العقل :أهميته ودوره وطرق صيانته

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

في حديثٍ للإمام الباقر(ع)، الإمام الخامس من أئمَّة أهل البيت(ع)، هذا الإمام الّذي نستعيد ذكرى ولادته العطرة في الأوَّل من شهر رجب الحرام، وهو مَن ملأ الحياة الإسلاميّة علماً حتّى سُمّي بباقر العلم، أي أنّه بقر العلم، ونفذَ إلى أعماقه وتوسّع فيه. يقول الحديث:" لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له:أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحبّ، إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وإيّاك أعاقب وإيّاك أثيب".

حجّة الله على خلقه

إنّ الله سبحانه ميّز الإنسان، خليفته على هذه الأرض، بالعقل، وأراد أن يكون العقل حجّة له على خلقه، وضمّن رسالات أنبيائه كلّ البراهين والدّلائل الّتي تُخاطب العقل ولا تقهره. والدّين الّذي أرسله الله إلى عباده، لم يأت ليُصادم العقل أو يعارضه، وإنما لينسجم معه تمام الانسجام، والله تعالى أراد لإيمان النّاس برسالاته أن ينطلق من عقل، فلا يُبنى إيمانهم على أساس عاطفة أو تقليد أو هوى أو مصلحة، أن يفكّروا في كلّ مفردة من مفردات إيمانهم، وأن يحقّقوا القناعة فيها.

وقد عبَّر رسول الله(ص) بشكل واضح عن مدى ارتباط الدّين بالعقل، عندما قال: "إنما يدرك الخير كلّه بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له".

فمتى اكتمل العقل والوعي عند الإنسان، بات عقله حجّة عليه عند الله. وفي الحديث:" لكلّ شيءٍآلةٌوعدّة،وآلةُالمؤمنوعدّتهالعقل،ولكلّشيءٍمطيّةٌ،ومطيّةُالمرءالعقل، ولكلّ شيءٍغايةٌ،وغايةُالعبادةالعقل، ولكلّقومٍراعٍ،وراعيالعابدينالعقل…".

لهذا نجد رسول الله(ص) عندما سمع أصحابه يثنون على رجل، سألهم: "كيف عقله؟"، قالوا له: يا رسول الله، نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال(ص): "إنَّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدّرجات، وينالون الزّلفى عند ربِّهم على قدر عقولهم".

مصيبة تعطيل العقل

أيّها الأحبَّة: لم يعتبر الإسلام مصيبةً أعظم عنده من مصيبة تعطيل العقل وعدم استعماله، لأنّه سبب انحراف الإنسان الفرد وانحراف الجماعة وانحراف البشريَّة، وهو سبب الشَّقاء في الدّنيا والآخرة.

ومن المعلوم كيف أنَّ الإسلام حرص من خلال تشريعاته وتوجيهاته على تحريم كلّ ما يسيء إلى العقل، فكان التّحريم للخمر وللمخدّرات ولكلّ ما هو مُسكر، إلا أنّه لم يكتف بهذا، وإنما شدّد على إزالة كلّ ما يعيق العقل عن تأدية دوره كاملاً في حياة الإنسان والمجتمع، فهو نعمة، ولا بدّ من استعمالها وعدم هدرها، وهي نعمة قابلة للنموّ كلّما استعملتها، وأيّ استقالة أو تقاعد للعقل من دوره، يعني طاقة نبدّدها…

معوّقات أمام فاعليّة العقل

أمّا العوائق في وجه فاعليّة العقل، فقد تناولتها الأحاديث تحت عناوين متعدِّدة، ولا يسعنا ذكرها كلّها، منها: الغرور والعجب، حيث ورد في الحديث: "عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله"، أي أنّ العجب يهلك عقله، لأنّ الإنسان إذا أُعجب بنفسه، بما يملك من معرفة أو سلوك أو عمل، فسوف يستكين لواقعه، لا يحاسب نفسه، ولا يعيد النّظر في آرائه وأحكامه، وسيعتبر نفسه أنّه وصل إلى النّهاية، وبهذا سيجمّد عقله ويصدأ.

ومن المعوّقات أيضاً طول الأمل. والأمل بحدّ ذاته رحمة، لكنّه إن طال ونسي معه الإنسان حقيقة الموت والموقف بين يدي الله، فإنّه قد يكون باباً للانحراف والتّهاون في أداء المسؤوليّات الملقاة على عاتقه، ولذلك ورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع): "الأمل يُذهب العقل، ويكذب الوعد، ويحثّ على الغفلة، ويورث الخسران".

ومنها أيضاً آفة أخرى، إن وجدت طريقها إلى العقل لا يسلم منها، وهي الغضب، فهو يمحق العقل ويخرجه عن الصّواب، ولذلك ورد عن الغضب: "أوّله جنون وآخره ندم".

أمّا المزاح الّذي بات ملح السّهرات واللّقاءات، فإنّ كثرته أيضاً تعطي العقل إجازة، وكم من مزاح تحوّل جدّاً، ولذلك ورد في الحديث عن الإمام عليّ(ع):" ما مزح امرؤ مزحة إلا مجّ من عقله مجّة".

معاناة اليوم

ونصل إلى بعض ما نعانيه هذه الأيّام:

داء التحجّروالعناد والتعصّب للرّأي أو الشّخص أو الحزب أو العائلة أو العشيرة، وهذا لا يعطّل العقل فحسب، بل يضعه في الإقامة الجبريّة، ويجعل الإنسان أسير تعصّبه ومنقاداً إلى ما يدعو إليه، عندها يصبح الإنسان كمن يضع عصابة على عينيه.

ونحن في هذا الجانب نؤكِّد دائماً: علينا أن لا نلتزم أشخاصاً أو جهات بقدر ما نلتزم مواقف وقيماً، فنحن مع الأشخاص ما داموا ملتزمين بالقيم، وسنكون مع غيرهم إذا هم ابتعدوا عنها. هنا نستعيد كلمة شهيرة أطلقها سماحة السيِّد فضل الله(رض) منذ زمن، حيث كان يقول: "كونوامعخطّالبطللامعبطلالخطّ".

واستطراداً، قد يتحدّث بعض النّاس عن التّقليد، فنحن لدينا تقليد ونعود إلى مراجع، فأين استعمال العقل هنا؟

التّقليد، أيّها الأحبّة، ليس هو الأساس، الأساس أن تدرس وتفكّر وتجتهد، والتّقليد عندما يوجد، فهو محدود في التّفاصيل الشرعيّة، في الفروع، فيما لا تقليد في العقائد أو المفاهيم أو القضايا التاريخيّة، بل لا بدّ من أن تملك قناعات في كلّ ذلك، وبعد الاستعانة بمن يملك العلم.

وحتّى وأنت تقلّد مرجعاً في قضايا الشّريعة، لا بدَّ من أن تقلّد بعد أن تطمئنّ وتثق بعلم من ترجع إليه وكفاءته وقدرته…

العودة إلى العقل السّليم

أيّها الأحبّة: إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نمسك بزمام عقولنا، أن تكون عقولنا لنا، فلا نؤجّرها لأحد، ولا نبيعها للآخرين، ولا نقول للآخرين فكّروا لنا، بل نقول لهم فكّروا ونحن نفكّر معكم…

لنعد إلى العقل السّليم، العقل الّذي يستمدّ يقينه وثوابته من الإيمان بالله، ويتكامل مع أحكامه وشريعته، علينا أن نملّكه قيادنا، أن يقود هو أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وعواطفنا وغرائزنا وكلّ جوارحنا، وبذلك نتَّقي الكثير من مواقع الزَّلل والخطأ والنَّدم، فالعقل كما أشار عليّ(ع) عنه: "لا يغشّ من استنصحه وسار وراءه"، وهو الّذي قال أيضاً: "لسان المؤمن وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه". فالمؤمن يتدبَّر كلّ كلمة، يمرّرها على العقل أوَّلاً، يدرسها، يدرس نتائجها، وعواقبها، فإن رأى فيها خيراً للدّنيا وللآخرة أطلقها. أمّا الآخر، ويسمّيه الإمام بالأحمق، فيتحدّث بالكلمة، يطلقها بدون حساب، وبعد ذلك يفكّر، وكثيراً ما يتحسّر على ما صدر عنه، ويضطرّ للاعتذار، هذا إذا لم يتشبّث برأيه وهذا أسوأ.. وهذا هو واقع الكثير من النّاس؛ يعطّلون عقولهم، ويدعون ألسنتهم تعمل.

لهذا، أيّها الأحبّة، كما نحتاج إلى لياقة بدنيّة ومتانة صحيّة ـ وهذا هاجس النّاس هذه الأيّام، بسبب العادات الغذائيّة السّائدة ـ نحن بحاجة أكثر إلى لياقة عقليّة، وهذا يكون بتدريب عضلات عقلك، وتدريب العقل له وسائل كثيرة؛ كأن تأخذ وقتاً لنفسك كي تفكّر في كلّ شيء، وأن تدرّب نفسك على عدم التسرّع في إطلاق الحكم واتخاذ القرارات، ولا سيّما في القرارات المصيريّة، وأن تسعى لمشاركة الآخرين عقولهم والمشاورة معهم، وهذا ليس عيباً ولا انتقاصاً، بل في هذا توسعة لآفاق عقلك…

أمثلة من الواقع

أيّها الأحبّة: كثيراً ما نسمع هذه الأيّام عبارة: "لم أفكّر".

ترى شخصاً ينقل خبراً غير متماسك أو غير منطقيّ، فيبني عليه، ويتسبّب بمشكلة، وعندما تسأله: كيف عملت هذا؟ يقول لك: لم أفكّر.

شخص آخر يأخذ قراراً متسرّعاً في حياته، فيفكّك أسرته، ويلحق شهواته وأنانيّاته، ثمّ يندم ـ إذا ندم ـ ويقول لك لا أعرف أين كان عقلي عندما فعلت هذا!

شباب أو شابّات ينجرّون وراء رفيق سيّئ، وعندما يفيقون ـ إذا أفاقوا ـ يقولون أحرجنا ولم نأخذ وقتنا للتّفكير…

حتّى في موضوع الزّواج والزّيجات الّتي تحصل هذه الأيّام بتسرّع، يتعطّل العقل: الفتاة يجذبها المال، والشابّ يجذبه الجمال، ولا أحد يفكّر ما إذا كان الخيار مناسباً، وعندما يفيق يكون الأوان قد فات…

هذه بعض الأمثلة من واقعنا الفرديّ. أمّا واقعنا المجتمعيّ، فنقول: كفانا تأجيراً لعقولنا، يستغفلنا القاصي والدّاني، ومذيع من هنا ومحاور من هناك، وفضائيّة من هنا وأخرى من هناك، وهؤلاء عملهم التّلاعب بالعقول، عقول الأفراد وعقول الجماعات.. وإلا ماذا تفسّرون هذا الجنون الّذي يجرف بأمّتنا اليوم؟ ماذا نفسّر هذه الغفلة وعدم اليقظة وعدم التّمييز بين الحقّ والصّواب؟ أليس لأنّ العقول بشكل جمعيّ تعطّلت أو أصابها خلل؟!

الحديث عن العقل؛ أهميّته ودوره وطرق تغذيته وصيانته، حديث طويل ويحتاج إلى ساعات طوال.

فليكن دعاؤنا الدّائم، أن ينير الله عقولنا، أن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا القناعة، ويرينا الباطل باطلاً ويجنّبنا إيّاه، وأن يخرجنا من سبات العقل وزللِه…

 بذلك نفوز بثمرات العقل الكبرى الّتي يشير إليها أمير المؤمنين(ع) عندما قال: "ثمرة العقل الاستقامة، ثمرة العقل لزوم الحقّ، ثمرة العقل مقت الدّنيا وقمع الهوى، وذلك هو الفوز المبين".

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.. ومن التَّقوى أن نستهدي بمن أمرنا بالاستهداء بهم، حتَّى لا نضلَّ أبداً.

فالإمام الباقر(ع) يصفه ولده الإمام الصَّادق(ع) فيقول: "كان أبي(ع) كثير الذِّكر، لقد كنت أمشي معه وإنَّه ليذكر الله، وآكل معه الطّعام وإنَّه ليذكر الله، ولقد كان يحدِّث القوم وما يُشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه، يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذّكر حتّى تطلع الشَّمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا، ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذِّكر، وإنّي كنت أمهّد لأبي فراشه، فأنتظره حتّى يأتي، فإذا أوى إلى فراشه ونام، قمت إلى فراشي، وإنّه أبطأ عليّ ذات ليلة، فأتيت المسجد في طلبه، وذلك بعدما هدأ النّاس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره، فسمعت حنينه وهو يقول: سبحانك اللّهمّ! أنت ربّي حقّاً حقّاً، سجدت لك يا ربّ تعبّداً ورقّاً، اللّهمّ إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي، اللّهمّ قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب عليّ، إنّك أنت التوّاب الرّحيم"…

أيّها الأحبَّة، إنَّها لقيمة كبيرة نتعلَّمها من الإمام الباقر(ع)؛ أن يكون الله حاضراً على ألسنتنا، نذكره قياماً وقعوداً وعلى جنوبنا، نذكره في البيت وفي السيّارة والشّارع، والمصنع والسّوق، وعند اشتداد الأزمات والتحدّيات.. وعندما يكون الله حاضراً على ألسنتنا وفي قلوبنا، سنكون الواعين ولن يخدعنا أحد، وسنشعر دائماً بالقوّة والعزّة والأمل، مهما كبرت التحدّيات وعظمت، وهي كثيرة…

دخول العدوّ على الخطّ السوريّ

والبداية من سوريا، حيث جديد هذا البلد هو دخول الكيان الصّهيونيّ على خطّ معاناته، من خلال استهدافه مواقع عسكريّة له ومخازن أسلحة تحت عناوين واهية، ليكتمل المشهد المستمرّ في سوريا، وهو الاستنزاف لكلِّ مواقع القوَّة فيه، لأنَّه لا يُراد لهذا البلد أن تقوم له أيّ قائمة، لا في بنيته التحتيّة، ولا في قواه الاقتصاديّة والعسكريّة، ولا في أمنه، حتّى لا يستطيع لعب أيّ دور في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ، أو في مواجهة السياسات الاستكباريَّة.

وكم كنَّا نتمنَّى أن يكون جلاء الصّورة بهذا الوضوح حافزاً للجميع من داخل هذا البلد، لإعادة النَّظر في مواقفهم، والانطلاق سريعاً بحوارٍ داخليّ يعيد تصويب البنادق في سوريا، لتوجّه إلى هذا العدوّ الّذي كان يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على ما قام به.

ولقد هالنا وأحزننا مشهد الفرح الّذي برز في تصريحات البعض لاستهداف العدوّ موقعاً من مواقع القوّة في سوريا، الّتي هي مواقع قوّة لوطنهم وعروبتهم وإسلامهم، ليظهر أنّ هؤلاء ـ مع الأسف ـ لا يفهمون هذا العدوّ، ولا يعون معنى وجوده.

ومن هنا، فإنّنا نتوجّه إلى الجميع، وانطلاقاً مما جرى وما قد يجري، بضرورة الإنصات إلى منطق العقل والإيمان، والإسراع في إيجاد حلّ داخليّ لإخراج هذا البلد من كلّ ما يعانيه، وليكن الحلّ في سوريا برعاية من يريدون خيراً له، لا الّذين يريدونه جبنة يتقاسمونها، أو ورقة يساومون عليها في لعبة مصالحهم الاستراتيجيّة، وكم كنّا نتمنّى ونأمل من الجامعة العربيّة ومنظّمة التعاون الإسلاميّ، أن لا تكتفيا بإصدار بيان خجول، بل أن تتّخذا موقفاً جادّاً موحّداً من هذا العدوان، لأنّ السّكوت على ضرب عاصمة عربيّة أو إسلاميّة من قبل الكيان الصّهيوني، سيمهّد السّبيل لاستهداف أيّ عاصمة عربيّة أخرى، ولا سيَّما عندما يرى هذا الكيان أنّ مصالحه أو مصالح من يعبّر عنه تقتضي ذلك، أو عندما يرى في قوّة هذا البلد أو ذاك تهديداً لمصالحه.

ولكنّنا، وعلى الرّغم من ذلك كلّه، سنبقى نثق بأنّ هذا البلد وشعبه، ومعه كلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، سيردّ على هذا العدوّ بوحدته وبتعزيز مواقع القوّة فيه، وبالتّفكير الجدّيّ في المقاومة، حيث لا ردّ لهذا العدوّ إلا بمقاومة تنطلق من عمق هذا الشّعب وعنفوانه…

وفي ظلّ الحديث عن الحلول الجارية، ولا سيَّما ما جرى أخيراً في روسيا، فإنّنا مع كلّ ما يساهم في إيقاف نزيف الدّم والدّمار، وخصوصاً أنّه بات يهدّد سلام المنطقة وأمنها.

إنّنا نأمل أن تتمّ الحلول قريباً، وإن كنّا نتحفّظ عن التّفاؤل الّذي يتحدّث به الكثيرون، حيث تعقيدات الوضع الدّاخليّ والخارجيّ، وبقاء الرّهان من البعض على إمكانيّة حسم عسكريّ من هنا أو هناك، أو فرض شروط صعبة التّنفيذ..

وكم كنّا نتمنّى أن يكون الحلّ عربيّاً وإسلاميّاً وداخليّاً، لأنّ أيّ حلّ يأتي من الخارج، لن يكون إلا لحساب هذا الخارج الّذي لا يفكّر إلا في مصالحه ومصالح الكيان الصهيوني.

وفي هذا المجال، فإنّنا نذكّر الجميع، عرباً ومسلمين، بقدوم شهر رجب الحرام؛ هذا الشّهر الّذي حرّم الله فيه القتال إلا استثناءً، وأراد لنزف الدّم أن يتوقّف فيه مهما بلغت الأمور.

إنّنا ندعو، وانطلاقاً من حرمة هذا الشّهر، إلى الالتزام بأحكامه، لعلّ ذلك يساهم في لملمة الجراح، والإفساح في المجال لتهدئة النّفوس، واستعادة لغة الحوار.

استباحة القدس لا تهزّ المسلمين

أمّا فلسطين، فتستمرّ معاناة أهلها، قتلاً واستيطاناً وإساءة إلى المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة، وكان آخرها ما جرى في القدس، من خلال سماح هذا العدوّ لمستوطنيه باستباحة حرم المسجد الأقصى، وإحياء ما يسمّى توحيد القدس، والتّنكيل بالفلسطينيّين المدافعين عن المسجد الأقصى والقدس، واعتقال مفتي القدس والإساءة إليه قبل إطلاق سراحه. ومع الأسف، فإنَّ هذا المشهد الفلسطينيّ بكلّ آلامه ومعاناته، بات لا يهزّ مشاعر العرب والمسلمين، ولا يحرّك فيهم ساكناً، بل على العكس، نجد أنّ هناك من يسعى للتّصالح مع هذا الكيان، ويعتبره الأقرب إليه من هذا البلد العربيّ أو ذاك البلد الإسلاميّ.

ومن هنا، نعيد التّأكيد على الفلسطينيّين بضرورة توحيد جهودهم لمواجهة هذا العدوّ، الّذي يستفيد كثيراً من الانقسام الحاصل في الدّاخل الفلسطينيّ واللّعب على تناقضاته.

وفي الوقت الّذي ندعو العرب والمسلمين إلى أن يكونوا غيورين على عروبتهم وإسلامهم، حيث لا يكون مسلماً من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم ينصره، ولا يكون عربيّاً من تقبّل ظلم أخيه ولم يقف إلى جانبه، ندعو الجامعة العربيّة إلى أن تسحب ما قدّمته من عرض لتنازلات جديدة، لأنّ هذا الأمر سيغري العدوّ الصّهيونيّ بطلب المزيد منها، ولن يعطي هذا العدوُّ العربَ في ضعفهم وما هم عليه من انقسام وتشرذم، ما لم يعطهم إيّاه في أوقات منعتهم وتضامنهم.

أين فتاوى نصرة فلسطين؟

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن نسأل العلماء الّذين يصدرون فتاواهم بالجهاد لنصرة هذا الشّعب أو ذاك، وحتّى بجواز الاستعانة بالأجنبي: أين هي فتاواكم هنا، وأنتم شاهدتم ورأيتم وسمعتم ما جرى ويجري للأطفال والرّجال والنّساء في فلسطين من تنكيل؟!

إنّنا نريد الفتاوى الّتي تنطلق لنصرة الأقصى والقدس والمقدّسات وكلّ فلسطين، حيث الظّلم هناك، وأيّ ظلم هو أكبر من ظلم الكيان الصّهيونيّ واحتلاله وعبثه بالأرض والإنسان وخطره على الحاضر والمستقبل؟!

ونحن لا يسعنا، أمام هذا الواقع كلّه، إلا أن نشيد بالخطوة الّتي اتّخذها البرلمان الأردنيّ بالتّصويت على طرد السّفير الصهيونيّ من الأردن، واستدعاء السّفير الأردنيّ من كيان العدوّ، ونتمنّى من مصر أن تحذو حذو الأردن، وأن تنطلق في عمليّة مماثلة، ليكون ذلك رسالةً حاسمة إلى العدوّ إزاء ممارساته الإرهابيّة بحقّ الأقصى والشّعب الفلسطينيّ، وأنّ الاستمرار بها سيقابل بردود فعل رادعة.

لبنان في دائرة الانتظار

أمَّا لبنان، فإنَّه لا يزال في دائرة الانتظار، فلا قانون انتخابيّاً حتَّى الآن ولا حكومة، ولا حتَّى حوار جادّ لإيجاد حلول جذريّة تُخرج البلد من معاناته، حيث يبدو أنّ الكلّ عيونه مشدودة إلى ما يجري في الخارج، ولا سيَّما في سوريا، ليرتّب على أساسه سياسته في الدّاخل، وكأنّ قدر لبنان أن تبقى عيون سياسيّيه على ما يجري من حوله.

إنّنا، وانطلاقاً من كلّ المعاناة الّتي يعانيها إنسان هذا البلد، في أمنه واقتصاده ومستقبله ومستقبل أولاده، نقول لكلّ النّادي السياسيّ: اِرأفوا بإنسان هذا البلد، فكّروا فيه للحظة واحدة، ولا تنسوا دوره في إيصالكم إلى ما وصلتم إليه، ولا تجعلوه يكفر بهذا الطّاقم السياسيّ الّذي لا يسارع إلى اجتراح الحلول مع قدرته عليها إن توافرت النيّات الصّادقة، وفي حال انطلق الجميع من قاعدة "لأسلمنّ ما سلمت أمور اللّبنانيّين"، ولا سيَّما ونحن نواجه في كلّ يوم خطر الكيان الصّهيونيّ الّذي قد يفاجئنا باعتداءاته، مستغلاًّ ما يجري في المحيط، وخصوصاً في سوريا…

وأخيراً، لا بدَّ من أن نقف مع معاناة أهلنا في الهرمل ومنطقتها، كما في كلّ المناطق المحاذية لسوريا، ممن يعانون من تداعيات ما يجري حولهم، سائلين المولى أن يحميهم ويحفظهم بحفظه، إنّه سميع مجيب…

Leave A Reply