العفّة أساس لصناعة الشخصيّة الإسلاميّة

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

لم يكن هدف القرآن الكريم من سرد قصصٍ حصلت في التّاريخ الموغل في القدم، وفي تاريخ الرّسالة، مجرّد ذكر لهذا التّاريخ، إنما الهدف هو ما أشار إليه القرآن الكريم مراراً وتكراراً: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}[يوسف: 111].

ومن القصص القرآني الّذي نستعيده اليوم، قصّتان نوجزهما سريعاً، وقد اخترتهما لأنهما يلتقيان عند قيمةٍ واحدة..

قصّتان.. وعبر

قصّة مريم بنت عمران، وقصّة النبيّ يوسف(ع).

السيّدة مريم، كما تعرفون، تربّت في بيت إيمان وطهر، فهي ابنة رجل ينتسب إليه آل عمران الّذين قال الله عنهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 33]. والاصطفاء يعني خلوص الشّيء من أيّ عيبٍ أو شائبة.

وقبل أن ترى السيّدة مريم النّور، كانت أمّها قد نذرتها لخدمة بيت الله (بيت المقدس)، أي أنّها كانت مشروع إنسان مكرَّس للعبادة ولطاعة الله، ولهذا عندما سمّتها أمّها، سمّتها مريم، أي العابدة.

وكبرت مريم نقيّةً طاهرة، غارقةً في العبادة وخدمة بيت الله، بعد أن أنبتها الله نباتاً حسناً، فقد اختار الله لكفالتها ورعاية شؤونها نبيّاً هو زكريّا، وترعرعت في ظلال بيت المقدس، حتّى اشتدّ ساعدها وقوي عودها، وقد بلغ بها الأمر أن صار يضرب المثل بطهارتها ونبلها، وصارت قدوةً في العفّة لنساء جيلها وللإنسانيّة.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم: 11-12].

أيّها الأحبّة، لقد بلغت السيّدة مريم(ع) كلّ هذه العفّة وهذه الطّهارة بالإيمان والصّبر وقوّة التحمّل والإرادة والانتصار على النّفس والتمسّك بحبل الله وطاعته، ما جعلها تمثّل أنموذجاً قرآنيّاً في العفّة والفضيلة .

أمّا النبيّ يوسف(ع)، فهو الأنموذج الآخر، الّذي سجّل الله لنا قصّته بتفاصيلها وأحداثها الدّقيقة. هذا وقد ارتبطت قصّته بالعفّة ارتباطاً وثيقاً، فالنبيّ يوسف(ع) دخل قصر العزيز كعبدٍ، وكان لا يزال فتى لم يبلغ الحلم. كان الجميع من حوله غارقين في حياة الشّرك، ورغم ذلك، نما يوسف نقيّاً طاهراً، روحاً وجسداً وفكراً وإيماناً…

زوجة عزيز مصر حاولت رميه في شراكها، استعملت معه شتّى الأساليب، لتسقط من حوله سياج العفّة. استعملت الإغراء، السّلطة، المال، الجاه، عطفها عليه ورعايتها له… ولكنّ كلّ ذلك لم يسقط صمّامات الأمان والوقاية عند يوسف، فقد استعصم وتمسّك بحبل ربّه المتين.

ولذا قال في أشدّ السّاعات حراجةً، عندما دعته امرأة العزيز للمعصية: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف: 23]، وحين حبكت له مؤامرةً مع نسوة المدينة، بقي يوسف على إيمانه، وقال لربّه: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…}[يوسف: 33].

ما هي العفّة؟

أيّها الأحبّة…

لم يقدّم القرآن الكريم النبيّ يوسف والسيّدة مريم كحالتين فريدتين في التّاريخ لا يمكن تكرارهما، بل أرادهما أن يكونا نموذجين لكلّ شابّ وفتاة، لكلّ رجل وامرأة، لكلّ إنسان يقرّر أن يسير في طريق العفّة والطّهارة، وأن يبتعد عن الرّذيلة والانحراف، والسّقوط في مهاوي الشّهوة، ليقول في كلّ مفصل: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}[يوسف: 23].

وهنا يُطرح السّؤال: ما هي العفّة؟ وأيّ سبيل لبلوغها؟

العفّة، أيّها الأحبّة، تعني ضبط الإنسان لغرائزه وشهواته، بحيث لا يكون أسيراً لها، تحرّكه حيث تريد أن تتحرّك، وتسيّره حيث تسير، بل أن تتحرّك في النّظام الّذي رسمه الله لها، لا تحيد عنه ولا تتجاوزه.

وهنا، وفي إطار الحديث عن معنى العفّة بمدلولها الجنسي، نشير إلى مغالطة اجتماعيّة سائدة وقع فيها البعض، عندما اعتبروا أنّ العفّة كلمة لصيقة بالنّساء دون الرّجال، وهذه الصّورة انطلقت من العقليّة الجاهليّة، الّتي تعتبر خطيئة المرأة، إن حصلت، غير مغتفرة، ولا بدّ من أن يراق بسببها الدّم، فيما خطيئة الرّجل تغتفر ويتسامح بها.. وأكثر من هذا، هناك بعض المجتمعات تعتبر أنّ تعرّض المرأة للاعتداء هو انتقاص لعفّتها، وتُحمّل ثمن ذلك، بأن يتمّ تزويجها لمن اعتدى عليها. وللأسف، ما زالت عقليّة التّمييز في موضوع العفّة والانحراف موجودة في مجتمعاتنا. من هنا، نؤكِّد ضرورة استبدال هذه القناعة بالنّظرة القرآنيَّة لهذا الأمر: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ…}[النّور: 2] فليست المرأة وحدها، إذا أخطأت، من تضع رأس أهلها بالأرض وتجلب لهم العار، كما يتحدّث البعض، بل إنّ الشابّ أيضاً يجلب بانحرافه العار والعيب لأهله ولبيئته… في حساب الله، الانحراف هو الانحراف، هو العمل المشين عن أيّ شخص صدر، والعفّة هي العفّة، هي العمل الحسن عن أيّ شخص صدر..

أساس بناء الشّخصيّة

أيّها الأحبّة…

لقد اعتبرت التّربية الإسلاميّة العفّة أساساً في بناء الشخصيّة الإسلاميّة، فالعفاف عندما يصبح سمة المجتمع، فسيقوده إلى الانضباط في علاقاته والتّوازن فيها..

بعض النّاس، أو حتّى بعض المنظّرين للحريّات، يرون في الحديث عن العفّة حديثاً عن عادات قديمة وتأخّر وعودة إلى الوراء، ونحن نقول لهؤلاء، إنّ المجتمعات الّتي غيّبت العفّة، وفتحت الأبواب واسعةً وراء الغرائز، لم تجن من تلك النّظم سوى أرقام مخيفة عن أمراض جنسيّة قاتلة، وعن جرائم وانتهاكات، وتفلّت إلى أبعد الحدود، كالشّذوذ الّذي يخالف طبيعة الحياة. لهذا، نحن ننادي بالعفّة وندعو لها، لنعيش حياة أفضل، حياة صحيّة سليمة، حياة خالية من الفوضى الجنسيّة، وفوضى العلاقات وتوتّرها واضطرابها وقلقها..

الأديان كلّها ـ أيّها الأخوة والأخوات ـ جاءت لتؤكّد هذه القيمة، والإسلام ارتقى بها إلى حدّ اعتبرها أفضل العبادة، وارتقى بصاحبها إلى مستوى المجاهدين، وحتّى بلوغ مراتب الملائكة، فقد ورد: "أفضل العبادة العفاف"، "ما المجاهد الشّهيد بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة".

آليّات تحقيق العفّة

هذا وقد دخل الإسلام في آليّات تحقيق العفّة، وعمل على رسم خارطة طريق لها، ومن هنا كانت الدّعوة إلى:

ـ غضّ البصر: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النّور: 30]،{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النّور: 31]

ـ حرمة مصافحة الرّجل للمرأة من غير محارمه، والمرأة للرّجل من غير محارمها: "لا يصافح الرّجل المرأة إلا من وراء حجاب، ولا يغمز كفّها".

ـ دعوة المرأة إلى الالتزام بالحجاب: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، ودعوة الرّجل إلى الاحتشام، وعدم اعتبار الاختلاط هو القاعدة في علاقة الرّجال بالنّساء، الّذي بات يعنون بعنوان الصّداقة، وتجنّب أجواء الإثارة، من ميوعة ورفع الكلفة وخضوعٍ بالقول، فيطمع الّذي في قلبه مرض. والخضوع بالقول هذه الأيَّام ورفع الكلفة، من الأمور الّتي تسهّلها وسائط التّواصل الاجتماعي وغيرها، ونحن دوماً نحذّر من الانزلاق إلى مثل هذه المسلكيّات، من عرض الصّور، وتبادل اللّغو والثرثرة، وغير ذلك مما يعبّد الطّريق للوقوع في الخطأ، والخطأ يجرّ الخطأ، وقد يتحوّل ـ لا سمح الله ـ إلى انحراف أو خطيئة. ولا يعتبرنّ أحد هذا الحديث كبتاً أو انغلاقاً أو تزمّتاً، بقدر ما هو سبيل وقاية وضبط، انسجاماً مع التّربية الإيمانيّة للشخصيّة الإسلاميّة المتوازنة.

وإضافةً إلى كلّ مستلزمات الوقاية لإحراز العفّة، طرح الإسلام الزّواج كحلّ أساسيّ وأمثل لبلوغ العفّة، فقد ورد في الحديث: "ما بُني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله عزّ وجلّ وأعزّ من التّزويج"، "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدّين، فليتّق الله في النّصف الباقي"…

مسؤوليّة المجتمع

أيّها الأحبّة…

قد تكون العفّة مسؤوليّة الفرد، وهذا طبيعيّ، ولكنّ المسؤوليّة الأكبر تقع على عاتق المجتمع، فالانحراف هو خطيئة المجتمع وخطيئة النّظام الاجتماعيّ ومؤسّساته، فالمجتمع كلّما صعَّب فرص الزّواج، صعَّب التمسّك بالعفّة، سواء كان ذلك عبر المغالاة بالمهر، أو من خلال الشّروط الّتي يفرضها الأهل، أو الّتي يضعها الشابّ أو الفتاة لاختيار شريك حياتهما.. وقد أشار رسول الله إلى هذا الأمر بقوله: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير".

العفّة، أيّها الأحبّة، هي مسؤوليّة كلّ شرائح المجتمع، ولا سيّما الميسورة منها، ونحن ندعو الميسورين إلى المبادرة إلى تزويج المعوزين وتيسير أمورهم، عبر تأمين متطلّبات البيت أو تأثيثه، ونأمل أن تلتقي المبادرات الفرديّة مع بعضها البعض كلّ من موقعه.. يقول رسول الله: "من زوّج أعزب، كان ممن ينظر الله إليه يوم القيامة".

كما وندعو في غياب الدّور الفاعل للبلديّات أو الدّولة، لإنشاء مؤسّسات أو جمعيّات تتصدّى لهذا الجانب من الحاجات الاجتماعيّة، والّذي قد يكون له الأثر الكبير في الأمن الاجتماعيّ..

وتبقى التّربية الإيمانيّة والرّوحيّة الّتي تعزّز في الإنسان الإحساس برقابة الله والخوف منه، والسّعي لبلوغ رضاه، ولا سيّما في ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي يعاني منها الشّباب والشابّات الملتزمات، من تحدّيات أخلاقيّة وتأخّر الزّواج القسريّ. إنّ التّربية الإيمانيّة هي الضّمانة من تسويلات النّفس الأمّارة بالسّوء، وهي الضّمانة للوصول إلى جنّة الله ورضوانه.

فقد ورد في الحديث: "سبعة يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه؛ إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه متعلّق بالمساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إنّي أخاف الله ربّ العالمين، ورجل تصدّق بصدقة وأخفاها، لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".

ولنستوص بوصيّة عليّ: "أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَع وَاجْتِهَاد، وَعِفَّة وَسَدَاد".

 بسم الله الرّحمن الرّحيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله.. ومن التّقوى أن نستعيد كلام الإمام الحسن العسكري(ع)، الّذي تمرّ علينا ذكرى وفاته في الثّامن من شهر ربيع الأوّل.

هذا الإمام الّذي ملأ الحياة الإسلاميّة علماً ومعرفةً وأخلاقاً، بحيث ترك أثره حتّى في الّذين خالفوه وناصبوه العداء. ينقل عنه أحد سجّانيه، عندما عوتب لعدم تضييقه على الإمام(ع)، قال: "ما أصنع به، وقد وكلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصّلاة إلى أمر عظيم".

وفي وصيّة لهذا الإمام لشيعته، وهي وصيّته لنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسُن خلقه مع النّاس، وقيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك.. اتّقوا الله وكونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا.. أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصّلاة على النبيّ(ص)، فإنّ الصّلاة على رسول الله(ص) عشر حسنات، احفظوا ما أوصيكم به وأستودعكم وأقرأ عليكم السّلام"…

أيّها الأحبّة، بهذا الانفتاح، كان أئمّتنا في كلّ موقع يتواجدون، يتركون أثراً طيّباً في قلوب الّذين يلتقون بهم، كما في الّذين يختلفون معهم، وكانوا يريدون لمن يلتزمونهم أن يكونوا مثلهم، أن يكون منطقهم متميّزاًً، يمتلئ محبّةً وحواراً وانفتاحاً، وهم في ذلك ليسوا ضعفاء، بل أقوياء، لأنّ قوّتك ليست في عضلاتك وسلاحك، بل في قدرتك على أن تمسك بزمام انفعالاتك وحساسيّاتك، وأن توصل فكرك ومنطقك ورسالتك إلى الّذين تلتقي معهم والّذين تختلف معهم، أن تكون حكيماً في حركتك، بحيث تكون هذه الحكمة ما نحتاجها في كلّ واقعنا، فتكون رحيماً مع المؤمنين، صلباً في مواجهة أعداء الدّين.

فلسطين: المواجهة المستمرّة

ففي فلسطين، شكّل بناء الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة قرية باب الشّمس، في الأرض التي كان العدوّ الصّهيونيّ يريد بناء مستوطنة فيها، أسلوباً جديداً في مواجهة مشروعه الاستيطاني، واستهتاره المستمرّ بحقوق الشّعب الفلسطينيّ ومقدّراته ومقدّساته، من دون أن يراعي في ذلك قرارات دوليّة ـ إن وُجِدت ـ ولا شرعة حقوق الإنسان، ولا رأياً عامّاً عالميّاً أو عربيّاً وإسلاميّاً.

إنّنا نشدّ على أيدي الشعب الفلسطيني الصّابر والصّامد، بالاستمرار في إحراج هذا العدوّ وإرباكه وتحدّيه، باللّغة الّتي يفهمها هذا العدوّ، فلا نيأس، فإنّ صاحب الحقّ قويّ، وسيصل إلى حقّه ما دام مصرّاً عليه.

استباحة الدّول الإسلاميّة

وفي مشهدٍ آخر، لا تزال بلداننا العربيّة والإسلاميّة تعاني الاستباحة من قِبَل الدّول الكبرى، والّتي تتمثّل بالطّلعات الاستخباراتيّة الّتي تجول في شتّى الأرجاء والبلدان، أو من خلال الطّائرات الّتي تقتل وتجرح بدون محاكمة، بحجّة حقّها في ملاحقة من يسمّونهم بالمتطرّفين الإسلاميّين، أو في الاستباحة الدّائمة للبحر والجوّ والأرض، كما جرى سابقاً في السّودان والعراق وأفغانستان، وما يجري الآن في مالي، ويمكن أن يجري في أيّ بلد.

إنّنا في الوقت الّذي قد نتحفّظ عن بعض الممارسات الّتي تصدر عن بعض الإسلاميّين وغيرهم، والّتي تؤمّن المبرّرات لكلّ هذه الأعمال العدوانيّة، نقول إنّ هؤلاء الّذين يقتلون ويحتلّون تحت حجج مكافحة الإرهاب، ليسوا أقلّ إجراماً وإرهاباً، ونتساءل: لماذا لا يتمّ التّعامل بالمنطق نفسه مع المتطرّفين اليهود، أو الّذين ارتكبوا المجازر، ولا يزالون، بحقّ الشّعب الفلسطيني، أو الّذين يسيرون تحت ظلال الدّول الكبرى ويمارسون القتل؟!

إنّ المطلوب من الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، أن تقف في وجه هذه الاستباحة، وتوحّد جهودها في وجه كلّ الّذين يريدون العبث بأمنها وثرواتها ومقدّراتها وحياة أبنائها.

ومن هنا، فإنّنا ننظر بعين الارتياح إلى اللّقاء الّذي تمّ بين مصر والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ونريد لهذا اللّقاء أن يعمّم على صعيد الدّول والقيادات الدينيّة والحركات والأحزاب والتجمّعات، ليساهم في التّخفيف من هذا الشّحن الطائفيّ والمذهبيّ والتوتّر السياسي، وليكون بديلاً من سياسة التباعد والتراشق والتخوين والتكفير.

سوريا والعراق: الحاجة إلى حلّ

أمّا سوريا، فتستمرّ المعاناة فيها، والّتي تمثّلت بأبشع صورها في التّفجير الأخير في جامعة حلب،  الّذي أدّى إلى سقوط العشرات من الضَّحايا من الطلاب، إنّ هذا العمل الإجراميّ يضاف إلى مسلسل التفجيرات والمجازر السّابقة واللاحقة، كما حصل في إدلب وحمص.

لقد آن الأوان لكلّ أصحاب الضّمائر والقلوب الحيّة، أن يتحرّكوا من أجل الوصول إلى حلّ ينهي هذا المسلسل، ويُبعد سوريا عن دائرة الاستنزاف وتجاذبات الدّول الكبرى وغيرها.

ونصل إلى العراق، الّذي نأمل أن يساهم الحوار الجاري بين الحكومة والمعارضة فيه، في إخراج هذا البلد من مخاطر الصّراع المذهبي والطائفي، الّذي نخشى أن يدخل العراق فيه، في ظلّ التفجيرات المتنقّلة الّتي تتصاعد في هذه المرحلة.

لبنان: صيغة وطن

أمّا لبنان، فلا يزال السياسيّون فيه غارقين في جدل البحث عن القانون الانتخابيّ الموعود، الّذي قد يصعب إخراجه في ظلّ كلّ هذه التجاذبات، حيث اختلاف المصالح بين الطّوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة، ولا حلّ إلا عندما يخرج الجميع من حساباتهم الفئويّة أو الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، إلى حسابات بناء الوطن ومستقبله ووحدة أبنائه.

إنّنا نرى أنّ السّبيل الوحيد للخروج من هذه التّجاذبات هو الاتّفاق على صيغة لبنان؛ هل نريده أن يكون بلد تجمّع الطّوائف والمذاهب، أم لبنان الانصهار الوطني، وهل يمثّل النّائب طائفته ومذهبه أم يمثّل وطنه؟! وعندما نصل إلى التّوافق على أيّ صيغة، سيسهل علينا التّوافق على قانون انتخابي، وإلا سنبقى في إطار المراوحة أو انتظار موازين القوى القادمة ليتغلّب فريق على آخر.

وفي ظلّ كلّ هذه التّجاذبات، علينا ألاّ ننسى الواقع الاجتماعيّ والاقتصادي الصّعب، ولا سيّما بعد العاصفة الأخيرة الّتي تركت آثارها الكبيرة، سواء على مستوى الأضرار الماديّة، أو في حاجات التّدفئة في المناطق، وخصوصاً المناطق الجبليّة.

وفي جانبٍ آخر، فإنّنا أمام تلكّؤ السّلطات الفرنسيّة في الإفراج عن المناضل اللّبنانيّ جورج عبدالله، نؤكّد أهمّيّة تضافر جهود اللّبنانيّين من كلّ الفئات والطّوائف، للضّغط على الدّولة الفرنسيّة لإطلاق سراحه، بعد أن قال القضاء الفرنسيّ كلمته. وفي هذا المجال، ندعو الحكومة الفرنسيّة إلى أن تكون أمينةً على مصداقيّة قضائها، فلا تبدو أنّها خضعت لضغوطٍ من هنا أو هناك…

كما نريد للدّولة اللّبنانيّة أن تقوم بواجباتها كاملةً تجاه هذا المناضل الّذي قدّم أنموذجاً في الإصرار على الموقف الثّابت، ودعم قضيّة الشّعب الفلسطينيّ بكلّ قوّة وصلابة وحكمة.

وأخيراً، فإنّنا نقدّر كلّ الجهود الّتي تبذل من أجل إخراج اللّبنانيّين المختطفين من سوريا، آملين أن تكلّل هذه الجهود بالنّجاح، ليخرج أعزّاؤنا من أسرهم إلى عائلاتهم سالمين، ونوفّر على البلد أيّة ردود فعل في ظلّ المعاناة المستمرّة لعائلات المخطوفين.

التاريخ: 6 ربيع الأوّل 1434 هـ  الموافق: 18/01/2013 م

Leave A Reply