الصراع بين الحق والباطل في القرآن الكريم
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ*لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ*بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}
إن صراع الحق مع الباطل سنة إلهية، حكمت وتحكم مسيرة الإنسانية، ولا يخلو منها مجتمع، مهما كانت درجة تطوّره. ففي كل تجمّع إنساني تنشأ علاقات تنافسية، أساسها التدافع والتسابق على الموارد والخيرات والمال والقوة والمنصب والجاه والنفوذ.
وهذه المقاصد لا تتحقق عفوياً، إنما تأتي في سياق معارك، تأخذ أشكالاً وأنواعاً متعددة: ناعمة أو دامية، شريفة أو خبيثة، وذات مظاهر فكرية أو عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو امنية.
إن أبرز مشكلة تعانيها الحياة الإنسانية هي مشكلة تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد، أو الأنا، ومصلحة نحن أو المجتمع، وتبدأ المشكلة عندما تتسلط روح الأنانية على الإنسان، فتصبح مصلحته ومنفعته هما المعيار لأي سلوك أو موقف. يعني يصبح على استعداد أن يغلِّب الظلم على العدل، أو الكره والتعصّب على الحب والتعاون والتسامح ويغلِّب الباطل على الحق. ويبدأ الصراع عندما يستشري الفساد، ويتحكم الظلم والاستكبار بحياة مجتمع ما ويعم الخراب.
هنا يكون جوهر الصراع عبارة عن تنافس إرادات باتت على طرفي نقيض: إرادات تسعى لتمكين كل ما يساهم في إعمار الحياة، والخير، في مواجهة إرادات همّها مصالحها ومنافعها مهما كلفها ذلك من افساد في الأرض او تخريب.
والقرآن الكريم تحدث عن العديد من صور هذا الصراع ومنطقه ومنطلقاته وسنعرضها في ثلاث نقاط اساسية:
النقطة الأولى: تلازم عملية الصراع بين الحق والباطل مع سنة الإبتلاء، فالحياة الدنيا في نظر أهل الحق دار إبتلاء، وممر إلى الحياة الأخرى. أما في نظر أهل الباطل فإن الدنيا هي المال والمنصب والجاه، والقصور، والشهرة، والإسم، والحرص على المغانم ….{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }
إن من ثوابت تاريخ الصراع بين الحق والباط أن من يقف في وجه سلاطين الإستبداد والفساد عليه أن يخشى على منصبه وماله، وأن يخاف على حياته .
فمن ثوابت سنة الإبتلاء هذه، سنة الصراع بين الحق والباطل، أن نماذج القاضي شريح موجودون في كل مراحل التاريخ، وكلهم على إستعداد دائم أن يُدلوا بشهاداتهم كما يشاء الأمير، ومتى شاء الحاكم. والشاطر منهم من يسارع قبل الجميع إلى القول: اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رميت.
أما نماذج الحر الرياحي، فهم صفوة الصفوة، الذين هم في مواقع الابتلاء (في المعركة) التقطوا انفاسهم ، اعادوا تصويب مسارهم وانتقلوا من ضفة الباطل الى ضفة الحق رغم الاثمان الباهظة على المستوى الدنيوي والرابحة على المستوى الاخروي.
والنقطة الثانية: هي التمييز بين الحق والباطل عند اشتداد الصراع.. وكلنا يعلم أنه في عهود التخلف والتبعية، كان الحق هو ما يقوله الملك، وزعيم القبيلة أو العشيرة، أو اي مستبدّ عات، أو اي جهة ذات حسب ونسب أو تملك الثراء والجاه. حينها كان الحق يعني كل ما يُلائم ويتوافق مع مصالح هؤلاء، وأي شيء يتعارض مع هذه المصالح فهو باطل.
وجاء الإسلام ليرفض هذا المعيار في تمييز الحق من الباطل، (عمره ما كان الأشخاص هم المقياس) .. لأن الأشخاص يتبدلون ويتغيرون ويتلونون وينقلبون وبين يوم وليلة ..اذا الحق هو مقياس الحق، وليست العناوين ولا المواقع والأشخاص… بعد معركة الجمل، سأل أحدهم الإمام علي (ع) عمّن من الطرفين على الحق، فقال علي (ع):" يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرْت. إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه."
نعم صدق امير المومنين في هذا الدرس التربوي والسياسي والاجتماعي بامتياز فالحق أرفع من الأسماء والألقاب والمراتب والمناصب، فلا نسب بين أي كان… فينصحنا إمام الحق علي (ع): إعرف الحق تعرف أهله. ويقول أيضاً: إن الحق لا يُعرف بالرجال.
أما تشخيص الموقف الحق، والسلوك الحق، والرأي الحق، وتمييزه من الرأي الباطل أو الموقف الباطل فهو يتطلب إعمال عقل وفق المبدأ القرآني "وتبيّنوا". ووفق قاعدة تفكروا وتبصروا ولا تؤجروا عقولكم او تعطلوها..واسألوا بقلب سليم خال من التعصب وعقل مفتوح بعيد عن التحجر.
ويوصينا علي (ع): "أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع. الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت".
من هنا تنبع مأساتنا اليوم في تقديم الباطل على طبق من الإعلام البرّاق باعتباره الحق الذي لا يخالطه اي زيف. وهي المعركة الأخطر حيث كان يختلط السم بالعسل.لأن المفسدين لا يمكن ان يقدموا لك سما بشكل مباشر لأنك سترفضه انما يفعلون ذلك بشكل موارب ومخلوط بقليل من العسل من اجل تضييع قدرتك على التمييز:
وفي هذا المجال ورد عنه : "كم من ضلالة حرفت بإية من كتاب الله .. كما يزخرف الدرهم النحاس بالفضة المموهة"
تبقى النقطة الثالثة هي في نوعية الأسلحة التي يستعملها الباطل:
يحدّثنا القرآن الكريم عن أسلحة متنوعة يلجأ إليها الباطل ليواجه الحق، وراقبوا كيف هي عملية التدرج:
أ- اول سلاح هو تشويه صورة قادة الحق والتشكيك فيهم:
قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. (الأعراف/60)
إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين. (الأعراف/66)
ب- ثاني سلاح الاعراض عن سماع الحق وصدّ أي كان عن محاولة سماعها:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }
وفي تجربة النبي نوح مثالاً على الصد: { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } (نوح/5-6-7)
ج- البعض قد يحاول ان يبدو اشجع فيلجأ إلى سلاح الجدال والتنفنن بالكلام ليدحض الحق:
{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا}
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الإنعام / 121)
هـ- ومن الأسلحة تشويه رسالة الحق نفسها بعيداً عمن أتى بها بتحريف مضمونها و بتشويه أهدافها والتخويف من نتائجها وترويج إشاعات مضللة حولها:
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا }
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى }.
و- بعدها يأتي التحريض :
{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ …}
ز- وصولا الى الرد بالعنف والقتل:
وفي حال فرعون قال{ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. (يس / 18)
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
ايها الاحبة، ستبقى معركة الحق والباطل ما دام الانسان قائماً على هذه الارض و بيده الاختيار…والاسلحة باقية هي هي ما علينا الا الوعي والعلم والتنبه والتبين والتبصر…
والاهم من ذلك كله أن تكون بوصلة الحق هي قبلتنا، لا بوصلة الاشخاص ولا اصحاب المواقع والمال… وهذا يحتاج منا الى تربية نفس وتزكية وجهاد، كي تعي هذه النفس وتتغلب على اسلحة الباطل… ولا تقع في فخ العصبية والفعل الغريزي..
اليوم ايها الاحبة نعم الاسلحة هي هي… في اي موقع يحصل فيه صراع ولو كان على مواقع التواصل حيث التصارع هو حول فكرة او موقف او رأي… فتمتلئ الصفحات بالتشويه والاستهزاء والسباب و تسخيف الافكار والتطاول والتصنيف.
ثم الاتهام والتخوين و التشهير والمقاطعة وبعدها التحريض الفعلي وصولاً الى الايذاء وتسجيل التقارير وحتى الصد والالغاء ولو كان بامكان بعضهم ان يفعلوا ذلك جسديا لما قصروا…
هذه صورة من واقعنا اليومي الفردي الذي تمتلئ به منصات الحوار ومن الجميع دون استثناء اي الطرفين المعلِّق والمعلَّق عليه كحد سواء … وهو نموذج مؤسف ومؤلم.. وهو نموذج مصغر لما نعانيه ايضا في القضايا الكبرى الوجودية والعقيدية والتحررية، حيث نشهد في أرض الواقع سياسات التشهير والتشكيك بفئات من المجتمع وبطوائف ودول واحزاب وفبركة دعايات واخبار وصور وملفات وسخرية وتوهين ومحاولة اسقاط ومحاربة وأذية في الارواح والاموال والأرزاق.
انها الاساليب القديمة تتجدد وستبقى تستشرس لتكسب .. نعم قد تكسب جولة ولكن لن تكسب المعركة طالما هناك نفوس صافية وأبية لا تبيع نفسها لهوى او مال او جاه لا تسقط امام خوف او تهويل او ترهيب لا تقبل ان تلوث فطرتها التي فطرها خالقها وبرأها … وقالها امير المؤمنين : "من أبدى صفحته للحق هلك ومن صارع الحق صُرع"
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا* وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي السَّبيل لمواجهة التّحدّيات وتحقيق الانتصارات، والتقوى تعني أن يكون هدفك رضا الله، فلا تخطو خطوة إلا لأجله وفي سبيله.. وهذا هو ما أرادت أن تشير إليه هذه القصّة، حيث ورد أنَّ بني إسرائيل اتخذوا شجرة وراحوا يعبدونها من دون الله، فغضب أحد عبادهم، وجاء بفأسٍ ليقطعها، فعارضه إبليس فواجهه العابد وتعاركا، فانتصر عليه العابد وأوقعه أرضاً، وقرر أن يعود في اليوم الثاني ليقطعها، فتكرر معه ما حصل في اليوم الأول، وكذلك الأمر في اليوم الثالث.
وعندما رأى إبليس إصراره على قطع الشجرة، قرر أن يعقد معه صفقة، فقال له: اترك قطعها وأنا أعطيك دينارين تجدهما تحت وسادتك عندما تستيقظ، وفعلاً تحقق هذا الأمر في اليوم الأول والثاني والثالث وانقطع في الرابع. عندها، أخذ العابد الفأس وذهب لقطع الشجرة، فعارضه إبليس وانتصر عليه، فسأله العابد: كيف غلبتني بعدما كنت غالبك؟ فقال له: الأمر بسيط، لما غضبت في المرة الأولى لله غلبتني، ولكن الآن غضبت لدينارين فغلبتك..
أيها الأحبة، لتكن بوصلتنا دوماً وأبداً باتجاه الله، وعندها لن نكون لوحدنا في مواجهة التحديات..
لبنان
والبداية من لبنان، الذي لم يعد الحديث فيه حديث الإيجابيات التي تتمثل في البلد في جماله وحيوية إنسانه، وتنوّع أديانه ومذاهبه، أو في الحرية التي ينعم بها، بقدر ما صار الحديث عن أزمات متتالية، حتى بات يُخشى عليه من أن يُصنّف من الدول الفاشلة، فما إن ينتهي من أزمة عاصفة تهزّ أركانه وتشوّه صورته أمام الآخرين، حتى يدخل في أزمة أخرى، وما إن تنفّس الصعداء لاقتراب انتهاء مشهد النفايات الذي ملأ طرقاته وساحاته، ولوّث بيئته، وعبث بصحة أبنائه وبصورة بلدهم لمدة تسعة أشهر، مع كل علامات الاستفهام التي ستبقى حاضرة عن الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة وطبيعة الحل وما ورائه وما بعده، حتى ظهرت إلى العلن أزمات جديدة وخطيرة، إحداها تمسّ غذاء اللبنانيين جميعاً، في ما أثير عن القمح الملوّث الذي استهلكناه ولا زلنا نستهلكه، والأخرى تمسّ خزينتهم وأمنهم، من خلال اكتشاف شبكة الإنترنت والاتصالات غير الشرعية.
ومع الأسف، يجري ذلك وسيجري من بعده الكثير، وليس هناك من يتحمل المسؤولية، أو من يحاسب على تقصيره، فالكل يملك التغطية الكاملة من طائفته أو مذهبه أو موقعه السّياسيّ حتى لا يُحاسب ويسأل، والكل آمن وسيُجدّد له، وما على الشعب إلا أن يرضى بما قسم هو لنفسه أو ما قُسِّم له.
والحديث عن معاناة اللبنانيين لا يقف عند حدود وطنهم، بل يتعداه إلى بلدان الاغتراب، حيث تستمر معاناتهم من خلال الإجراءات التي تطالهم في الخليج تحت عنوان ديني أو مذهبي أو سياسي، أو من خلال ما جرى في أبيدجان من الاعتداء الإرهابي الذي أصاب هذا البلد.
إن كل هذا الواقع بات يحتّم على كل القوى السياسية أن تتحمل مسؤولياتها كاملةً لإيجاد الحلول، فقد تعب اللبنانيون من توصيف المشاكل التي يعانيها هذا البلد، ومن تقاذف المسؤوليات بين من هم في مواقع المسؤولية، في ظلِّ الفشل في معالجة هذه المشكلات من خلال اعتماد سياسة التأجيل أو الارتجال أو الانفعال.
لقد قلناها أكثر من مرة: إننا لا نرى حلاً لمشاكل هذا البلد إلا إذا شعر من هم في مواقع المسؤولية بأنهم أمام شعب يراقب ويتابع ويدقق، ويرفع صوته ليعترض ويحاسب.. لذا سوف تستمر المشكلات ما داموا آمنين من هذا الشعب، وقادرين على تخديره بالكلمات والشعارات والوعود المعسولة، ودغدغة عواطفه المذهبية والطائفية.
سوريا
ونصل إلى سوريا، الَّتي أنهت خمس سنوات من المعاناة والآلام التي أصابت الحجر والبشر، ليكتشف السوريون مدى الضرر اللاحق بهم بعدما تحوّل بلدهم إلى موقع من مواقع الصراع الإقليمي والدولي، أو إلى مكان لتصفية الحسابات الخارجية، والقليل منهم من يفكر في مصلحة هذا الشّعب والتخفيف من آلامه ومعاناته، ويكفي أن ننظر إلى الوفود المجتمعة الآن في جنيف، لنكتشف أنها تدخل المفاوضات من موقع الممثّل للدول الإقليمية أكثر من تمثيلها للشعب السوري، وإن ادّعت النطق باسمه.
لقد آن الأوان للشّعب السّوري أن يأخذ خياره باستمرار المصالحات مع من يريدها، والضَّغط على من لا يريدها، والتّوافق على صيغة عقد اجتماعيّ وسياسيّ يضمن لهذا البلد الخروج من أزماته، ويمنع العبث بوحدته أو بقوته، وخصوصاً بعد أن بات واضحاً أنّ الحلّ في سوريا، كما هو في اليمن،كما هو في كلّ مواقع الصّراع الأخرى، لن يكون حلاً عسكرياً، بل سيكون حلاً سياسياً بالحوار والتوافق، فليكن ذلك عاجلاً لا آجلاً، حتى نوفّر المزيد من نزف الدم والدمار.
العراق
وإلى العراق، الّذي لا تقف معاناته عند حدود أزمته مع الإرهاب الجاثم على صدره، بل تمتدّ إلى الفساد الذي إن استمرّ سيودي بكلّ الإنجازات التي تحققت، وسيطيح باقتصاده وسياسييه، وسينعكس على أمنه وقدراته على مواجهة الإرهاب.
إنّ كلّ القوى السياسيّة الحريصة على هذا البلد مدعوة إلى أن تخرج من حساباتها الخاصّة ومحاصصاتها وصراعاتها ومناكفاتها، وإلى أن تخرج إنسان هذا البلد من أزماته، حتى يشعر بأنه يعيش في ظلّ دولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، ولا يتحسّر على ماضٍ لا يريد العودة إليه.
يوم الأمّ
وأخيراً، وعلى مقربة من اليوم العالمي للأمّ، نتوجّه بالتقدير والامتنان إلى قلب الأم الحاني، وإلى عطاءاتها غير المحدودة، وتفانيها، ورعايتها، وتربيتها.. فنحن مدينون لها بكل ما وصلنا إليه، ومن حقّها علينا أن نكرمها، وأن لا نقف عند التكريم المادّيّ، بل أن نبادلها ما بادلتنا به.
ومهما فعلنا، فإننا لن نستطيع أن نوفيها حقّها، إلا بأن نستعين بالله ونسأله أن يجزيها خيراً على ما قدّمت وأعطَت، وأن يعيننا على أداء واجبنا تجاهها في الدنيا، وأن يرفع من درجتها في الآخرة.
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : 9 جمادى الثانية 1437هـ الموافق : 18 اذار 2016م