يحمله عنك"، فأبى. فقال له الصّحابي: "أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله". قال الإمام زين العابدين (ع): "لكنّي لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لما مضيت لحاجتك وتركتني". فانصرف عنه، فلما كان بعد أيام، قال له: "يا بن رسول الله، لست أرى لذلك السّفر الذي ذكرته أثراً!"، قال: "بلى! لكن ليس هو كما ظننت، ولكنّه الموت، وله أستعدّ، إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير".

لقد أوضح الإمام (ع) في هذا الحوار ما كان يستعدّ له، فقد كان يرى الاستعداد للموت بترك الحرام ومعصية الله، وفعل الخير والبذل والعطاء له، فلا يكفي الإنسان حتى يتقي العقبة الكأداء يوم القيامة، الاقتصار على أداء الواجبات من صلاة وصوم وحجّ، بل لا بدَّ من أن ينتهج ما بيّنه الله سبحانه عندما قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}.

إنّنا أحوج ما نكون إلى هذه القيمة؛ قيمة العدل والعطاء، لحماية مجتمعنا من تداعيات الفقر والحاجة الّتي تعصف بنا، وما أشدَّها! لنكون أكثر قدرة على مواجهة التحدّيات.

هل ينهار اقتصاد البلد؟!

والبداية من لبنان، الَّذي عبَّر خطاب رئيس جمهوريّته من على منبر الأمم المتحدة عن هواجس اللّبنانيّين من تداعيات الأزمات التي باتت تهدّد أوضاعهم الاقتصادية والأمنية، بدءاً بأزمة النزوح السوري، مروراً بانعكاسات صفقة القرن على توطين الفلسطينيّين، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقّف على أرض لبنان وبحره وجوّه.

وفي هذا المجال، نقدِّر لرئيس الجمهوريّة مواقفه في دعوته المنظّمة الدولية إلى تحمّل مسؤوليَّاتها في الوقوف مع لبنان، لمواجهة هذه الأعباء الّتي جاءت كنتيجة لسياسات دوليّة عملت وتعمل على وضع عقبات أمام إيجاد الحلول لها، كما يحدث في التعامل مع عودة النازحين السوريّين، أو في عدم إيجاد حلول لعودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه، أو في عدم ردع الكيان الصّهيونيّ عن اعتداءاته والعبث بأمن اللّبنانيّين وثرواتهم، وفي تأكيده الجازم والحاسم حقّ لبنان في استخدام كلّ الوسائل لبسط سيادته على أراضيه، وإصراره على تثبيت حدوده البرية والبحرية، وفي اعتباره أنّه لن تقوم عدالة، ولن يستقيم حقّ، ولن يتحقّق سلام، مادام المبدأ السّائد غالباً هو: "أنا قويّ، إذاً أنا على حقّ".

في هذا الوقت، يزداد الوضع الاقتصادي سوءاً، بعد تراجع الآمال بتنفيذ مقرّرات مؤتمر سيدر في وقت قريب، أو أيّ دعم آخر، بعدما رُهنت بتنفيذ إصلاحات حقيقيّة لايزال يؤخّرها حتى الآن غياب الإرادة السياسيّة الجديّة، واستمرار التجاذب الداخلي بين القوى السياسيّة على مناطق النفوذ، ما بات يثقل كاهل اللّبنانيّين، وقد يؤدّي إلى إخراجهم إلى الشّارع، بعدما بلغ السّيل الزُّبَى مع كلّ التداعيات الخطيرة التي قد يحدثها أيّ نزول إلى الشّارع.

وما فاقم هذا الوضع، هو أزمة توافر السيولة بالدولار، والعقوبات الأميركيّة التي بات من الواضح أن حدودها لن تقف عند جهة سياسية محدّدة، كما أعلن، بل تحوّلت إلى هاجس لدى المودعين والمصارف والشركات ورجال المال والأعمال، وبالتالي، فهي ستؤدّي إلى شلّ القطاع الاقتصادي والمالي في البلد، ما يستدعي من الدولة اللبنانية التحرّك بسرعة لمعالجة تداعيات كلّ ذلك، وإيقاف هذا التدهور، من دون أن تكتفي بالتّدابير الأخيرة التي اتخذها المصرف المركزي، والتي لا تعالج هواجس كلّ المواطنين.

اصطفافات خطيرة

وليس بعيداً من ذلك، تعود إلى الواجهة الاصطفافات الطائفيّة التي نخشى تداعياتها، والتي عبَّرت عنها السجالات الحادّة في المجلس النيابي حول بعض المشاريع الإنمائيّة، حيث ما عادت مقاييس القبول بالمشاريع ورفضها تتّصل بالجدوى أو بتوفر السيولة أو الكلفة، إنما بحقوق الطوائف، أو بصراع الصلاحيات بين زعمائها. ومن المؤسف في ذلك، أن تذوب كل التمايزات السياسية وكلّ الانقسامات بين الأطراف لحساب تشكيل جبهات طائفية متراصّة في مواجهة بعضها بعضاً، وهو ما جرى أيضاً في الخلاف الذي حصل بين الضنيّة وبشرّي على مشروع إنمائي، والذي وصل إلى حدّ الحديث عن ترسيم حدود، وهو أمر لا يجري إلا بين دولتين، مما ينبغي ألا يحصل.

إنّنا نريد من كلّ المسؤولين الترفّع عن إثارة الحساسيات الطائفية في التعامل مع القضايا الإنمائية وغير الإنمائية، بعدم تسميم العلاقات بين اللّبنانيّين، الذين لاتزال تتربّص بوحدتهم مشاريع خارجيّة تحاول أن تستغلّ أيّ توترات لتفجير هذه الساحة لغايات معروفة.

التّهديد لم يعد يجدي

أمّا على الصعيد الدولي، فإننا، ومع كلّ العالم، استمعنا إلى الخطابات السياسية الحادّة التي صدرت عن بعض رؤساء الدول الكبرى في الأمم المتحدة، بعد أن استُخدمت منصّتها لتوجيه رسائل التهديد والوعيد إلى الدول المستضعفة، أو تلك التي تريد أن يكون لها موقع في هذا العالم أسوة ببقية الدّول.

إنّنا نعيد التّأكيد أنّ لغة التّهديد والتّهويل والابتزاز التي يتقنها الأقوياء في هذا العالم، لم تعد تجدي نفعاً مع الشعوب والدّول الأخرى التي تريد الحفاظ على سيادتها واستقلالها، مهما كانت التضحيات، وأن سياسة الحصار والعقوبات والضغوط لن تؤدي إلى تحقيق أهداف صانعيها، بل سترتدّ حروباً وانفجارات كبرى لن يسلم منها أحد في هذا العالم، ولا حلّ لكلّ ذلك إلا بالالتزام بالقوانين والمواثيق الدوليّة في معالجة الخلافات.

 

Leave A Reply