الشيطان يغوي الإنسان لكنه لا يلغي إرادته

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

 

الخطبة الأولى

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ *وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}(يس/60-62).

بدء المعاناة

بدأت معاناة الإنسان من إبليس، منذ أن خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض، وحين طلب الله منه أن يسجد لآدم تكريماً له، أبى وعصى واستكبر، وهو الّذي عبد الله آلاف السّنين مع الملائكة، وكانت حجّته: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين.

لقد تمرّد إبليس على إرادة الله سبحانه، فطرده من ساحة رحمته، ومنذ تلك اللّحظة، أعلن عداوته للإنسان وملاحقته له، وكان آدم وحوّاء أوّل ضحاياه، ورّطهما في الأكل من شجرة نهاهما الله عنها، وأخرجهما من الجنّة، وهكذا بدأت معاناة الإنسان معه، لذلك حذّرنا الله منه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر/6)، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(يوسف/5).

لم يصف القرآن الكريم أيّ كائن من الكائنات، بالصّفة الّتي وصف بها الشّيطان أنّه عدوّ. وقد ترجم هذه الصّفة إلى حربٍ مفتوحةٍ مع الإنسان، كما قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(الأعراف/16-17).

{لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا… وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ}(النّساء/118-119).

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر/ 39].

سلاح المواجهة

أيّها الأحبّة: من رحمة الله بنا، أنّه لم يترك إبليس ينفّذ مشروعه بكلّ حريّة، بل أمدّ الإنسان بكلّ الوسائل الّتي تقيه من عبثه بفكره وإيمانه. صحيح أنّه أعطى للشّيطان حريّة التحرّك في حياة الإنسان، بحيث بات قادراً على إغوائه وإضلاله، لكنّه في الوقت نفسه، أعطى الإنسان أيضاً القدرة على أن يقبل أو يرفض هذا التدخّل… والسّلاح الّذي تملكه هو أمضى من سلاحه، فأنت تملك عقلاً قادراً على أن يُميّزُ الخير من الشّرّ، بين الحسن والقبيح، بين ما هو صالح لك وما هو فاسد… وقد ملّكك الله إيماناً وإرادة صلبة، وزوّدك بتعاليم الأنبياء، وحذّرك من الشّيطان: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا…}(الأعراف/27)، {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(المائدة/91)…

والشّيطان، أيّها الأحبّة، يبحث عن أسهل الأبواب لتوريط الإنسان، وما أكثرها هذه الأيّام! وهو لا يوفّر أيّ فرصة لإيقاع النّاس بحبائله، ويستخدم الأسلوب المناسب في المكان المناسب، فهو مخطّط بارع لا يستعجل النّتائج، بل يعتمد سياسة الخطوة خطوة.

انظر ماذا يفعل بشابّ يريد جرّه إلى مجلسٍ ليعصي الله فيه؛ إنّه يُزيّن له محاسن الجلسة، يُمنّيه بما سيجده من ملذّات. هو لا يدفعه دفعاً، بل يأخُذُه برفق. المهمّ أن يوصله إلى الباب، يوسوس له: لا ضرر في أن تتفرّج، من حقّك أن تعيش شبابك، العمر طويل أمامنا ويمكنك أن تتوب فيما بعد، أجّل الصّلاة، أجّل العمل…

والنّتيجة أنّ هذا الشّابّ الّذي كان ضحيّة سهلة، سينغمس في هذه اللّعبة، ومع كلّ خطوة جديدة في المستنقع، يتحوّل إلى لعبة طيّعة في يد الشّيطان، هذا إذا لم يتحوّل إلى جنديّ مطيع من جنوده وأعوانه.

مثل هؤلاء لا يجد الشّيطان عناءً كبيراً في جرّهم إلى حظيرته وإضلالهم، والتحدّي الأكبر، هو مع مؤمنٍ تمرّس بالإيمان، فهو لن يأتيه من قبل ذنب واضح أو معصية فاقعة ومكشوفة، كأن يحاول إقناعه بشرب الخمر، أو جرّه إلى ترك الصّلاة والصّيام، فقد لا يجد أذناً صاغية له، بل يستعمل معه أسلوباً آخر كي يُظهر له الباطل بصورة الحقّ، فقد يجرّه إلى مرض الغيبة بحجّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو يجرّه إلى أن يترجم دفاعه عن طائفته ومذهبه إلى موقفٍ يثير فتنة أو نزاعاً، باعتبار ذلك دفاعاً عن الحقّ، أو يرى في الكذب مصلحةً إسلاميّةً،  أو أنّ له الحقّ في أخذه مالاً لا حقّ له فيه.

تحدّي الإرادة

أيّها الأحبَّة: الكثير منَّا يضعون الشَّيطان دائماً في قفص الاتّهام، يحمّلونه كلّ تبعات ذنوبهم، ويظهرون أنفسهم بريئين من كلّ ذنب ومعصية، فالشَّيطان، في نظرهم، هو السَّبب في كلّ مشاكلهم ومشاكل الحياة.

فإذا استغابوا، وعابهم أحد، سارعوا إلى القول: "الحقّ على الشّيطان"، وإذا أخرجهم الغضب عن طورهم واقترفوا غلطةً كبيرة بحقّ إنسان، سارعوا للاعتذار: "لعن الله الشّيطان".

وهكذا يتحمّل الشّيطان لعناتهم عند كلّ زلّة أو هفوة، مع العلم أنَّ الإنسان دائماً هو الّذي يخطو الخطوة الأولى نحو الشّيطان، ويسمح له بالدّخول ضيفاً إلى روحه ونفسه وإرادته. والشّيطان لا يُلغي إرادة الإنسان. وهذه الصّورة هي الّتي سيشير إليها الشَّيطان يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}(إبراهيم/22).

أيّها الأحبّة: إنّ مواجهة الشّيطان بأيدينا، فنحن قادرون عليه، والله سبحانه يقول لنا: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}(النّساء/76).

هو لن يتمكّن من أن يصل إلى ساحة العابدين، والطّائعين، والمصلّين، والمخلصين، والمتوكّلين، والذّاكرين لله، الشّاكرين له، الباذلين، والمحبّين… نعم، سيتمكّن من ساحة الّذين يتولّونه، يعطونه زمام قيادتهم، يتركون له الأمر والنّهي…

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(النّحل/99-100). {إِنَّ عبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(الحجر/42).

وهنا نشير إلى مقالة لإبليس فيما أشار إليه الإمام الصّادق(ع): "خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة وسائر النّاس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع عند المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له".

وقد أشار النبيّ(ص) إلى الأسلوب الّذي يقضي به على الشّيطان، فقال: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد عنكم الشّيطان كما يتباعد المشرق عن المغرب؟ فقيل: نعم، قال: الصّوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ لله والمؤازرة على العمل الصّالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه".

الشّيطان يطوّر أساليبه

أيّها الأحبّة: لم يعد إبليس فرداً واحداً، بات له جنود وأعوان وأتباع، وقد طوَّر أساليبه فأصبح مؤسَّسات ودولاً ومواقع وجهات، بتنا نجده في السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتّى في ساحة الدّين،  هو موجود في كلّ متكبّر وطاغية وظالم، في كلّ كاذب ومخادع وداعية انحراف وفساد، نجده في كلّ متعصّب منغلق لا يقبل بالآخر لأنّه آخر ومختلف عنه، نجده في كلّ عامل لبثّ الفتنة والفرقة وإثارة الأحقاد والعداوات، نجده في كلّ مثبط للعزائم ولا يريد للنّاس أن يعملوا للخير…

لا يكفي أن نلعن الشّيطان أو أن نحمّله مسؤوليّة كلّ معاصينا، بل أن نمنع حركته في حياتنا، في حياة أولادنا ومجتمعنا وأمّتنا، أن نوقف مشاريعه، أن نبقى واعين كي لا يغدر بنا، أن نتعوّذ منه بالله في كلّ لحظة: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}(المؤمنون/97-98)، وأن ندعو: "اللّهمَّ إنَّا نعوذ بك من نزعات الشَّيطان الرَّجيم وكيده ومكائده، ومن الثّقة بأمانيه ومواعيده وغروره ومصائده، أو أن يحسُن عندنا ما حسَّن لنا، أو أن يثقُل علينا ما كرّه لنا".

"وَاجْعَلْ آباءَنَا وَأُمَّهَاتِنا وَأَوْلاَدَنَا وَأَهَالِينا وَذَوِي أَرْحَامِنَا وَقَرَابَاتِنَا وَجِيْرَانَنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ فِي حِرْز حَارِز، وَحِصْن حَافِظ، وَكَهْف مَانِع، وَألْبِسْهُمْ مِنْهُ جُنَناً وَاقِيَةً، وَأَعْطِهِمْ عَلَيْهِ أَسْلِحَةً مَاضِيَة"، يا أرحم الرّاحمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، لنحصل على النّعيم المقيم، حيث {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ* يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ* ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزّخرف: 67-70].

ومن التّقوى أن نستوصي بوصيّة أمير المؤمنين(ع) لولده الإمام الحسن(ع): "أحيِ قلبك بالموعظة، وذلِّله بذكر الموت، وبصِّره فجائع الدّنيا، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّره بما أصاب مَنْ كان قبلك من الأوَّلين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليل صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبِع آخرتك بدنياك، وإيّاك إيّاك أن تغترّ مما ترى من إخلاد أهل الدّنيا لها وتكالبهم عليها، فقد نبّأك الله عنها، ونعت لك نفسها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية"…

لبنان: فراغ يهدّد البلد

أيّها الأحبّة، لنكن الواعين الّذين يعتبرون الدّنيا ساحتهم، يؤدّون فيها كلّ مسؤوليّاتهم، حتَّى إذا غادروها ونوديَ بهم، تتلقّاهم الملائكة بالبشارة: السّلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين.

إنّ مسؤوليّتنا لا تقف عند حدود الصّلاة والصّيام، بل إنّها تتّصل بالأرض والعباد، فنحن مسؤولون عن أوطاننا على أيّ حالٍ تركناها، مسؤولون عمّا يجري في بلدنا لبنان، الّذي يواجه مرحلةً من أصعب المراحل في تاريخه الحديث، بعدما دخل في فراغ حكوميّ يُنذر بفراغ أمنيّ، ويُخشى أن ينذر بفراغ نيابي ورئاسيّ، وهو يأتي في ظلّ أزمات تعصف به، حيث التوتّر الأمني المتنقّل من منطقة إلى أخرى، ومسلسل الخطف والخطف المضادّ الّذي بات هاجس اللّبنانيّين، ونخشى من نتائجه على السّلم الأهليّ، ولا سيّما أنّ هذه الأمور قد تأخذ طابعاً مذهبيّاً وسياسيّاً، حتّى عندما تكون بعيدة كلّ البُعد عن القضايا المذهبيّة والسياسيّة، ونحن في الوقت الّذي نحيّي كلّ الأصوات الّتي ارتفعت رافضةً كلّ عمليّات الخطف هذه، والّتي دعت إلى قطع دابر الفتنة، ندعو الجميع إلى التصدّي لكلّ هؤلاء الّذي يعبثون بمصير البلد، سواء التفتوا إلى ذلك أو لم يلتفتوا.

وإلى جانب هذا الوضع، نشهد تفاقماً للمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعدم إيجاد الحلول النّاجعة لها، ما بات يشكِّل قلقاً وخوفاً عند كلّ اللّبنانيّين، ويُنذر بعواقب وخيمة على واقع مستقبل هذا البلد الصّغير.

إنّ كلّ هذا الواقع يستدعي استنفاراً من الأطراف الفاعلين في هذا البلد، موالاةً ومعارضة، للتّلاقي ودراسة أفضل السّبل للخروج من كلّ هذه الأزمات وتوقّي تداعياتها، ولا سيَّما أنَّ بعضها أصبح يأخذ أبعاداً خطيرة على علاقة اللّبنانيّين بعضهم ببعض، وعلاقة لبنان مع محيطه.

لحكومةٍ تتحمَّل أعباء المرحلة

ومن هنا، فإنّنا نضمّ صوتنا إلى كلّ الأصوات الّتي تدعو للعودة إلى جلسات الحوار، للتّفاهم على استراتيجيّة وطنيّة عامّة، تضع ضوابط في أداء العمل السياسيّ وأسلوب الخطاب، وتسمح بتسيير العجلة الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة، وتضمن عدم الوصول إلى حافة الانحدار.

لقد جرَّبنا طويلاً أن يستفرد فريق أو طائفة أو مذهب، أو حتّى شخص، بهذا البلد، فوصل البلد إلى ما وصل إليه من احتقان وتوتّر، ولم يكن بالإمكان معالجة المشاكل وحلّ الأزمات، فلنجرّب أن نتشارك ونتعاون، لكن لا ليسجِّل كلّ فريق النّقاط على الآخر، أو ليغلق كلّ فريق الطّريق أمام الآخر، أو ليفكّر في حساباته الطائفيَّة أو المذهبيَّة أو السياسية، بعيداً عن المصلحة العامّة، بل أن ينطلق الجميع تحت شعار "لأسلمنّ ما سلمت أمور اللّبنانيّين".

ومن هنا، فإنّنا ندعو إلى الإسراع في إيجاد حكومة فاعلة قادرة على حمل أعباء المرحلة الصّعبة على مستوى قضايا الدّاخل ومواجهة تحدّيات الخارج، حكومة يتمثّل فيها الجميع، شرط أن ينطلقوا بروحيّة جديدة عنوانها حفظ هذا البلد وإنسانه.

إنّنا في هذه المرحلة، حيث تتكرّر تهديدات العدوّ بشنّ حرب جديدة على لبنان، تتزامن مع اعتداءاته المتواصلة على السيادة اللّبنانيّة من خلال الاعتداء على الأجواء اللّبنانيّة، واختراق العدوّ للخطّ الأزرق، وفتح طرقات ورسم مواقع جديدة داخل الأراضي اللّبنانيّة، كما يجري في منطقة الوزّاني وغيرها.

إنَّ الحريص على السّيادة اللّبنانيَّة وقوّة هذا البلد، عليه أن يكون حريصاً على الوحدة الدّاخليّة الّتي تشكّل المنطلق الأساس لمواجهة غطرسة العدوّ الصّهيونيّ، الّذي يصعّد من اعتداءاته كلّما استحكم الخلاف الدّاخليّ، ويستغلّ أيّ انقسام للنّفاذ منه.

ومن هنا، فإننا نقول للّبنانيّين: مزيداً من العمل لتقوية اللُّحمة الدّاخليّة، مزيداً من التراصّ بين عناوين القوّة في هذا البلد؛ الجيش والمقاومة والشَّعب.

سوريا: انعدام فرص الحلّ

ونصل إلى سوريا، حيث يستمرّ نزيف الدَّم والدّمار ومسلسل التّفجيرات الّذي يطاول البشر والحجر، وليس آخرها ما حصل في كليّة الهندسة في دمشق، في ظلّ انعدام فرص الحلول والحوار الجادّ بين الأفرقاء، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة والتسلّح واستقدام المقاتلين من كلّ حدبٍ وصوب.

وكم كنّا نتمنّى من الجامعة العربيّة الّتي اجتمعت أخيراً، أن تكون جسر تواصل بين الفرقاء كافّة، وأن تهيّئ الأجواء لحوار جادّ يُخرج هذا البلد من دائرة الاستنزاف الّذي تعمل الدّول الكبرى على إطالته، وتسعى لإيجاد الحلول بدلاً من مفاقمتها.

إنّنا ندعو الدّول العربيّة إلى عدم الوقوع في الفخّ الّذي يُنصب لها، لجعل قدراتها ومواردها تضيع في الصّراعات الداخليّة، بدلاً من أن تُصرف في تنمية بلدانها ومساعدة بعضها بعضاً، فلا يُرتهن هذا البلد العربي أو ذاك للبنك الدّوليّ أو لأعطيات الدّول الكبرى الّتي لا تعطي إلا بحساب.

إنّنا نريد للجامعة العربيّة أن تكون موقعاً تتلاقى فيه إمكانات العرب وجهودهم وقدراتهم، لمواجهة التحدّيات الخارجيّة، وفي مقدّمها، تحدّي العدوّ الصّهيونيّ والاستكبار العالميّ الَّذي يريد لهذه المنطقة أن تكون بقرةً حلوباً له، إضافةً إلى تحدّيات الدّاخل، حيث يراد للفتنة أن تعصف ببلداننا العربيّة، فلا تقوم لها أيّ قائمة.

لقد كنّا نأمل من الجامعة العربيَّة أن تأخذ موقفاً عمليّاً من الأطماع الصّهيونيَّة ومن الاستيطان وعمليّات التّهويد المستمرّة للقدس وكلّ فلسطين، وأن يكون لها موقف واضح حيال كلّ ما يتّصل بالأسرى الفلسطينيّين الّذين يضربون عن الطّعام، وحيال خطاب الرّئيس الأمريكيّ الّذي أعلن دعمه الكامل لهذا الكيان، من دون أن يراعي مشاعر العرب والمسلمين والشّعب الفلسطيني، فلا يكتفي العرب بتقديم بعض الأموال الّتي منّنوا الشّعب الفلسطينيّ بها، بعيداً عن أيّ استراتيجيّة لتقويته في مواجهة الكيان الّذي يستبيح التّاريخ والحاضر والإنسان، وكم كنّا نتمنى أن تكون المواقف القويّة الصّلبة التي تُتّخذ في مواجهة هذا البلد العربيّ أو ذاك الإسلاميّ، بالقوّة نفسها والعزيمة ذاتها في مواجهة هذا الكيان الصّهيونيّ، أو في مواجهة الّذين يكيدون للعرب والمسلمين.

تركيا: الدّور المطلوب

أمّا تركيا، الّتي قدّم الكيان الصّهيوني الاعتذار إليها، فإنّه قد يمثّل إيجابيّة لتركيا بإصرارها على دفع العدوّ إلى هذه النّتيجة، إلا أنّنا كنّا نريد لتركيا أن لا تقف عند حدود الاعتذار لتعيد تطبيع العلاقات مع الكيان الصّهيونيّ، بل أن تنظر بمسؤوليّة إلى الدّور المطلوب منها إسلاميّاً في رفع المعاناة عن الشّعب الفلسطينيّ، ومواجهة اعتداءات الكيان الصّهيونيّ على المسجد الأقصى وغيره، كما ندعوها إلى أن تكون أولويّاتها ترطيب الأجواء مع محيطها العربيّ والإسلاميّ، لتعيد إنتاج علاقات متوازية مع هذا المحيط الّذي يشكّل عمقها الاستراتيجيّ، وهو ما لا تحقّقه العلاقة مع الاتحاد الأوروبّي ولا مع الكيان الصّهيوني.

حقّ المغتربين اللّبنانيّين

وأخيراً، فإنّنا ندعو الدّولة اللّبنانيّة إلى الاهتمام باللّبنانيّين الَّذين يعيشون في بلاد الاغتراب، والَّذين لهم حقّ علينا جميعاً، حيث يعانون التوتّر الحاصل في أماكن تواجدهم، كما يحصل للقاطنين في أفريقيا الوسطى، أو الّذين يتعرّضون للخطف، وإن كان بعضهم قد أُطلِق، والحمد لله، ولكنّ هناك من لا يزال مخطوفاً في نيجيريا، فلا بدَّ من أن يشعر هؤلاء بالاهتمام من حكومة بلدهم، كونهم قوّة البلد وعزّته، ويساهمون بشكل فاعل في بنائه وإعماره، وحتّى في تثبيت اقتصاده، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يحميهم من كلّ الأخطار.

Leave A Reply