العمل الصّالح سبيل دخول الجنَّة

السيد علي محمد حسين فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه في كتابه العزيز: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}. صدق الله العظيم.

يذكر في سبب نزول هذه الآية، أنه التقى نفر من اليهود والمسيحيّين والمسلمين، وراح كلّ يفاخر بانتمائه، اليهود قالوا إنهم أتباع النبيّ موسى (ع)، وهم شعب الله المختار، وإنّ نبيهم لن يدع نار جهنّم تمسّهم، وإذا مسّتهم فلن تمسّهم إلا أيّاماً معدودات. والمسيحيّون قالوا: إنّ السيّد المسيح لن يترك أتباعه يدخلون النّار، وسيدخلهم معه إلى الجنّة. والمسلمون قالوا نحن أتباع محمّد (ص)، وخير أمّة أخرجت للنّاس، ورسول الله لن يدع أمّته، التي هي خير الأمم، تدخل النّار.

عندها نزلت هذه الآية التي تلوناها، وهي أشارت إلى دروس كثيرة نحتاج إليها.

هل يكفي الانتماء؟!

الدرس الأوّل، أنّه لا يكفي انتماء الإنسان إلى الإسلام أو إلى أيّ دين من الأديان السماويّة حتى يضمن دخول الجنّة، بل إنّ الانسان سيعاقب إن أخطأ، ويجازَى إن أحسن.

فلا بدّ من العمل الصّالح، والجنّة لا تنال بالأماني، لذا جاء قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}. إذاً، لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصّالح، حتى يحظى الإنسان بثواب الله وبكرمه.

وهذا ما أشار إليه رسول الله (ص)، فهو عندما مرض وأحسّ بدنوّ أجله، جاء إلى المسجد مستنداً إلى أمير المؤمنين وابن عمّه الفضل بن عباس، وصعد المنبر وقال: “معاشر الناس، إنّه ليس بين الله وبين أحدٍ نسبٌ ولا أمرٌ يؤتيه به خيراً أو يصرف عنه شرّاً، إلّا العمل. أيّها النّاس، لا يدّعي مدّع، ولا يتمنّى متمنّ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت (وهو المعصوم) لهويت”…وإلى هذا، أشار الإمام الباقر (ع) لمن ينتمون إلى خطّ أهل البيت (ع)، فقال لهم: “اتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته”. ثم قال: “فوالله ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النّار، ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع”. لذا قال عليّ (ع) لمن لا يعملون ويريدون بقليل من الأعمال أن يدخلوا الجنّة: “أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه؟! هيهات! لا يخدع الله عن جنَّته”. ولذلك، نجد الأحاديث تركّز على العمل الصّالح، لأنّه الوسيلة الأساسيّة لدخول الجنّة. فقد ورد في الحديث: “أَكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِيَ الْجَنَّةَ، تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ”. وفي الحديث: “من اشتاق إلى الجنّة، سارع في الخيرات”. وفي الحديث: “ثلاث من أتى الله بواحدة منهنّ، أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه”… وعندما جاء رجل إلى رسول الله (ص)، وقال له: دلَّني على عمل يدخلني الجنّة؟ قال (ص): “اشتر سقاءً جديداً، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنّك لا تخرقها حتى تبلغ بها عمل الجنّة”.

وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نحدّد نظرتنا إلى مدى صدق انتماء أيّ شخص إلى الإسلام أو أيّ دين آخر، فهو لا يتحدّد بالانتماء، بل بمقدار انسجام الإنسان وسيرته مع ما يعلن عن الانتماء. فنحن غالباً نقوِّم الاشخاص بناءً على انتماءاتهم، من دون الأخذ في الاعتبار مدى أثر هذا الانتماء في واقعهم أو حياتهم أو قيمهم.

وهذا أدّى ويؤدّي إلى ضياع المقاييس التي جاءت الرّسالات السماويّة للدّعوة إليها وتثبيتها، فالأنبياء والرسل لم يأتوا لأجل أن يكبِّروا جمهورهم، أو يجمعوا حولهم أتباعاً، بل جاؤوا ليزرعوا في نفوس الناس الإيمان والأعمال الصالحة.

الأخلاق هي الأساس

الدرس الثاني؛ لقد أشارت هذه الآية إلى وحدة الأهداف التي تدعو إليها الديانات السماويّة، والتي أشار إليها القرآن الكريم عندما قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.

وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

كما أشار إليها رسول الله (ص): “إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”. فالنبيّ ما جاء من فراغ، بل جاء ليتمّ ما جاء به الأنبياء من قبله من مكارم الأخلاق.

إنّنا أحوج ما نكون إلى البناء على هذه المقاييس، لنقوّم على أساسها كلّ من يرى نفسه من أتباع الأديان السماوية، ومن ثم نتعامل وفق هذا المقياس مع النّاس، فلا نرى المسلم مسلماً إن كان كاذباً أو ظالماً أو فاسداً أو لا يتّصف بمكارم الأخلاق، أو لا يترك أثراً طيّباً في من حوله، ولا نرى المسيحيّ مسيحيّاً إن لم يكن صالحاً أيضاً، ولا نمنح القيمة لأتباع الأديان السماويّة الأخرى إلّا إذا تمثّلوا كلّ هذه الأهداف، من الإيمان ومكارم الأخلاق والعمل الصّالح.

 ولعلّ أخطر ما تواجهه الأديان في واقعنا، هو تحوّلها إلى شكل من دون مضمون، أو أن يتسلّق من خلالها الكثيرون ليصلوا إلى المواقع الكبيرة، أو ليحقّقوا مكاسب خاصّة لهم، تحت عنوان الانتماء إلى الدّين، فيما هم لا يحملون من الدّين إلا الاسم، كما نرى في الكثير من الرّموز التي تعنون نفسها بهذه العناوين، وهي لا تملك أيّ مواصفات من الدّين الذي تمثّله.

وهذا ما حرص القرآن الكريم على الإشارة إليه، فهو عندما تحدَّث عن أتباع النبيّ إبراهيم (ع)، قال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، وعندما تحدَّث عن أتباع رسول الله (ص) قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله أحد أصحابه، عندما سأله عن أفضل دعاء يدعو به الله، فقال (ص): “سل الله العفو والعافية في الدّنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدّنيا والآخرة فقد أفلحت”. فالعافية هي أفضل ما يمنّ به الله سبحانه وتعالى على عبده في الدّنيا، وهي سبيل نجاته في الآخرة.

وليكن دعاؤنا بما كان يدعو به رسول الله: “اللّهمّ إني أسألك العافية، ودوام العافية، وتمام العافية، والشّكر على العافية، عافية الدّين والدنيا والآخرة، يا وليّ العافية”.

فبالعافية نقوم بمسؤوليّاتنا وواجباتنا، وبها نصبح أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.

مع قرار الإقفال

والبداية من لبنان، الذي وصل فيه تفشّي وباء كورونا إلى حدّ خطير، بحيث لم يعد بالإمكان السّيطرة عليه إلا بالقرار الّذي اتخذ بالإقفال التامّ مع بعض الاستثناءات.

ونحن، في هذا المجال، مع أيّ قرار يساهم في حماية المواطنين من هذا الوباء، نظراً إلى تداعياته الخطيرة عليهم، وزاد من خطورتها، أنها وصلت إلى الجهاز الطبّي المكلَّف بالعلاج، ولذلك ندعو إلى الالتزام بكلِّ مندرجات هذا القرار، واعتبار ذلك واجباً شرعيّاً وأخلاقيّاً، وإن كنّا نعي انعكاسات ذلك على القطاعات الإنتاجيَّة التي شملها، وعلى من يعتمدون على عملهم اليوميّ لتأمين لقمة عيشهم.

ومن هنا، فإنّنا ندعو الدّولة إلى تحمّل مسؤوليّتها تجاه مواطنيها، فهي معنيّة بمدّ يد العون إليهم لمساعدتهم على تحمّل أعباء هذا الإقفال، وفي الوقت نفسه، ندعو المؤسّسات والجمعيّات العاملة في الشّأن الاجتماعيّ، إلى التّعاون فيما بينها لمساعدة الطبقات الفقيرة والمحرومة، ولضمان تقيّدهم بهذا القرار.

المراوحة في التأليف

في هذا الوقت، لا تزال المراوحة تحكم مسار تأليف الحكومة، حيث لم تؤدّ المشاورات الجارية إلى أيّ تقدم يذكر، رغم أجواء التفاؤل التي تشاع بين الحين والآخر، إذ لا يزال الخلاف مستحكماً على صيغة الحكومة ومن يتولى التّعيين، وعلى نوعية الحقائب التي يريدها هذا الفريق أو ذاك، ومن دون أن يبدي أيّ منهم استعداده لتنازلات متبادلة تضمن هذا التّشكيل.

إنّ من المؤسف أن يأتي مبعوثون من الخارج إلى هذا البلد لحثّ القوى السياسيّة على الخروج من انقساماتها، والإسراع في تأليف حكومة للقيام بإصلاحات هي ضروريّة لضمان مساعدة لبنان على الخروج من أزماته، فيما تتعامل هذه القوى مع البلد وكأنّه بألف خير ولا يحتاج إلى أحد، ولذلك تبقى غارقة في حساباتها الخاصّة وصراعاتها ومصالحها، من دون أن تدير بالاً لما قد يجري على الوطن وعلى المواطنين.

ولذلك، نقول لكلّ هؤلاء: كفى تلاعباً بمصير هذا البلد وبمستقبله وبمستقبل أبنائه، لقد آن الأوان لأن تعيدوا النظر في حساباتكم قبل أن يُعاد النظر فيكم.

قانون محاربة الفساد؟!

ونتوقّف عند العقوبات التي صدرت أخيراً تحت عنوان “قانون محاربة الفساد” بتوقيته وظروفه.. لنقول إنّنا في الوقت الذي نقف مع أيّ قرار يدين فاسداً، لكنّنا لا نرى أنه يأتي من هذه الزاوية، ولو كان كذلك، لأجاب وبكلّ وضوح وشفافيّة وعلى الملأ عن السّؤال الذي طرح ويطرح حول الأدلّة التي استند إليها والمستندات التي اعتمدت، ليقتنع اللبنانيون أنّ القرار لم يكن سياسيّاً، ولا يدخل في حسابات مصالح الدّولة التي أصدرته، وإلا سيبقى هذا القرار يدخل في إطار التّشكيك كما هو واضح وبيِّن وحتى يثبت العكس.. وتبقى المسؤوليّة على الدولة اللبنانيّة في معالجة الفساد، حتى لا تترك المجال للآخرين، وخصوصاً القوى الخارجيّة، لكي تدخل إلى البلد وتتدخّل في شؤونه من هذا الباب.

ثبات في المفاوضات

أمّا في مسألة ترسيم الحدود، فإنّنا نقدّر الثّبات في الموقف الّذي أظهره الوفد اللّبناني المفاوض في تثبيت حقّ لبنان وعدم التّنازل عنه، مستنداً في ذلك إلى كونه التزاماً بالقانون الدّولي، وندعو إلى التمسّك به والثّبات عليه، ووحدة الموقف اللبناني في عدم التفريط، وتحت أيّ ظرف من الظروف، بشبر من الأراضي اللّبنانيّة أو ثروة لبنان الوطنيّة.