العلامة السيد علي فضل الله لـ «النهار»: يجب الحفاظ على قدسية كلمة «الشهيد» وعدم استغلالها لتحقيق مآرب سياسية

في أوج الغليان الذي تشهده الساحة الإسلامية، من تطرف، وإرهاب، وحرب ضروس ضدّ كل ما يسيء إلى الدين وأصوله وجوهره. وفي غمرة الأحداث العنيفة باسم الدين للأسف، يشهد العالم الإسلامي نوعاً من الضياع على مستوى مجموعة من المفاهيم.
ضياعٌ ينتج عنه ما نراه اليوم من صراع بين أبناء الطائفة الواحدة، والمذهب الواحد أحياناً.
ضياعٌ يصل التعبير عنه الى حد التكفير وإلى حدود طغيان ثقافة الموت على ثقافة الحياة.

فالجهاد مفهوم يستغل سلبياً، في معادلة هجينة تفرض على العالم ما تفرضه من اقتتال، وتكبّد الساحة الإسلامية ما نشهده اليوم. وهذا الامر إن دلّ، فعلى ضياعٍ آخر حول مفهوم الشهادة نفسها، في وقت يعجّ فيه عالمنا العربي والإسلامي بالشهداء من كل حدبٍ وصوب. فمن يسقط في وجه عدو الدين شهيداً، ومن يسقط في وجه عدو الوطن شهيداً. من يُذبح على يد متطرّف شهيداً، ومن يسقط في حرب الجهاد دفاعاً عن الدين شهيداً أيضاً…

تطول اللائحة، وتكثر معها الأسئلة حول موقف علماء الدين من تشتّت المفاهيم هذا، في وقت قل فيه من ينادي باسم الاسلام الحقيقي، من يوضح مفاهيمه وقيمه القائمة على الحرية والعدل واحترام الآخر، على السلام والمحبة ونبذ العنف إلا في حالات الدفاع عن النفس..

أما السؤال حول جدوى طرح هذا الموضوع الحساس اليوم، فجوابه أرتال من الصور تغصّ بها شوارع العاصمة اللبنانية بيروت، وضواحيها الجنوبية تحديداً، حتّى يتراءى اليك الشعور بأن هؤلاء وحدهم سائرون على درب الجنّة. فهل صحيح أن السخاء بالروح بات الطريق الوحيد الى الجنّة؟ وماذا عن غير الشهداء؟ ثمّ ما سبب تلك الهوّة الكبيرة بين المسلمين وغير المسلمين، وبين مذاهب المسلمين أنفسهم، حول طريقة فهم كلّ فرد أو جماعة لقيم ومعتقدات الجماعات الاخرى.

ولعلّ أكثر ما دفعنا لطرح مسألة الشهادة اليوم، هو سلوك عائلات وذوي شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان الذي سقطوا في الغارة الإسرائيلية على بلدة القنيطرة السورية مؤخراً، وما استدعاه من أسئلة حول ماهية العقيدة التي تساعد طفلاً صغيراً على تقبّل استشهاد والده برحابة ورضى، بل بفرح.. وحول اعتقاد أمّ لأربعة أولاد وجنين، بأن زوجها الشهيد ترك لها عزاً ما بعده عزّ، حسب قول زوجة أحد الشهداء! وإن كنّا نقرّ بدماء الشهداء الطاهرة، تحديداً أولئك الذين يسقطون بفعل غدر عدو المسلمين الاوحد، غير أن السؤال يطرح نفسه بتلقائية: أي معنىً تعنيه الشهادة لهؤلاء؟ أي قدرٍ يحصل عليه الشهيد، وهل شهيد الوطن والقضية هو فعلاً شهيد الله؟! ثم إلام تطمئن نفس تلك الأم، وأي اجر يعزّيها من حرمان ينتظرها ومن يتم كُتب لأطفالها، بعد قضاء زوجها ومعيلها وربّ أسرتها.. وان شهيداً؟!

أسئلة كثيرة حملتها النهار إلى المرجع العلامة السيد علي فضل الله، واعدةً بطرح مجموعة من القضايا المشابهة بصورة شبه شهرية مع سماحته، ومع مجموعة من رجال الدين المتنوّرين، علّ التنقيب في جواهر الامور يدحض زيف بعض ما يلمع على السطح، فيهدي الناس إلى حقائق إنسانية أتت بها الأديان لصالح الإنسان، ثم الإنسان، ثم الإنسان!
العلامة السيد فضل الله رحب بالفكرة، بل أثنى على أهمية طرح مثل هذه المواضيع للتوضيح وتصويب المسارات، داعياً علماء الدين كافة للاجتماع بغية تحديد مجموعة من المفاهيم، التي بسبب اللغط حولها – يشهد العالم العربي ما يشهده من عنف واقتتال!

تفاصيل الحديث مع العلامة السيد فضل الله في الحوار الآتي نصّه:

• بدايةً، ماذا تعني كلمة شهيد؟
كلمة الشهيد تعني حسب مفهومنا، الذي يقتل في سبيل الله، وذلك تحقيقاً لأهداف إرادة الله للحياة. أما الذي يقتل لحسابات شخصية، فموته لا يدخل تحت عنوان الشهادة. والشهيد له معنى شرعي، وهو وفق المعنى الشرعي له أحكام. هو الذي يقتل في ساحة المعركة. اما الذي يجرح ويتم نقله إلى مستشفى، ثم يموت فيما بعد، فهذا بالعنوان الشرعي لا يسمى شهيداً. فمعنى العنوان الشرعي هو أن الشهيد لا يغسل ولا يكفن، بل يدفن بثياب المعركة.
وكلمة الشهيد تعني فيما تعني أن دمه يشهد على مظلوميته في مواقع المظلومية، أو على مظلومية الأمة التي يدافع عنها، بمعنى أن دمه يشهد على واقعه.

• وهل هناك شهادة من دون موت؟
هناك الأمة الشاهدة، والانسان الشاهد هو الذي يشهد بحسب سلوكه واخلاقيته على أمر معين بمثله. فالامة تشهد من خلال سلوكها وأخلاقها، والنبي ايضاً شهيد، فهو شهد حسب ما قدمه وفسره على قيم معينة.

• ماذا ينتظر الشهيد في الجنة؟
¶ إنَّ الله تحدث عن ذلك في القرآن الكريم: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. فما ينتظره الشهيد عند الله هو أمر كبير. وبالتأكيد هناك حياة من نوع آخر، حيث يتميز الشهداء بتكريم الله لهم. والبعض قال بأن لهم حياة خاصة لم يُشَر إليها القرآن ولم تُفسّر بل فسرت نتائجها.

• أي تفسير هو الأقرب إلى المنطق؟
 إنَّ التفسير الواضح في الحديث عن عالم الجنة هو أنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} بمعنى أنهم سيعيشون بعالم الأرواح وليس الأجساد..

• وماذا عن مقولة الحور العين، وما يحكى عن حوريات 72 تنتظرن الشهيد في الجنّة؟!

هذه حالة عامة. فالحور العين لكل من يدخل الجنة!

 

• لكن ثمة وجهة نظر تقول بأن هذا الإغراء وغيره وسائل تستخدم لإجراء نوع من غسل الدماغ لإقناع الشباب بأهمية الشهادة..
 ان الله وعدهم بأن يدخلهم الجنة، ولكن هذا كله نتاج نوعية الموقع الذي سيستشهد فيه المسلم، ونوعية النية التي ينطلق من خلالها لفعل الاستشهاد.

• حسناً. فهل كل الذين يسقطون دفاعاً عن الوطن أو حفاظاً استباقياً عليه، أو فداء قضية بلد يعتبرون شهداء؟
 المهم ان تكون نيّتهم خدمة قضية حق وعدل وليس فيها ظلم. فالمبدأ الأساس الذي يريده الله للحياة هو أن تُبنى على أساس العدل. فإذاً، يجب ان تكون قضية عدل وحق، وليس من اجل ظلم الآخر أو الإساءة لحريته.

• ماذا عن شهداء القنيطرة، وقد سقطوا غدراً وليس في أرض معركة؟
هم شهداء بالمعنى العام وليس الخاص لأنهم لم يقتلوا داخل معركة.

• وما مدى بعد المعنى العام عن الجوهر الديني؟
الدين وسّع دائرة الشهداء، فهناك أناس لهم أجر الشهداء. مثلاً حتّى من يموتون غدراً، وبالفيضانات والزلازل هم ايضا شهداء.

• ماذا عن الذي يقتل نفسه في سبيل قضية معينة، وكلنا نعلم ان قتل النفس حرام في معظم الاديان؟ 

من ناحية المبدأ، بالتأكيد ان قتل النفس لا يجوز، الا في حال كان هناك قضية كبرى، قضية عدل…

 

• وهل هناك حديث يجيز قتل النفس في سبيل قضية؟
 ليس هناك حديث معين، لكن ثمة عنوانا عاما هو الجهاد. ويبقى الأصل للهدف الذي انطلق الشخص منه، ولكن الامر من المفروض الا يكون موسعاً كثيراً كما هو حاصل اليوم.

• ألا تعتقد أن معنى الشهادة أصبح فضفاضاً نوعاً ما، في ظل وجود ارتال من الصور في الشوارع لشهداء لا نعرف أحياناً اين سقطوا وكيف؟
هذا الكلام صحيح للأسف. فمن المفروض ان يتم الحفاظ على قدسية كلمة الشهيد، وفي بعض الحالات يجب ألا نقول شهيداً بل يفضل أن يقال مظلوم.

• هل هناك توجهات سياسية معينة تستفيد من هذا المعنى لكي تعطي معنويات اكثر لهؤلاء الشهداء وذويهم؟
كل جهة تحاول الاستفادة من المعنى الديني ومن النتائج التي يعطيها الدين للذين يموتون في سبيل الله، فهناك من يريد استغلال ذلك، كما يتم استغلال الكثير من القضايا الدينية لتحقيق مآرب سياسية. والحقيقة انه ليس هناك مشكلة في هذا، فالمآرب السياسية قد تكون مآرب حق. ولكن الاهم هو ان تنطلق من عمق الدين. فالقضايا في سبيل الله من المفروض ان تكون قضايا دقيقة جداً. فإن الله لا يريد هذه الصور العنيفة الذي نشهدها الآن في الواقع والتي تسيء إلى كرامات الناس. وعند ذكر الله يجب أن نقول الرحمة والمحبة فالله قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا}. كما أمرنا بالقتال في بعض الحالات {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}..

• إلى متى سيبقى الصوت السياسي وصوت الإجرام هو الطاغي على صوت العقل؟
 على العلماء الخروج من أن يكونوا جزءاً من المسار السياسي، والخروج من جميع الحسابات، لتحديد المفاهيم الدينية بدقة. وكما يقول الحديث إذا ظهرت البدع، فعلى العالِم أن يظهر علمه وإلا عليه لعنة الله. ولكن للأسف فإن الجو العام السائد لا يساعد على ذلك.

• ما هو الدور الذي تحاولون أن تلعبوه في ظل تزايد سقوط الشهداء داخل الطائفة الشيعية الكريمة تبعاً لدور حزب الله والمقاومة المحسوبة عليها؟ وما رأيكم بوجهة النظر القائلة بأن الطفل الشيعي بات يتربى على ثقافة الموت لا الحياة وأن طموح كل طفل شيعي ان يكبر ليكون مشروع شهيد بدل أن يكون مشروع مبدع أو سواه؟
 نحن دائما نقوم بالتوجيه، ونقول صحيح أن الشهداء لهم دورهم، ولكن أيضا العلماء لهم دورهم، وأصحاب الاقلام الحرة لهم دورهم، كما أن للعمال دورهم وللزّراع دورهم، فهؤلاء جميعهم إذا أخلصوا في عملهم سيصلون إلى الجنة. فهذا الإخلاص هو شهادة في موقع الشهادة. فالشهادة هي جزء من المسار وهي جزء من حاجة، عندما نحتاج إلى الشهادة. ولكن نحن في ذات الوقت بقدر ما نحتاج إلى الشهداء نحتاج إلى العلماء وإلى الكتاب وإلى الصحافيين وإلى العمال، لكن للأسف فإن ما نشهده من بعض التوجهات في التربية الدينية أنها تحاول أن توجه الجهود إلى أن الجنة تحصر هنا، والتصوير بأن كل الأماكن والمجالات الأخرى لا توصل إلى الجنة. وهذا خطأ يقع فيه كثيرون.
فهناك الكثير من الاحاديث التي تتناول الأعمال التي يمكننا من خلالها الدخول إلى الجنة فمثلا، ففي بعض المرويات يسأل السائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام: (دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، ويكون الجواب: لا تسأل الناس شيئاً أي أن تتكل على نفسك في كل شيء).
نحن بالتأكيد نعزز موقع الشهداء، ودورنا أن نثبت هذا المعنى. ولكن من المفروض ألا تبقى هي الحالة الطاغية. فمن سلك أيضاً طريقا إلى العلم، سلك طريقاً إلى الجنة.

• أوليس الكد على العيال وحفظهم وصونهم يوصل إلى الجنة أيضاً؟
 بلى، بالطبع هو نوع من انواع الجهاد. وقد فسرت الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ..} بالعمل. لذلك نحن نقول عندما نقدّر موقع الشهداء في دورهم، علينا أن نقدر العلماء ومواقعهم، إضافة إلى كل الطاقات الاخرى ذلك لأن المجتمع سيتكامل. فالحياة بُنيت في الأصل على أساس السلم وليس على أساس الحرب. والرفق هو الاساس وليس العنف. إذاً فإن الجهاد بمعنى العنف يجب أن يبقى حالة استثنائية عندما تقتضي الظروف، وهي محدودة.

• لكن ماذا يحدث عندما يصبح نمط حياة؟
هذا نتيجة لتوجيه خاطئ. كما يمكن ان يكون نتيجة الحاجة. فمجتمعنا يتعرض للكثير من التحديات، ما يفرض الجهاد في مواقع كثيرة.

• هناك الكثير من الدوافع التي تدفع الشباب إلى الانخراط في هذا النهج، منها كالعوز المادي مثلاً. فهل لهؤلاء المجاهدين اجر الشهداء أيضاً؟
النية هي الأساس. فهناك فرق بين من يقاتل في سبيل الله ومن يقاتل بهدف راتب مادي أو نتيجة احتقان مذهبي. النية هي العنصر الأساسي. فلماذا انطلقوا في هذا الطريق؟ وعلى أي أساس؟ ونحو اي هدف؟ والنية والهدف يجب ان يكونا صافييْن.

• لكن اليوم ثمة أكثر من جهة تدعي الجهاد، وكلّ من أجل طائفته، بما معناه جهاد في سبيل الله.. فأي المجاهدين يسير نحو الجنة؟!
هنا تدخل النية. لذا نحن دائما ندعو المسلمين إلى ضرورة التنبه إلى نواياهم، وان يحددوا على اي اساس يقاتلون. فهل هم يقاتلون على أساس طائفي أو مذهبي أو أن هناك قضية محقة؟ وبهذا المعنى، حتى لو كان الجهاد ضد العدو، فيجب أن تكون النية واضحة. والأهم هو الإخلاص في النية وأن لا يداخلها أي شك أو لبس.

• لماذا نرى سقوط الشهداء لا يشقّ على عائلاتهم؟ ولم يمنع الاولاد من التعبير عن حزنهم أحياناً كما نسمع؟
لأن موقعهم عند الله كبير ولهم دور في الحياة أي أنهم صنعوا شيئاً في الحياة. ولكن بالطبع يجب التعبير، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (تدمع العين ويحزن والقلب ولا نقول ما لا يرضي الرب). وحتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى على الشهداء. فالتعبير هو حاجة إنسانية ينبغي أن لا نفقده في أي لحظة ولكن ينبغي على الدمعة ألا تتجاوز الحدود.

 

المصدر:جريدة النهار الكويتية

 

 

Leave A Reply