الزَّهراءُ (ع): المكانةُ المميَّزةُ عندَ الرَّسولِ (ص) والأحبُّ إلى قلبِهِ

العلامة السيد علي فضل الله خطبة العيد

{ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }[الأحزاب: 33].

نلتقي في هذا اليوم، في الثالث عشر من شهر جمادى الأولى، بذكرى وفاة من نزلت فيها هذه الآية الكريمة، وهي الصدّيقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء، سيّدة نساء العالمين، هذه الذّكرى التي نستعيد فيها حزن عليّ (ع) والحسن والحسين (ع) وزينب وأمّ كلثوم، وكلّ الذين عاشوا وعرفوا موقعها ومدى التّكريم الّذي حظيت به من رسول الله، والدَّور الذي قامت به طوال حياتها.

وقد جاء التَّعبير عن هذا الحزن على لسان عليّ (ع)، حين وقف على ملحودة قبرها، موجِّهاً كلامه إلى من كانت وديعة رسول الله (ص) عنده، قائلاً: ” السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللهِ، عَنِّي وَعَنِ اِبْنَتِكَ اَلنَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَاَلسَّرِيعَةِ اَللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اَللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي اَلتَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزٍّ. فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ اَلْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ اَلرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اَللهُ لِي دَارَكَ اَلَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ ” .

ونحن في هذه الذكرى، لن نكتفي بأن نذرف دموع الحزن، أو أن نقيم المجالس على اسمها، أو نتوجَّه بزيارتها، سنضيف إلى كلّ ذلك التزوّد من معينها الرَّحب.

الأحبُّ إلى الرّسولِ (ص)

وسنتوقَّف عند واحدة من مآثرها، وهي علاقتها برسول الله (ص)، حيث ورد في سيرتها؛ أنَّه عندما دنت الوفاة من رسول الله (ص)، دعا إليه ابنته الزهراء (ع)، أجلسها على يمينه، ضمَّها إلى صدره، ثم همس في أذنها همسة فبكت، بعدها همس في أذنها همسة أخرى فضحكت، وبدا السّرور على وجهها، ثم غادرت المكان. فقيل لها: ما أسرع التحوّل من الضّحك إلى البكاء، لماذا بكيت أوّلاً ثم تبدَّل البكاء سريعاً إلى أن ضحكت، فقالت: “ما كنت لأفشي سرّ رسول الله في حياته”.

وبعد أن انتقل رسول الله (ص) إلى جوار ربِّه، أعيد عليها السؤال، فقالت: ” أخبرني أنّه يقبض في وجعه الّذي توفّي فيه، فبكيت، ثم عاد وأخبرني أنّني أوَّل أهل البيت لحوقاً به، فضحكت ” . وبالفعل، كانت السيّدة الزهراء (ع) أوّل أهل بيت رسول الله (ص) لحوقاً به.

لقد عبَّر ذلك عن مدى العلاقة الّتي كانت تربط السيّدة الزهراء (ع) برسول الله (ص)، والَّتي وصلت إلى حدّ أنها فرحت وسُرَّت عندما علمت أنَّ المسافة لن تطول بين رحيله عن هذه الدّنيا ورحيلها.. لكن لفرط حبِّها لأبيها رسول الله (ص)، ما كانت تطيق الحياة من دون وجوده (ص) معها. لقد أحبَّت السيدة الزهراء رسول الله الأب، وأحبَّها الرسول حبّاً ملأ كلّ كيانه، حتى وصل إلى أن يقول فيها: “فاطمة أمّ أبيها”، فقد كانت لرسول الله (ص) بعد وفاة أمِّها السيّدة خديجة بنت خويلد، بمثابة الأمّ العطوف الرؤوف، تحيطه بالرّعاية والاهتمام، وتخفّف عنه ما كان يعانيه من قريش الذين كانوا لا يوفّرون جهداً للإساءة إليه، ومنعه من الاستمرار بدعوته.

وهنا تذكر السّيرة موقفاً لها يعبّر عن ذلك، حيث ورد أنَّ رسول الله (ص) كان يصلِّي في المسجد الحرام، فأتى أحد رجالات المشركين بأمعاء جمل ميت، ورماها على ظهر رسول الله (ص) وهو ساجد.

وتذكر السّيرة أنّ رسول الله (ص) لم يستطع أن يقوم من سجوده لوجودها على ظهره، فجاءت الزهراء (ع)، وهي ابنة السبع سنوات، تزيحها عن ظهر النبيّ (ص) وهي تبكي لحال أبيها، فيقوم رسول الله من سجوده، ويقول لها: ” لا تبكِ يا بنيّة، فإنّ الله ناصرٌ أباك “.

وهي لذلك لم تفارقه في كلّ المراحل، كانت معه حتى في أثناء خروجه للحرب، فقد كانت الزهراء (ع) تخرج معه لتكون قريبةً منه، وتؤمِّن له سبل الرّعاية، وتداوي جراحه كما حصل يوم أُحد.

وقد بادل رسول الله (ص) الزّهراء حبّاً بحبّ تجاوز كونها ابنته، فقد كانت أحبّ النّاس إليه، ولذا عندما سُئِل: من أحبّ النّاس إليه، لم يتردَّد أن يقول: فاطمة. وكان دائماً يردِّد: “إنَّما فاطمة بضعة مني، يسرّني ما يسرّها ويغضبني ما يغضبها”، و”يؤذيني ما يؤذيها”… وكان (ص)، إذا سافر، آخر النَّاس عهداً به فاطمة، وإذا قدم من سفر، كان أوّل النّاس به عهداً فاطمة، ثم تأتي أزواجه، وكانت إذا دخلت إليه، قام إليها وقبَّلها، ثم أخذ بيدها وأجلسها مكانه، وكانت إذا أتاها النبيّ (ص)، رحَّبت به ثم قامت إليه فقبَّلته، كما كان يصنع هو بها.

حزنٌ ومسؤوليّةٌ

ولمّا فُجِعت الزهراء (ع) بموت أبيها، كان حزنها كبيراً، لذلك لم تُرَ السيِّدة الزَّهراء ضاحكةً بعد ذلك.

ولكن هذا الحزن لم يكن بالصّورة الذي قد يصوِّرها البعض، بأنها كانت تبكي حتى ضجَّ أهل المدينة من بكائها. فالسيّدة الزهراء رغم كلّ الحزن الذي كان في قلبها، لم تجزع، ولم تنس وصيّته لها حين قال لها: ” يا فاطمة, إذا مُتّ فلا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً, ولا تنادي بالويل, ولا تقيمي لي نائحة ” .

لقد حوَّلت كلَّ عاطفتها وحبّها لرسول الله شعوراً بالمسؤوليّة تجاه الرِّسالة التي أفنى رسول الله (ص) حياته من أجلها، وأوذي من أجلها حتى قال: ” ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت “. ولذلك تابعت دورها الرّساليّ في التعليم والتربية والتوجيه، وعندما رأت الانحراف بدأ يدبّ في الواقع الإسلاميّ، وقد تجلَّى ذلك بمنع حقّها في فدك وإبعاد عليّ (ع) عن الخلافة، رفعت الزهراء (ع) صوتها لتعيد الأمور إلى نصابها، ولكنّها حرصت على أن لا يتسبَّب ذلك بفتنة كان هناك من يعمل على إذكائها للإجهاز على الإسلام، في وقت كان الإسلام غضّاً طريّاً، وهناك من يتربَّص به شراً، فتوجَّهت إلى مسجد أبيها لتتحدَّث وتبيّن وتحاور.

وهناك، وأمام الجميع، رجالاً ونساءً، خطبت الزّهراء (ع) بكلّ قوّة وعنفوان وحجّة ومنطق، وأعلنت احتجاجها وغضبها على الواقع الذي حلّ بالمسلمين بعد وفاة رسولهم، مذكِّرة إيّاهم بالآية: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ }[آل عمران: 144].

ولم تقف الزَّهراء (ع) عند هذا الاحتجاج المباشر وإعلان موقفها الصّريح ممّا جرى, بل عبَّرت عن موقفها أمام نساء المهاجرين والأنصار، حين سألتهم عن سبب خذلان رجالهم لعليّ (ع)، وعدم الوقوف معه، قائلةً: ” وَمَا نَقمُوا مِنْ أبِي الحَسَن؟! نَقمُوا وَاللهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْئِهِ، ونكَالَ وَقْعَتِهِ، وتَنَمُّرِهِ فِي ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ” .

ولم تهدأ الزّهراء (ع) فيما تبقَّى لها من عمرها الطّاهر وقمَّة احتجاجها كانت عندما طلبت من عليّ (ع) أن يدفنها سرّاً، ليبقى هذا الاحتجاج مستمرّاً عبر التّاريخ؛ الاحتجاج على قضيّة ظلم أرادت لها الزّهراء ألَّا تُطوى, وإلّا تكرَّس الظلمُ وأصبح أمراً طبيعيّاً.

الإخلاصُ للزَّهراءِ (ع)

لقد غادرت الزهراء (ع) وفي قلبها حرقة وألم على الواقع الَّذي عاشته وعانته، ولكنها كانت واثقة بأنّ محبيها سيتابعون ما كانت عليه من حبّ رسول الله (ص)، وسيكون حبّهم له كما كان حبّها في الإخلاص لرسالته، وإبقاء الإسلام نقيّاً صافياً وحاضراً في الوجدان على مدى الزّمن، ليعطي الحياة عزّة وكرامة وحريّة وعدالة.

لقد أدَّت الزهراء (ع) دورها، وأحسنت العمل وبذلت الجهد، وها هي الآن حيث هي مع النبيّ والصدّيقين والشّهداء والصّالحين.

وهذا ما تدعونا إليه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حبّ الله. فالسّلام عليها يوم ولدت، ويوم انتقلت إلى رحاب ربّها، ويوم تبعث حيَّةً.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الزهراء (ع) لابنها الحسن (ع)، فيما نقله عنها عندما قال: ” رأيت أمِّي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى انفجر عمود الصّبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسمّيهم وتكثر الدّعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: ” يا أمّاه، لما لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، قالت: يا بنيّ، الجار ثم الدار “.

هذه هي الزهراء (ع)؛ حبٌّ دافقٌ لله لا ينضب، وحبٌّ للناسِ لا يقف عند حدود، وقد وصل بها إلى أن تهتمّ بشؤونهم وحاجاتهم والدّعاء لهم قبل أن تهتمّ بشؤونها وحاجاتها والدعاء لعائلتها، هذه الروح لا بدّ من أن نغرسها فينا، وبها نعبِّر عن حبنا وولائنا لها، بأن يكون عندنا الجار قبل الدّار، والآخر قبل الأنا.

وبهذه الروح تبنى المجتمعات وتقوى، وبها نواجه التحدّيات.

لا معالجةَ لأسبابِ الانهيارِ

والبداية من لبنان الّذي يستمرّ فيه الانهيار على صعيد صرف اللّيرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأمريكي، والّذي بات يترك آثاراً كارثيّة على لقمة عيش اللّبنانيّين ودوائهم واستشفائهم وتأمين الكهرباء والنقل وسبل التّدفئة في هذا البرد القارس، وعلى الخدمات الّتي يحتاجون إليها، ووصلت تداعياتها إلى تهديد الاستقرار والأمن.

يجري كلّ ذلك من دون أن تستنفر الدَّولة أجهزتها لمعالجة الأسباب التي أدَّت وتؤدّي إلى هذا الانهيار، حيث تقتصر المعالجات على قرارات هي على طريقة المسكِّنات والمهدِّئات.

وقد أصبح واضحاً أنَّ معالجة هذا الانهيار تبدأ من العمل على إزالة أسبابه، والتي هي بالدّرجة الأولى تعود إلى سوء إدارة المال العام، وإلى القرارات التي تصدر عن مصرف لبنان، وإلى المضاربات الَّتي تحدث من أفراد وجهات ومصارف لمزيدٍ من الكسب المادّيّ، وإلى وجود منصَّات خفيّة أو ظاهرة تتولى إدارة السّوق والتّأثير النفسي فيه.

ولا يخفى مدى تأثير الخلافات والتوتّرات التي تحدث على الصعيد السياسي في هذا الانهيار، بعدما أصبح أداةً من أدوات الصراع فيما بينها، ووسيلة من وسائل الضغط التي تمارس على هذا الوطن من الدّاخل أو الخارج.

استمرارُ تعطيلِ الحكومةِ

ورغم كلّ هذا الواقع المأساوي الذي يعانيه اللّبنانيون الّذين باتوا غير قادرين على تحمّل تداعياته، يستمرّ التأزّم على المستوى السياسي الدّائر بين أركان الدولة أو بين القوى السياسية فيه، والّذي انعكس تعطيلاً لعمل الحكومة، وعدم أدائها الدّور المطلوب منها في هذه المرحلة العصيبة، ويخشى أن يصل هذا التّعطيل إلى المواقع الأخرى، أو ترك البلد في الفراغ.

ومن الطبيعي أن ينعكس ما يجري على هذا الصّعيد على الشارع، وعلى علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، في وقتٍ هم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والتعاون والتكافل، وهو يؤدّي إلى فقدان ثقة اللّبنانيين بوطنهم وثقة الخارج به.

لذلك نقولها لكلّ من يديرون البلد، أن كفى عبثاً بمصير الوطن وبمتطلّبات إنسانه، عودوا إلى ضمائركم وإلى إنسانيّتكم وإلى القيام بمسؤوليّاتكم التي أُودعتموها، فلن يغفر الناس لكم هذا التهاون في حمل المسؤوليّة، وإدارة الظّهر لهم إن استمررتم على هذا المنوال.

ومن هنا، نجدِّد دعوتنا للقوى السياسيّة إلى الإسراع بالعمل لإزالة كلّ العوامل التي تقف عائقاً أمام انعقاد الحكومة، حرصاً على استقرار العمل الحكوميّ، وعلى بلد لا تحلّ مشاكله إلا بالحوار والتوافق لما فيه مصلحته، في الوقت الَّذي ندعو القيادات السياسيّة والدينيّة إلى التواصل، بدلاً من التراشق بالكلمات الجارحة والمتوتّرة التي تنعكس سلباً على الشارع، وتزيد من احتقانه ومن يأس اللّبنانيّين ببلدهم، في وقتٍ أحوج ما يكون الوطن إلى الوحدة والتفاؤل.

تهديدُ الأمنِ

ونبقى على الصَّعيد الأمني، لنحذِّر من الخطورة في زيادة نسبة السّرقات والاعتداء على الممتلكات، كما حصل لبعض المصارف والمؤسَّسات، والَّذي يخشى من تفاقمه. وهنا نقدِّر للأجهزة الأمنيَّة دورها وسهرها من أجل ملاحقة الفاعلين، وبالسّرعة المطلوبة، رغم كلّ الظّروف الّتي تعانيها هذه الأجهزة، ويعانيها أفرادها بسبب الوضع الاقتصاديّ.

اعتداءاتٌ على سوري

ونتوقَّف عند الاعتداءات المستمرّة على سوريا من قبل العدوّ الصهيونيّ، والتي تأتي ضمن أهداف العدوّ لإضعاف موقع سوريا وإضعاف دورها، ومنع عودة الاستقرار إلى هذا البلد، والّذي يترافق، مع الأسف، مع صمت عربي وإسلامي ودولي مطبق.

إننا نرى في ذلك تشجيعاً للعدوّ الصهيونيّ على التمادي في اعتداءاته، والّذي يسمح لهذا الكيان بأن يهدِّد أيّ بلد عربي عندما يرى أنَّ مصالحه تقتضي ذلك.

الالتزامُ بإجراءاتِ الوقايةِ

وأخيراً، وفي ظلِّ استمرار تفشّي وباء كورونا، ندعو إلى الالتزام بكلّ إجراءات الوقاية التي يخشى إن لم تتمّ مراعاتها، أن يؤدّي ذلك إلى فقدان إخوة وأبناء وأعزّاء، في الوقت الَّذي لا تملك المستشفيات القدرة على الاستيعاب، وفي ظلِّ الارتفاع الهائل في أسعار الدَّواء والاستشفاء.