السيد فضل الله لـ “ليبانون فايلز”: ميثاق 1943 أو اتفاق الطائف ليسا مقدّسات ويجب ان نعيد النظر بهما دائماً

لا يمكن أن تطأ قدماك ذلك الصرح الديني الفقهي الأكاديمي السياسي الادبي من دون أن تستنشق فكر ونهج العلامة الراحل محمد حسين فضل الله العابقين في كل زاوية من زوايا دارته في حارة حريك، لتتيقّن من أنّ الرجل عمل لدنياه كأنّه يموت غداً، فغادر مخلفاً وراءه ارثاً لا ينضب من الخبرات المتراكمة في عوالم الفقه والاجتماع والادب والسياسة.
من سواقي العلم المتدفقة ينهل الخلف نهماً من ارث من السلف، فيحيك في كل جملة فسيفساء من الاعتدال والنزعة الوطنية، ليغدق على جالسيه سيلاً من الشفافية، فيبحر في عوالم الماضي، ليتحدث عن مستقبلٍ لا يراه منيراً الا بالتعاضد والتكامل والانفتاح، متسلحاً بالحوار سبيلاً وحيداً للخروج من اتون النزاعات والصراعات التي زرعت في لبنان ومحيطه، مسلطاً الضوء على خطر سوء فهم المذاهب والاديان الذي يتغذى بمنطق التكفير والالغاء، فيعمّق الازمة بين الشركاء في الوطن.

"ليبانون فايلز" التقى السيد علي فضل الله وأجرى معه حواراً هذا نصه:

 

يكثر الحديث عن الفتنة السنية – الشيعية، فهل تستشعرون خطراً حقيقياً يهدّد المنطقة؟
تعيش المنطقة اليوم هاجس الفتنة في الاطار الاسلامي بين السنة والشيعية والتي لها اسبابها، فالمشكلة ليست دينية بالمعنى المذهبي، فهي ليست حول موضوع الخلافة والصلاة او ما عداه، انما الجانب السياسي هو اساس ما يحدث في المنطقة والذي يتغذى بدوره من الخلاف المذهبي ويستحضره لحسابات سياسية، مستفيدا من حالات الجهل والتخلّف وسوء فهم المذاهب والاديان ويتغذى من منطق التكفير والالغاء الموجود في الساحة.
في حين ان أتباع المذاهب يجب ان يعيشوا كما عاش الاولّون وان يقتدوا بعلاقة الامام علي بن ابي طالب بالخلفاء وبعلاقة الصحابة في ما بينهم وبعلاقة الائمة والامام الصادق مع أئمة المذاهب من ابو حنيفة ومالك وغيرهم، والتي لم تكن ابدا متوترة. تكمن المشكلة الحقيقية اليوم بالتخلّف في التعامل مع الاختلاف.

 

ما سبل مواجهة هذا الواقع، واي خطاب يجب ان يُوَجّه الى الجهات المتطرفة في المنطقة وهل يمكن مواجهتها بالقوة ام ان الحوار هو السبيل لذلك؟
القوة قد تكون ضرورة عندما تكون هناك مشكلة ما تنعكس على الارض لكنها ليست الحل. فالحل يكمن في الدور الذي يجب ان يلعبه العلماء على المستوى الديني من خلال العمل على معالجة الاسس التي ينطلق منها المنطق التكفيري والالغائي وازالة الجهل والتخلف في التعامل مع الاختلاف وتصويب الامور والعودة الى التاريخ الايجابي. اضافة الى معالجة المشاكل السياسية التي تثير الغرائز المذهبية والطائفية.

 

سجلتم انفتاحا لافتا باتجاه الجامع الأزهر في مصر منذ فترة، فكيف يمكن تكريس هذا الانفتاح؟ وهل تعتقدون ان هناك اليوم غياباً للمرجعية السنية في العالم العربي؟
الانفتاح يجب ان يستمر لانه السبيل لحل الكثير من الاشكالات، وتجربتنا مع الازهر بدأت بلقاء وحيد مع امام الجامع الأزهر الشيخ احمد الطيب وكان من المفترض ان تُستكمل بلقاءات اخرى الا ان الاحداث الاخيرة في مصر حالت دون ذلك. وهذا الانفتاح يساهم في معالجة الكثير من الهواجس او سوء الفهم، الذي ينتقل احيانا الى العلماء حتى، فالتلاقي ضروري ولا بد من حوار مستمر بين العلماء ايضا.
على صعيد آخر، ليس هناك مشكلة في المرجعيات السنية فهناك مرجعيات موجودة ووازنة وفاعلة، انما المشكلة تكمن في غياب حضورها، الامر الذي لا يقتصر فقط على المرجعيات السنية فقط انما على بعض المرجعيات الشيعية ايضا. ونجد ان صوت هذه المرجعيات التي يجب ان تكون صمام امان وضابط المجتمع منخفض، في حين يُفسَح المجال لتلك التي تكفّر وتثير الفتن وتغذي الشارع بالمشاعر التي وصلت بالبعض الى حدّ تفجير نفسه.
والمشكلة تكمن ايضا بان الاعلام لا يركّز على أصوات الاعتدال على قدر ما يركّز على الصوت النشاز، ومطلوب من الاعلام فعلا ان يسوّق هذه الاصوات وان يساعد على ذلك. الى جانب ان اصوات الاعتدال نفسها تكون احيانا خافتة لا تُسمَع، الا ان هذا الصوت يجب ان يكون الاقوى وان يكون له المستقبل، وحتى لو خسر في هذه المرحلة فهو سيربح في المستقبل.
ولبنان خير مثال على ذلك، فالجميع عاد في نهاية المطاف الى الحوار في اتفاق الطائف ومن بعده في الدوحة وصولا الى دعوات الحوار التي نشهدها اليوم ليس فقط على المستوى المحلي انما على المستوى العالمي. فمنطق الحوار هو الأبقى والأسلم.

 

الا ان لبنان يقوم بجناحيه الاسلامي والمسيحي، فهل يهدّد الصراع الشيعي – السني الذي نشهده اليوم مفهوم الوجود اللبناني كفكرة وكصيغة؟
ما من خوف على لبنان لأنه معادلة وُلدت لتبقى وستبقى، ورهاننا دائما على اللبنانيين ان يحافظوا على الصيغة اللبنانية، التي تعكس حقيقة الواقع بين الاديان والطوائف التي تحكمها القواسم المشتركة الكبيرة والمستقبل الواحد.

 

هل تعتقدون ان لبنان بحاجة اليوم الى ميثاق وطني او الى عقد اجتماعي جديد؟
العقود لا يجب تكون دائمة، فميثاق 1943 او اتفاق الطائف مثلا ليسا مقدسات انما كانا نتيجة حاجة معينة فرضت عقدا معينا، ويجب ان نعيد النظر بهما دائما ولكن ليس لصالح الفراغ، فنحن نقول أبقِ ما كان على ما كان بانتظار حلول الجديد والبديل. فالمطلوب ان نقوم بتطوير صيغنا باستمرار كما يحصل في مختلف دول العالم التي تعيد النظر دائما بقوانينها وعلاقاتها، خصوصا وان العالم من حولنا يتغيّر كما الانسان تتطور حاجاته، والهواجس تتغيّر وتتطلب معالجة. فيجب الا نخاف من أي تغيير شرط عدم الوقوع في الفراغ، ومتى وُجدت الصيغة الملائمة فعلى الجميع الا يزايدوا على بعضهم البعض انما النظر بموضوعية وواقعية الى القضايا المطروحة.

تتسارع الاحداث في سوريا في حين يكثر الحديث عن تسوية، فكيف تقرأون أفق الازمة السورية؟
أخذت الازمة السورية أبعاداً متعددة، فلها البعد المذهبي والطائفي الموجود والذي لا يمكن الغاؤه، ولها بعد صراع المحاور كما أخذت البعد الدولي، كما لا نلغي البعد الداخلي والحاجة الحقيقية الى اصلاحات واللحاق بالركب العام وقد آن الاوان لذلك.
فالازمة تتضمن الكثير من التعقيدات ويجب معالجتها من الزوايا كافة، فسوريا دخلت في مرحلة الاستنزاف للجميع وهذا ما يثبته الواقع الميداني. ونخشى ان يكون المخطط استنزاف سوريا لاضعافها بانتظار ان تنضج صيغة معينة على المستوى الدولي والاقليمي.
ولكن آن الاوان لحلّ جذري في سوريا خصوصا وان التوجه العالمي اليوم هو لتبريد الازمات، الا ان تعقيدات الامور قد تطيل من عمر الازمة السورية المرتبطة بغيرها من قضايا المنطقة على ما يبدو، خصوصا وان "الطبخة" الدولية لم تنضج بعد.

 

ما تعليقكم على الاتفاق الغربي – الايراني الذي تم انجازه حول الملف النووي؟
نحن مع كل ما يساهم بحل مشاكل المنطقة ونرى فيه حدث اساس في هذه المرحلة ويؤسس لمرحلة جديدة على مستوى المنطقة وهذا ما انطلق منه السيد محمد حسين فضل الله بان الحوار هو السبيل الوحيد لحل المشاكل. ونعتقد اننا امام مرحلة جديدة ولكن نأمل ان يتم استكمالها، فمن حقنا في العالم العربي امتلاك القدرات والطاقات العلمية ذات الطابع السلمي واما السلاح النووي فلا يجب ان نقاتل لامتلاكه لاننا اصلا لن نتمكن من استخدامه. فالاتفاق سيكون صمام امان للمستقبل على أمل ان يستكمل بخطوات اخرى.

 

هل نجحت الفوضى التي اجتاحت العالم العربي بتحييد النظر عن القضية الفلسطينية؟
هذا الامر واضح، فالقضية الفلسطينية اليوم لم تعد المحور، وفي ظل التصدعات الموجودة لا نستبعد تحالف البعض مع اسرائيل حتى وان يعتبرها سنداً له في هذه المرحلة. نخشى ان تضيع القضية الفلسطينية في ظل هذا الظرف، في حين ان اسرائيل تتحرك بكل حرية لا بل تستفيد من كل ما يجري في المنطقة لتعاظم نفوذها اكثر، مع انها تقدم نفسها دائما على انها المسكينة والمهددة دائما. فاسرائيل اليوم اصبحت اقوى الاقوياء بعدما سقطت الجيوش العربية والشعوب العربية أُنهكت ولم تعد القضية الفلسطينيّة من اهتماماتها، الى جانب خلق بؤر توتر بين الدول العربية ونراها بشكل واضح اليوم بين لبنان وسوريا مثلا او بين مصر وغزة وبين مصر والضفة الغربية وغيرها.

 

بعد مرور اكثر من عامين على "الربيع العربي" هل تعتقدون ان ما شهدته دول المنطقة كان عبارة عن صحوة شعوب فعلا ام انه مخطط مدروس يجري تطبيقه في المنطقة؟
هناك صحوة دائمة لدى الشعوب الا ان السياسات التي تدير الامور استفادت من هذه الصحوة ومن هذه الاحاسيس والمشاعر واخذتها نحو الفوضى في بعض الحالات. واملنا ان تبقى هذه الشعوب مستيقظة والا تغرق في الفوضى المرادة لها. كما لا يمكن القول ان المسألة كانت مؤامرة منذ الاساس، وما رأيناه من مشاهد لأشخاص يضحون بانفسهم، وبعضهم كان يواجه الدبابة ويقف امامها، تؤكد ان هناك دافع داخلي واحساس بالقهر والذل وحاجة للتغيير، الا ان الاشكالية هي الى اين تم أخذ الشعوب العربية. وللأسف لم يكن هناك قيادات تمسك بزمام الامور انما كانت متروكة للشعب الذي يتحرك عادة وفق المشاعر ويذهب حيث يريد الآخرون.

 

نجحت الشعوب الغربية باختيار الانظمة السياسية التي تناسبها، فما هو النظام السياسي الأفضل لدول العالم العربي وهل الاسلام السياسي هو الحلّ؟
المنطقة لها جذورها ولا يمكن فصلها عن جذورها الدينية، الا ان الاشكالية تكمن بفهم الدين، فالفهم المغلق للدين يخلق مشكلة ولذلك لا نحمّل الدين مسؤولية بعض التجارب في مصر او في تونس او في اي مكان آخر. واما الاسلام فيملك القدرة على معالجة مشاكل المجتمع ولكن الاسلام في اصالته، الاسلام المنفتح والذي لا يعرف الاستئثار ويدعو للمشاركة. فالاسلام له حضوره ووجوده وجزء اساس في المنطقة والانسان المتديّن له حضوره ايضاً، إلا ان الاشكالية تبقى في فهم الدين وكيفية تقديمه.

 

في ظل الازمات التي تشهدها المنطقة ما احوجنا الى حكمة العلامة المرجع محمد حسين فضل الله، فما الفرق بين الحياة بوجوده وبغيابه؟
في جولة لنا على بعض الفرقاء في الايام الاخيرة، قال احدهم: "نحن بحاجة في هذه المرحلة الى صوت فضل الله"، وبالفعل ان المرحلة تحتاج الى هذا الصوت والمطلوب ان نعمل لايجاده، الصوت الذي يقرّب ويقوم بمد الجسور. ووجود السيد مهم في كل مرحلة الا انه ليس شخصاً انما فكراً وتعبيراً. يجب تعميم هذا الفكر لايصاله الى المجتمع وعلى الواعين في المجتمع ان يصروا عليه لمواجهة الفكر الانغلاقي والصوت الموتّر. فليس بالقوة تواجه الآخر انما بالعقلانية والحكمة والكلمة الطيبة والحوار، وهذا هو عنوان السيّد فضل الله.

 

المصدر : موقع ليبانون فايلز.
 

Leave A Reply