العمر مسؤوليَّة.. كيف نتعامل معه؟!

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah


قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].

لقد دعت هذه الآية الكريمة الإنسان إلى أن ينظر بعين المسؤوليّة إلى اليوم الذي سيقف فيه بين يدي ربّه، حين يسأله الله سبحانه فيما يسأله عن عمره فيما أفناه؛ هل كان حريصاً على الاستفادة من دقائقه وساعاته وأيّامه ولياليه؟ هل أدّى خلاله المسؤوليّات الملقاة على عاتقه، أم أهدره وضيّعه؟ فالزّمن في حساب الله هو مسؤوليّة، وسيحاسب الإنسان عليها.

فقد ورد في الحديث: “لا تزول قدَما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه”.

التّحذير من تضييع العمر

ولذا، حذّرت الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الإنسان من تضييع فرصة العمر الذي قدِّر له وعدم التفريط فيه. 

لذلك، ورد في الحديث: “إنّ العمر محدود، لن يتجاوز أحد ما قدّر له، فبادروا قبل نفاد الأجل”. 

وورد في هذا المجال: “كُن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك”، أي كُن بخيلاً في صرف هذا العمر، فلا تصرفه إلا بحساب، كما تفعل في أموالك، لا بل وأكثر، ذلك أنَّ الأموال يمكن أن تُعوَّض، ولكن الأعمار لا تُعوَّض، فالسّاعة الّتي تذهب لن تعود. 

وقد جاء التَّحذير في القرآن الكريم من المصير الذي يواجهه من ضيَّع عمره: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}[فاطر: 37]. وفي الحديث: “احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود”.

حوِّلْ عمرَكَ إلى رصيد

أمّا الطريق الذي لا بدّ من سلوكه لتحقيق هدف العمر والإعذار إلى الله سبحانه فيه، فقد أشار إليه الحديث: “إنَّ عمرك مهر سعادتك؛ إن أنفدتَه في طاعة ربِّك”. “احفظ عمرك من التّضييع له في غير العبادة والطّاعات”. ما دمت أنت ستخسر عمرك على كلِّ حال، فاحرص على أن تحوِّله إلى رصيدٍ لك عند ربِّك، وإلى عملٍ تلمسه في دنياك. وفي حديثٍ آخر: “إنَّ اللَّيل والنَّهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذْ منهما”. 

وأشارت سورة العصر إلى ما ينبغي للإنسان أن يملأ به عمره، فقالت: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. فقد بيّنت أنّ الإنسان خاسر دائماً، لأنه في كلّ يوم يفقد جزءاً من عمره، لكنّه لن يكون خاسراً إن استغلّ عمره في الإيمان وفي العمل الصّالح، وكان عنصر خير للآخرين، وراح يوصي غيره بالحقّ والصّبر.

لكنَّ هذا لا يعني أنَّ الإسلام يُنكر على الإنسان حقّه في أن يرتاح في عمره، فهذا ضروريّ، ولكنّ الرّاحة في منطق الإسلام لا بدَّ أن تكون لحساب مسؤوليّاته تجاه الله وتجاه النّاس، وليس على حسابها، وهذا ما أشار إليه الحديث: “للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يرمّ فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها في غير محرَّم، فإنّها عون على تينك السّاعتين”.

الاستفادة من نعمة العمر

أيّها الأحبَّة، إنَّنا نستطيع أن نصنع الكثير لأنفسنا وللحياة من حولنا، عندما نحسن الاستفادة من هذه النّعمة الكبيرة؛ نعمة العمر الّتي وزَّعها الله على كلِّ عباده بالتّساوي، فالدّقيقة الّتي تمرّ ــ وهي تمرّ على الجميع ـ والتي قد لا نبالي بمرورها، ونستهتر بأهميَّتها، نستطيع أن نبلغ بها الكثير، ففي الدَّقيقة، نستطيع أن نصل رحماً عبر الهاتف، أن نتكلَّم بكلمةٍ طيّبةٍ تفتح قلوب الآخرين على الخير، أن نقدِّم نصيحةً إلى من يحتاج إليها، أن ندخل السّرور على قلوبٍ من حولنا ببسمةٍ أو تعبيرٍ صادق… بسماع شكوى تُنفّس غمّاً…

إنّنا بدقيقةٍ نعتبرها لا شيء في حساباتنا، نستطيع أن نكون من الذَّاكرين الشَّاكرين الحامدين لله عزَّ وجلَّ. 

وبدقيقةٍ، يمكننا أن نكون كرماء، ونشارك الله وملائكته في الصّلاة على محمّد وآل محمّد. وفي العمر الكثير من الدّقائق التي تمكننا الاستفادة منها، وسنتحسّر عليها عندما نقف بين يدي الله. 

أيّها الأحبّة، لقد أصبحت كلمة قتل الوقت جزءاً من قاموسنا، وصرنا نريد تقطيع الوقت كيفما كان، بحيث بتنا نملؤه لغواً ولهواً وعبثاً وبفضول الكلام، ووصولاً إلى تناول النّاس بالقيل والقال في السّهرات والجلسات أو عبر مواقع التّواصل، أو بأن نتسّمر خلف الشّاشات والفضائيّات، وما تتفنَّن به للاستحواذ على وقتنا وسلب اهتمامنا، ليصبح حديثَنا ومادَّة تواصلنا، أو في هذه الأيّام على مواقع التّواصل، في الوقت الّذي يمكننا أن نملأ أوقاتنا بما يمكن أن يغنينا فكراً وأدباً وعلماً نافعاً، وما يؤدّي إلى رضا الله وبلوغ جنّته.

إنّنا بحاجةٍ إلى متابعةٍ دائمةٍ ودقيقةٍ لحركة هذا العمر، فلا نغفل عن كيفيّة صرفه والاستفادة منه، ولا تحت أيّ حجّة، ولا نجعل من حولنا يملون علينا كيفيّة ملء أوقاتنا. والمحاسبة هي خير معينٍ على ذلك، وقد ورد في الحديث: “ليس منَّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شرّاً استغفر الله منه وتاب إليه”.

ولا نكتفي بذلك، بل نخطِّط لمستقبل أيَّامنا، كما عبّر عن ذلك الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الصَّباح: “اللّهمّ ووفّقنا في يومنا هذا، وليلتنا هذه، وفي جميع أيّامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشّرّ، وشكر النّعم، واتّباع السّنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ ومعاونة الضّعيف”.

التَّخطيط للمستقبل

أيّها الأحبّة، بهذه الرّوح، روح المسؤوليَّة تجاه العمر والزّمن الّذي نعيش، روح المحاسبة على الماضي والتَّخطيط للمستقبل، نريد أن نطلّ على بداية سنةٍ جديدة. 

وهو ما عبَّر عنه رسول الله (ص)، فقد كان يحاسب نفسه مع بداية كلّ سنة فيقول: “أَللّـهُمَّ ما عَمِلْتُ في هذِهِ السَّنَةِ مِنْ عَمَل نَهَيْتَني عَنْهُ وَلَمْ تَرْضَهُ، وَنَسيتَهُ وَلَمْ تَنْسَهُ، وَدَعَوْتَني إِلَى التَّوْبَةِ بَعْدَ اجْتِرائي عَلَيْكَ، اَللّـهُمَّ فَإِنّي أَسْتَغْفِرُكَ مِنْهُ فَاغْفِر لي، وَما عَمِلْتُ مِنْ عَمَل يُقَرِّبُني إِلَيْكَ فَاقْبَلْهُ مِنّي، وَلا تَقْطَعْ رَجائي مِنْكَ يا كَريمُ”.

بعدها يتوجّه إلى الله ليعينه على تجاوز العقبات التي تقف أمامه في قادم أيّامه وعلى القيام بمسؤوليّاته، فكان يقول: “اللّهمّ وهذه سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشّيطان، والقوّة على هذه النّفس الأمّارة بالسّوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك، يا كريم”.

“اللّهمَّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيَّامي يوم ألقاك يا أرحم الراحمين”…

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، بأن نستعيد ونحن في ذكرى وفاة السيّدة الزهراء (ع) التي مرّت علينا في الثّالث عشر من شهر جمادى الأولى، حزن عليّ (ع)، عندما وقف أمام جسدها الطّاهر ودموعه تنهال من عينيه، قائلاً: “السَّلام عليك يا رسول الله، عنّي وعن ابنتك النّازلة في جوارك، والسَّريعة اللّحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صفيَّتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي. أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهَّد، إلى أن يختار الله لي دارك الّتي أنت بها مقيم، وستُنبِئُك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها، فأحفّها السّؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذّكر، والسّلام عليكما سلام مودِّعٍ، لا قالٍ ولا سئِم”.

إنَّ تعبيرنا عن مشاعرنا تجاه الزهراء (ع) يوم وفاتها وحزننا عليها، لا يقف عند حدود ذرف الدّموع، ولا بإقامة المجالس لها، رغم أهميَّة كلِّ ذلك، ولكنّه يكون عندما نتمثّلها في عبادتها وفي حبّها لرسول الله، وفي أخلاقها، وفي بذلها وعطائها، وفي جرأتها في قول الحقّ ورفض الانحراف، وفي حرصها على وحدة المسلمين، وأن لا تعبث بهم أيادي الفتنة.

وبذلك نخلص للزّهراء، ونبقيها حيَّةً في السّلوك والعمل والمواقف، كما في المشاعر والأحاسيس، وبذلك نواجه كلَّ التّحدّيات…

وداع العام الأقسى

والبداية من لبنان، الّذي ودع عاماً كان الأقسى عليه، لتداعيات جائحة كورونا بعدما وصلت إلى أعداد قياسية، وافتقاده القدرات الاستشفائية الكافية لمواجهتها، وفي التردّي الذي وصل إليه على الصّعيد المالي والاقتصادي والنقدي الذي أدّى إلى الارتفاع المستمرّ لمعدّلات البطالة ونسب الفقر، وانخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين، وازدياد الجريمة، والآثار الكارثيّة للانفجار المروّع الذي حصل في أهمّ مرفق حيويّ فيه، على صعيد البشر والحجر، وعلى قدرة هذا المرفق على الاستمرار بالدّور الذي كان يقوم به، وفي الحصار الّذي تعرّض له والعقوبات التي تفرض عليه. 

وقد جرى كلّ هذا في ظلّ طبقة سياسيّة أغرقت البلد بفسادها وعجزها واستهتارها بمقدّراته، وجعلته رهينة الخارج، وفي مصاف الدّول الفاشلة التي تحتاج إلى من يديرها ويدير أمورها، والّذي جعلها لا في مرمى اللّبنانيّين الذين انتفضوا عليها فحسب، بل في مرمى العالم، حيث لم تتعرّض أيّ طبقة سياسيّة لما تعرّضت له من إهانات أو تأنيب أو تجريح منه.

هل يستمرّ المشهد؟!

إنّنا ونحن نستقبل عاماً جديداً، كلّنا أمل بأن يكون خيراً من ماضيه، ولكنّنا نخشى أنّ الصّورة التي رأيناها في العام السّابق لن تتبدّل، بل قد تتفاقم على كلّ الصّعد، حيث لا تزال الحكومة، والمطلوب منها أن تقوم بدورها على مستوى إخراج البلد من أزماته، عالقة بسبب الصّراعات المستمرة بين القوى السياسية المعنيّة بالتأليف على الصلاحيّات ومن يمسك بقرارها، من غير أن يبدي أيّ منها استعداداً لأيّ تنازل حتى لحساب الوطن… ولا يبدو أنّه سيفرج عنها قريباً، بل هناك من يتحدّث أن لا حكومة في الوقت القريب، حيث الحديث أنّ الملفّ الحكومي قد وضع على رفّ الانتظار، وأنّ ذلك قد يكون طويلاً، وبلا سقف زمنيّ محدَّد، وقد تستمرّ حكومة تصريف الأعمال إلى نهاية العهد، وكأنّ لبنان بخير، والناس ينتظرون، وليس هناك من أجواء محمومة في المنطقة قد تنعكس على لبنان، وقد يكون أبرز المتأثّرين بها.

من يصوِّب المسار؟!

إننّا لا نريد من خلال ذلك أن نثير التّشاؤم لدى اللّبنانيّين، ولسنا مع منطق التّشاؤم، لكنّنا ندعوهم من خلال ذلك إلى القيام بمسؤوليّتهم، فهم قادرون على أن يخرجوا من كلّ واقعهم، وأن يعيدوا تصويب المسار، عندما يخرجون من عقليّة التبعيّة، ومن عقليّة الخوف، بأن يرفعوا أصواتهم في وجه كلّ هؤلاء الذين يتلاعبون بمصيرهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم.. إنّنا نرى أنّ الصّورة ستنقلب إن شعر من هم في الواقع السياسي بأنهم أمام شعب لا يجامل ولا يداري لحسابات خاصّة، بل يراقب ويدقّق ويحاسب. 

إننا نجدّد التأكيد أنّ مشكلة لبنان ستبقى في العقلية الّتي لا تزال تحكم البلد، عقليّة المحاصصة والحسابات الخاصّة والارتهان للخارج، بدلاً من العمل لحساب الوطن وإنسانه، ولا سبيل لإخراج البلد من معاناته إلا بالخروج منها.

الكارثة الصحيّة

ونبقى على الصّعيد الصحيّ، وفي ظلّ الارتفاع المتزايد لأعداد المصابين بجائحة كورونا، والتي لامست الأربعة آلاف، والّتي نخشى أن تكشف الأيَّام القادمة عن أعدادٍ أكثر، نحذّر المواطنين من الكارثة التي ستحصل إن استمرّ هذا الانهيار على هذا الصّعيد، بعدما أصبح واضحاً عدم قدرة المستشفيات على استيعاب أعداد إضافيّة.

لذلك، ندعو المواطنين مجدّداً إلى ضرورة الالتزام والتقيّد بإجراءات الوقاية، وفي الوقت نفسه، ندعو الدولة إلى التشدّد في إجراءات الرقابة، وتعزيز قدرة المستشفيات على استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين، وفي الوقت نفسه، طرق كلّ الأبواب لإيجاد اللّقاح لكلّ المواطنين. 

التّطبيع.. ووعي الشّعوب!

ونبقى على صعيد المنطقة، حيث شهدنا في العام الفائت الانحدار الّذي وصل إليه الواقع العربي بعد التّطبيع مع العدوّ الصهيونيّ من قبل بعض الدّول العربيّة، ونخشى أن يتوسّع، رغم أنّ هذا العدوّ لا يزال يحتلّ أرضا ًعربيّة، ويستوطن فلسطين ويحاصر شعبها، ويتهدّد بلاداً عربية ويمارس عدوانه عليها، كما حصل في سوريا أخيراً، أو في التهديدات للبنان وخرق برّه وبحره وجوّه.

إننا سنبقى نراهن في ذلك على وعي الشعب الفلسطيني الّذي يثبت في كلّ يوم أنّه لن يرضى بالذّلّ والهوان، وعلى الشّعوب العربيّة التي إن رضيت حكوماتها بالتّطبيع، فهي لن ترضى به، لا عاجلاً ولا آجلاً، انطلاقاً من قيمها ومبادئها ودينها.