العمل في الاسلام: خدمة الحياة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.

عندما نتدبر آيات القرآن الداعية الى الايمان بالله عز وجل، نلاحظ تواتر ارتباط الايمان بالعمل وليس اي عمل بل بالعمل  الصالح { من آمن وعمل صالحا}

والعمل الصالح ليس شرطا أن يكون صلاة أو صوما او حجا أو عبادة  من العبادات.. بل ايضا أن يؤدي خدمة أو ينتج سلعة أو  يسد حاجة من حاجات الناس .. وعندما دعانا الله لنسير في الارض أو نمشي في مناكبها. لم تكن دعوة للتنزه والفرجة بل يقول لك هذه موارد الأرض فكر..اسع، وعمر، واستثمر .. الدعوة فيها تكليف وحجة واذا احتجت وجعت فأنت يا إنسان  من قصّر ..

وليس أدل على ذلك من أن يكون الكد في سبيل لقمة عيشك وعيش من تعول فيه كفارة عن الذنوب إذ يقول رسول الله: "إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنُوبًا لا تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَلا الصِّيَامُ وَلا الْحَجُّ وَلا الْعُمْرَةُ"، قَالُوا: فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ"

إن أول درس في مدرسة العمل في الاسلام أن تجعل عملك في خدمة الحياة، أن تكون بانيا لا هدّاما، في وصية لرسول الله يقول فيها: «مَا مِن مُسلم يَغرِسُ غَرْسًا أو يَزرَعُ زَرْعًا فيأكُلُ مِنه طَيرٌ أو إنسَانٌ أو بهيْمَةٌ إلا كان لهُ بهِ صَدقَةٌ».

ان مفهوم العمل في الاسلام يعني الاعمار، يعني النفع، يعني الانتاج والاثمار، وعينك على الله الذي سخر لك ما في الارض جميعا، ليبارك ويسدد ويوفق ويرزق. ويعتبر عملك عبادة وجهادا واليد التي تعمل يحبها الله ورسوله.

..في الاسلام لا موقع للبطالين للكسالى، العاطلين عن العمل، حتى أن المال الشرعي من بيت مال المسلمين لا يُعطى لهم.. بل اكثر من ذلك ..ان الله يكره العبد فاغرا فاه من غير عمل يقول يا رب ارزقني .

والملفت ان التربية على ضرورة العمل لم تميّز بين رجل وامرأة ؛الاسلام يقول لك  طاقتك ليست ملكك رجلا كنت ام امرأة طاقتك ملك الآخرين والنموذج خديجة  بنت خويلد كانت صاحبة تجارة بالمعنى الحقيقي للاعمال: سيدة اعمال منتجة.. وتزوج منها  رسول الله والاسلام عندما دعا الناس للعمل كقيمة وكضرورة، حدد حزمة من الاخلاق الضرورية الخاصة بالعمل والاسترزاق.. ففي قصة النبي موسى مع شعيب(ع) عندما أعان النبي موسى ابنتي شعيب على سقي غنمهما من دون أن يطلب أجرا ، فتلمس فيه إحدى الابنتين اهم الصفات أصالة ، لعامل يمكن ان يعمل عندهم  لذا تقترح على ابيها: {…يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وفي قصة النبي يوسف عندما دعاه عزيز مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.

وهنا أهم شرطين من شروط النّجاح يجب أن تتوفّرا في العامل: أوّلاً  القوة، (الجسدية او المعرفية) واستثمار هذه القوة يظل موضع شك إن لم تقترن بالامانة، وهي الشرط الثاني الاساسي للنجاح. فغياب الامانة قد يدفع بالعامل الى استثمار كفاءاته خارج مصلحة العمل: يرتشي، يغش، يسرق، يكذب، يهدر المال والوقت وربما ادوات العمل واسراره .

ان الامانة هي رأس أخلاقيات العمل في الاسلام، هي اهم من الكفاءة، بل إن الامانة هي التي تدفع بصاحبها ليطور قدراته وليقوم بمسؤولياته. تماما مثل الكثير من الصفات الشخصية الاخرى التي تبين ان البحث عنها هو الاهم لدى رب العمل، وقبل البحث عن مستوى الكفاءة مثلا: شخصية الموظف؛ طيبته، شفافيته، صدقه، ردود فعله، كظم غيظه، كيف يتعامل مع اخطاء الاخرين، دماثة خلقه، تقبّله للنقد، مراجعته لنفسه، وغير ذلك من الصفات.. اليوم في علم الادارة ينصحون بان يخضعوا المتقدمين للوظائف لاختبارات عملية وواقعية لاكتشاف هذه الخصال.. لانهم يعتبرونها الاساس في النجاح وتحسين الانتاج .

في التاريخ الاسلامي لم يكن تنظيم المهن والحرف في المدن الاسلامية يسمح لأي صبي اوشاب ان يتدرب في صنعة ما، ثم يرتقي الى مستوى معلّم صنعة الا بعد ان يشهد له مجتمع هذه الصنعة بحسن الخلق وكرم المعاملة وأداء الامانة وممارسة الايمان قولا وعملا .. في تلك المرحلة كان اتقان العمل والتمسك بالخلق القرآني وجهين لعملة واحدة. فأين نحن اليوم ..؟ اصبح العمل وحتى العلم في حالة خصام وانفصال عن سلة القيم الاخلاقية، ولهذا ترانا نعاني في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانتاجي و في كافة الميادين. حيث العمل في واد والاخلاق في واد آخر.

لقد اهتم الاسلام بالخصال الشخصية تحديدا، واهتم بدوافع العمل قبل الاهتمام بالمنافع .. لأن من يعمل وهمّه الربح كيفما كان والربح ولا شيء غيره، لايهمّه الحديث عن الأمانة أو عمل مشروع وغير مشروع، حلال ام حرام.. شريف ام غير شريف، من سيتأذى من هذه البضاعة الفاسدة او من هذا الدواء المغشوش.

..هذه كلها احاديث لا مجال لها، المهم ان تمتلئ الجيوب ولا شيء يعلو فوق صوت الفلوس…

والغريب ان هناك من يعتبر ان تديّنه لا شغل له بتجارته، فالتجارة يعني شطارة.. والمفارقة انه في بعض الاحيان ينوي هذا البعض او ينذر ان يتبرع ببعض مما يحصل عليه من صفقاته (وهي غير مشروعة) لصالح العمل الخيري.. وخير هذا بشر ذا.. و"يا جيب ما دخلك حرام".. هذه ألاعيب واحتيالات والاسلام كان واضحا وقاطعاً: الصدق والأمانة تحت أي ظرف ومهما كنت تعاني من عوز، الصدق والامانة رأس مالك، ان خسرته فلن ينفعك اي رأسمال مادي، ولو كان بحجم أموال قارون ..

ايّها الاخوة… كم تعاني مجتمعاتنا من اعمال يسترزق اصحابها من تجارة مخدرات او معلبات فاسدة او من قمار او من اعمال خطف لقاء فدية، او من فرض الخوات على التجار او اصحاب الاعمال. اما الرشوة فلها في تاريخ مجتمعاتنا سجل حافل قديما وحديثا.. اليوم بحفنة من الليرات تشتري ضمير موظف، وحتى يقال في علم النفس انه يمكن  لفنجان قهوة ان يكون فاتحاً للشهية على الرشوة، انت تشتريه بدعوة على فنجان قهوة، وهكذا تصبح الرشوة واقعا مفروضا على الشرفاء ونظيفي الكف …

 لقد آن الأوان ان نحمي عمالنا.. العمال اولا بايجاد انظمة واقية، واضحة وصريحة.. والى ارباب العمل او القيمين عليه نقول لا تقبلوا ولا تتركوا الامور تمشي على غاربها.  دققوا في كل هدية او علاقة يقوم بها الموظفون مع زبائن موسساتكم وشركاتكم…… لا تدعوهم يتورطون… افتحوا عيونكم، راقبوا، انشؤوا أنظمة تزيد من الشفافية، كونوا انتم القدوة في ذلك..

 مطلوب منكم أيضا ان تحموا عمالكم بعدلكم وانصافكم ورحمتكم  والانفتاح عليهم ليشكوا لكم همومهم ومشاكلهم .. كي لا يقعوا فريسة الحاجة وضعف الارادة ..

يخاطب الرسول (ص) المؤمنين و ينصحهم قائلاً في مجال التعاطي مع من يستأجرونهم لانجاز اشغالهم و يقول : "ان إخوانكم، خَوَلكم (أي خدمكم وعبيدكم الذين يتخولون أموركم) جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فان كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".. هذا العامل الذي تحت يدك ليس رقماً، وليس آلة من آلات المعمل. اذا تضررت الآلة، فمن من ارباب العمل لا يسارع الى إزالة عطلها، وإعادتها الى دورة العمل سليمة معافاة؟ فكم بالحري ان يعامل انسان كادح بجزء بسيط من هذا الحرص. اليس هذا ما يقوله العدل، و ما تفرضه مصلحة العمل؟

كما وندعو العمال بدورهم ان يحموا أنفسهم عبر اتحاداتهم ونقاباتهم الحقيقية التي لا تتسيس الا لمصلحة العمال والمهنة .. ولنأخذ العبرة من الصحابي سلمان الفارسي وهو اول من أسس تنظيماً نقابياً، هدفه الدفاع عن هذه الحقوق. جمع الفقراء و العمال و ارباب الصنائع والحرف، وكان هدف اللقاء الأول واضحاً، اذ قال لهم: انني معكم، و بابي مفتوح دائماً لكم… أريد من اهل كل حرفة ان يختاروا شيخاً لهم (أي رئيساً)، فإذا وقعت مظلمة على عامل او فقير، فليشك لشيخ حرفته. وفيما بعد شرع الفقهاء مهمات لموظف هو صاحب الحسبة في المدينة الاسلامية، ليتابع شؤون الاسواق، و اوضاع كل مهنة، بما فيها شؤون معلميها، و صبيانها، و النظر في اي مظلمة تقع على عامل او صانع. وهكذا نرى أن الاسلام لم يكن طارئا على موضوع الاهتمام بقضايا العمال بل كان يشرّع وينفّذ.

 ايها الاحبة من المؤسف ان الدولة عموما والمؤسسات، لا تتذكر العمال الا يوم عيد العمال، لكن متى كانت الخطب والمهرجانات، وبيانات التكريم تشبع جائعاً او تشفي مريضاً، وهل يفك ضائقة العامل منحه يوم اجازة مدفوعة الاجر في الأول من أيار؟ خطب التكريم لا تلغي التقصير، ولا التهميش، ولا سياسات ناس بسمنة وناس بزيت..  بدل هذه الخطابات فلتفتح ملفات الفساد، وليُستنقذ المال العام الذي هو ملك الجميع من جيوب وحسابات وارصدة القلة المتشاطرين والمحميين .. ولترفع كل جهة يدها عمّن ينتسبون اليها ويُحسبون على ملفات الفساد، وليبدأ كل واحد بالبيت الداخلي، ينظفه ويجعل بيئته خالية ومحصنة من ان تحتضن اي فساد او افساد، مهما كانت الحجج… ومهما كانت الاعذار ف { بَلِ الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه بَصِيرَة وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيره} وبذلك نبني اقتصاداً متيناً ونظيفاً، وفي هذا التكريم الحقيقي للعامل، وبه ينال حقوقه وكرامته. والحمدلله رب العالمين

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا الاستهداء بهذه الأبيات التي قالها الإمام علي الهادي(ع) في محضر المتوكّل؛ هذا الإمام الذي نعيش ذكرى ولادته في الثاني من شهر رجب. وقد كان الإمام(ع) يذكّر المتوكّل بعد أن أحضره إليه، بما سيؤول إليه حاله وحال كلّ الطغاة.

باتوا على قللِ الأجبال تحرسُهم ** غُـلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ      

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم **  وأودعوا حفراً يـا بئس ما نزلوا

ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قبروا **  أين الأسرّةُ والتيجانُ والحللُ

أيـن الوجوه التي كانتْ منعمةً ** من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ

فـأفـصـحَ القبرُ حين ساءلهم ** تـلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا ** فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا

وطالما عمّروا دوراً لتُحصنهم ** ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا ** فـخلّفوها على الأعداء وانتقلوا

أضـحـت منازلُهم قفراً معطلةً ** وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

أيّها الأحبّة، حقيقة الموت وما يجري بعده، هي الحقيقة الّتي تغيب عنا وعن الكثيرين، ولذلك، نطغى ونتجبّر ونتكبّر، وننسى مسؤوليّاتنا وواجباتنا تجاه ربّنا والناس، ولكن أين المفرّ عندما نُدعى إلى الله في المحشر، حيث لا خيار لنا إلا الاستجابة للداعي، فكما لم يستطع السابقون أن يفرّوا في هذه اللحظة، لن يستطيع اللاحقون ذلك مهما بلغوا من قوة وجبروت؟! لذا، ليس أمامنا إلا الاستعداد، والقيام بكل مسؤولياتنا، ومواجهة كلّ التحديات، حتى نعذر إلى الله يوم ينادى بنا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}.

والبداية من لبنان، الّذي كنا نتمنّى فيه كما كلّ اللبنانيين، أن يتمّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وأن ينتخب رئيس يملك القدرة على جمع كلمة اللبنانيين، ويلبّي طموحاتهم وآمالهم، ويساهم في تعزيز دعائم الاستقرار الذي ينشدونه.

ولكن يبدو أنَّ هذا الاستحقاق كغيره من الاستحقاقات، لن يتم إلا في ظل توافقات دولية وإقليمية لم تنضج بعد، ونحن رغم كل هذا الواقع، يبقى لدينا بعض الأمل في أن يجرِّب المسؤولون في هذا البلد، ولو لمرة واحدة، أن يسيروا عكس التيار الجاري، وأن ينتخبوا رئيساً توافقياً يلتقون عليه، وفق صيغة "صنع في لبنان".

إننا نعتقد أنَّ هؤلاء قادرون على ذلك إن أرادوا، شرط أن يخرجوا من رهاناتهم وارتباطاتهم، وأن يفكّروا ملياً في إنسان هذا البلد ومعاناته، ومدى الخسائر التي لحقت بالوطن والشعب عندما تمّ تأخير الاستحقاقات السابقة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني.

ويبقى أن نعود إلى الهمّ الاجتماعي والمعيشي، الذي لا ينبغي أن يغيب عن سلّم أولويات المجلس النيابي، لكونه يمسّ لقمة عيش موكّليهم، الذين من حقهم عليهم أن يستجيبوا لمطالبهم، ولا سيما حقّهم في العيش الكريم.

ومن هنا، فإننا ندعو مجدداً إلى الإسراع في بتّ سلسلة الرتب والرواتب، بالصيغة التي لا تؤدي إلى خلل في الخزينة العامة والواقع الاقتصادي والمؤسسات، وبما لا يرهِق المواطن بضرائب جديدة. إننا نرى أن بالإمكان تحقيق هذه الصيغة العادلة، إن صدقت النيات، وقرر المسؤولون في هذا البلد أن يخرجوا من حالة الارتجال إلى حالة التخطيط، وأن لا يفكّروا في أصحاب الثروات الكبيرة والشركات، على حساب الفئات الفقيرة والمستضعفة.

ولا ننسى الوضع الأمني الذي يعود إلى الواجهة مجدداً في كل الأحداث المتكرّرة التي تحصل في البقاع، سواء من خلال التعرّض للجيش اللبناني، أو من خلال إطلاق الصواريخ على عدد من المناطق البقاعية، ومن الخطورة بمكان أن تعلن جماعة تحمل عنواناً مذهبياً المسؤولية عنها، ما يستهدف جرّ البقاع إلى فتنة مذهبية.

إننا في الوقت الذي نثق بوعي أهلنا في البقاع بكلّ تنوعاتهم لما يجري، وبحرصهم على الحفاظ على العيش المشترك والتلاقي والتعاون، ندعو إلى معالجة جذرية لهذا الواقع، تُخرج البقاع من حالة عدم الاستقرار التي يُراد له أن يقع فيها، وهذا لا يتم إلا بتعاون كل القوى السياسية المؤثرة مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية.

ولا بدَّ لنا في ظل التعرض لبعض المؤسسات الإعلامية، من أن ندعو الدولة إلى تحمّل مسؤولياتها الكاملة في حماية حرية الإعلام والتعبير وإبداء الرأي، وذلك على قاعدة المصداقية والأمانة، ورعاية المصالح العامة والأساسية لهذا البلد، لأن المسّ بحرية أية وسيلة إعلامية، يمكن أن يطاول جميع الوسائل الإعلامية، ويهدّد الحرية التي يتميّز بها هذا الوطن، والتي تشكل إحدى ميزاته الرئيسية.

ومن هذا المنطلق، ندعو المحكمة الدولية إلى المحافظة على صدقيّتها، فلا تغيّر وجهتها عن الهدف الذي وجدت لأجله، بحيث لا تتحول إلى أداة لتصفية حسابات داخلية أو خارجية، تفقدها مجدداً من صدقيتها، كما حصل طوال السنوات الماضية.

ونصل إلى العراق لنهنّئ الشعب العراقي والحكومة العراقية والأجهزة الأمنية، على نجاحهم في إجراء الانتخابات، التي تحصل لأول مرة بعد خروج الاحتلال الأميركي من البلد، رغم كل الظروف الأمنية الصعبة التي سبقت هذه الانتخابات وواكبتها. لقد شكَّلت هذه الخطوة رداً على كل الذين يريدون للعملية السياسية ألا تستمر، ويرغبون في أن يقع هذا البلد في أتون الفوضى والعنف.

ونحن على أمل بأن تُفضي هذه الانتخابات إلى بناء دولة قوية؛ دولة بعيدة عن المناكفات والصراعات، ليخرج العراق من دائرة الفتنة والانقسام، ويجد سبل الاستقرار والنمو والتطور، ويكون قادراً على مواجهة تحديات الداخل والخارج.

ونعود إلى فلسطين، لندعو السلطة الفلسطينيّة وحماس إلى الاستمرار بالمصالحة، وعدم الرضوخ للضغوط الإسرائيلية التي تريد لهذه الخطوة أن لا تُستكمل، لأنها السبيل الوحيد لاستعادة الوحدة، وبناء القوة، وتعزيز روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وحفظ الثوابت، ولا سيما حقّ العودة، وتكريسها في ضمير الشَّعب والمؤسَّسات الفلسطينيَّة.

ويبقى أخيراً، وفي ظل كل الصراعات التي تعصف بعالمنا العربي والإسلامي، أن نعيد تذكير الجميع، بأننا دخلنا في شهر رجب الحرام، وهو واحد من الأشهر الحرُم الأربعة، الذي لا تقف أهميته على كونه من الأشهر التي تفيض فيه الرحمة الإلهية على العباد، فهو يُسمى بالشهر الأصبّ، وهو شهر عبادة واستغفار وعودة إلى الذات ومحاسبتها، وهو الشهر الذي أراده الله أن يكون شهر سلام وأمان، تتوقف فيه كل الحروب والصراعات مهما استعرت، وهذا ما كان يحصل قبل الإسلام وبعده.

ومن هنا، فإننا ندعو المسلمين والعرب، انطلاقاً من حرمة هذا الشهر، إلى المبادرة لإيقاف حروبهم ونزاعاتهم، فهذا واجب شرعي إسلامي، كما هو أصل من أصول تقاليدنا العربية المتميّزة، ففي ذلك تبريد لهذه الساحات الساخنة، واستعادة للغة الحوار فيها، وبذلك يتحقّق هدف هذا الشّهر. وهذا ما نريده في سوريا، الّتي يستمرّ نزيف الدم فيها هادراً، حيث وصل عدد القتلى والدمار إلى حد غير معقول، وهذا أيضاً ما نريده في العراق واليمن وليبيا ومصر والبحرين وكل ساحاتنا، فهل نصغي إلى كلام الله وكلام رسوله(ص)؟

 

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : 3 رجب 1435هـ الموافق : 2 أيار  2014م
 
 

Leave A Reply