الفيض الرسالي للإمام الرضا(ع)

قال الله تعالى في كتابه العزيز:}وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ{. صدق الله العظيم…

مرت علينا في الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام ذكرى واحد من أئمة أهل البيت(ع) الذين حظوا بالكرامة من عند الله بأن أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً…

 وجعلهم رسول الله(ص) أمناء على رسالته وصمام أمان من الانحراف والضلال، وهو الإمام علي بن موسى الرضا(ع).

ونحن عندما نذكر هذا الإمام فإننا نذكر معه العلم والحلم والعبادة وحسن الخلق والجود والكرم والإحسان، وإلى هذا أشار أحد الذين عايشوه وهو إبراهيم بن العباس، عندما قال: “ما رأيت أعلم من أبي الحسن الرضا، وشهدت منه ما لم أشاهده من أحد، فما رأيته جفا أحداً بكلامه قط، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا رأيته يشتم أحداً من مواليه ومماليكه، وكان قليل النوم بالليل، يحيي أكثر ليله بالعبادة، كثير الصوم لا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول أنه يعدل صيام الدهر.. وكان كثير الصدقة في السر وأكثر ذلك في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه”..

ونحن اليوم وفي هذه المناسبة المباركة سنتوقف عند بعض مواقفه؛ فقد ورد أنه في خلال وجوده في خراسان، أرسل من هناك برسالة إلى ولده الإمام الجواد(ع) الموجود في المدينة، أوصاه فيها بوصايا عديدة تتعلق بمسؤولياته، وكان أهم ما أوصاه به، أن قال له: فأسألك بحقّي عليك يا أبا جعفر (وهي كنية الإمام الجواد)، لا يكن مدخلك ومخرجك إلّا من الباب الكبير ــحيث ينتظرك الناس، لأن أهل البيت(ع) كانوا مقصد الناس في حوائجهم ــ فليكن معك عندها ذهب وفضّة، ثمّ لا يسألك أحدٌ إلاّ أعطيتَه. إنّي أريد أن يرفعك الله، فأنفِقْ، ولا تخشَ مِن ذي العرش إقتاراً، فقد قال الله سبحانه: }مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً{..

لقد أراد الإمام من خلال رسالته هذه أن يلفت إلى أهمية الإنفاق ودوره في رفع درجة الإنسان عند الله وإلى المسؤولية التي تقع على عاتق كل أب تجاه أولاده، فلا يكفي للأب أن يكون مؤمناً قائماً بمسؤولياته تجاه ربه، وأن يبذل الخير للناس والعطاء، بل لا بد له من أن يربي أولاده على ذلك، بأن يودعهم الإيمان وأن يزرع فيهم حب الخير، ويهيئ لهم السبيل للقيام بذلك.. وهذا ما أشار إليه رسول الله(ص) لأحد أصحابه، فقد ورد أنه لما نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أن رجلاً من صحابة رسول الله(ص) جلس وأخذ يبكي وهو يقول: أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي، فقال رسول الله(ص): “حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك”.. فأمرهم بما تأمر به نفسك وانههم عما تنهاه عليها..

وفي موقف آخر له، أنه كان في يوم عرفة يبذل كل ماله في سبيل الله ولا يبقى معه شيء، فقال له يومها أحد أصحابه: مالك فعلت ذلك بنفسك، فأنت خسرت كل شيء ولم يبق معك مما تحتاجه.. فقال(ع): “أنا لم أخسره بل أودعته عند من يحفظه لي يوم حاجتي إليه (أي يوم القيامة) يا هذا أنه المغنم لا المغرم” (أي الخسارة)..

وهذا ما كان يعبر عنه الإمام زين العابدين(ع)، فهو عندما كان يأتيه فقير يستبشر ويقول: “جاء من يحمل لي زادي إلى يوم القيامة”..

وموقف آخر له: أنه دعا يوماً بمائدة، فلما اكتملت أصنافها، وجلس عليها كلّ من كان معه من القادة والوزراء وكبار القوم، وكان ذلك في أوّل تولّيه ولاية العهد، أصرّ(ع) على عدم الجلوس حتى يدعى إليها كلّ من كان يقوم بخدمته، حتى البوّاب والسائس للخيل، فقال له حينها أحد أصحابه: “لو عزلت لهؤلاء مائدة”. فموقعك كإمام للمسلمين، وكونك وليّاً للعهد، وموقع جلسائك من ذوي المقامات العالية، لا يتناسب والجلوس على المائدة نفسها مع هؤلاء الذين لا يساوونك ويساوونهم في الموقع الاجتماعي. فلو وضعت لهؤلاء مائدة يجلسون عليها؟! فقال لهم الإمام(ع): “مه، إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء (لا يقاس بالمواقع والأموال) بالأعمال”.

وهو ما أشار إليه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه عندما قال: “وَاعْصِمْنِي مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذِي عَدَمٍ (من لا يملك المال أو الموقع) خَسَاسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَةٍ فَضْلاً، فَإِنَّ الشَّرِيفَ مَنْ شَرَّفَتْهُ طَاعَتُكَ، وَالْعَزِيزَ مَنْ أَعَزَّتْهُ عِبَادَتُكَ”..

ونقف أخيراً في موقفٍ له أشار إليه أحد أصحابه، وهو اليسع بن حمزة، قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرّضا(ع)، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن أمور دينهم، إذ دخل عليه رجل، فقال: السّلام عليك يابن رسول الله. وبدون مقدِّمات قال له: افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله عليَّ نعمة، فإذا بلغت بلدي، تصدّقت بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة. فقال له: اجلس حتى يتفرّق الناس، ثم دخل إلى حجرته، وأتى بصرّة فيها مبلغ من المال أزيد مما يحتاج إليه الرّجل، وأعطاه إيّاها من وراء الباب، ثم قال له: “استعن بها في مؤونتك ونفقتك، وتبرّك بها، ولا تتصدَّق بها عني، واخرج فلا أراك ولا تراني”، ثم خرج.

هذا، وكما تذكر السّيرة، استغرب أحد أصحاب الإمام(ع) الجالسين عنده، أن يستر الإمام وجهه عن الرَّجل عندما أعطاه المال، فهذا قد يكون طبيعياً لو كان المال قليلاً، استحياءً من هذا الرّجل، ولكنه أعطاه كثيراً. فقال له: جعلت فداك، لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: “مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله(ص): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسيّئة مخذول، والمستتر بها مغفور له”.

لقد جاء هذا الشعور الإنساني من الإمام(ع) تجاه صاحب الحاجة إليه، تعبيراً عن النهج الإسلامي الذي يدعو إلى حفظ كرامة الإنسان، فلا يهان الإنسان لحاجته، ولهذا نجد أن القرآن الكريم أبطل الصدقة وكل آثارها ومفاعيلها عنده، إن هي أساءت إلى كرامة الإنسان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}

هذا غيضٌ من فيض السموّ الإنساني الذي بلغه الإمام(ع) في البذل والعطاء والحبّ للناس، ففي منطق الإمام(ع) أحسن الناس هو من يفيض على الآخرين عطاءً وخيراً بدون مقابل ولكل الناس، بحيث يكون هذا العطاء كالشّمس التي تشرق على الناس بالنّور، وكالمطر الذي ينزل عليهم بالخير، وكالينابيع التي تترك خصباً حيثما تمرّ من دون أن تميز بين أرض وأرض، وبين ناس وناس، ولا تنتظر مقابلاً في ذلك، وهذا ما أشار إليه بقوله عندما سئل: من أحسن الناس معاشاً؟ فقال: “من حسن معاش غيره في معاشه”.. وعندما قيل له من أسوأ الناس معاشـاً؟ أجاب: “من لم يعش غيره في معاشه”..

لذلك إحياؤنا، أيُّها الأحبة، لهذه الذكرى، وتعبيرنا عن مشاعرنا الحقيقية تجاه هذا الإمام، يكون عندما نستلهم من هذا الإمام الفيض الإنساني الذي عاشه(ع)… ونعبر عنه بالسلوك والعمل، وفي ذلك فوز الدنيا والفوز العظيم في الآخرة..


الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي، بما أوصانا به الإمام الرضا(ع) عندما قال(ع): “من أحبّ عاصياً فهو عاص، ومن أحبّ مطيعاً فهو مطيع، ومن أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل عادلاً فهو ظالم، إنّه ليس بين الله وبين أحد قرابة ولا ينال أحد ولاية الله إلّا بالطاعة، ولقد قال رسول الله(ص) لبني عبد المطّلب: أتونِي بأعمالكم لا بأحسابكم وأنسابكم”..

فلنتوصى بوصية هذا الإمام فنبدي مشاعر الحب لمن أطاع الله وأحبه لا لمن عصاه، وأن لا نعين ظالماً في ظلمه ونقف مع كل من يعمل للحق والعدل وفي خدمة عيال الله، وعندما نأتي الله أن نأتيه كما أمر أن يؤتى بأعمالنا ومواقفنا لا بأحسابنا وأنسابنا، فلا ينال ما عند الله إلا بالورع والعمل..

وبذلك وحده نخلص لهذا الإمام ونكون جديرين بالولاية له وأقدر على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان الذي تزداد فيه معاناة اللبنانيين يوماً بعد يوم على الصعيدين المعيشي والحياتي، وتجعلهم غير قادرين على تأمين أبسط مقومات حياتهم، من دون أن يبدو في الأفق بارقة أمل تخرج اللبنانيين من معاناتهم على هذا الصعيد، إلا من بعض وعود وتقديمات هي من قبيل المسكنات لا تسمن ولا تغني من جوع..

وهي إن قدمت فمن كيس اللبنانيين وجيوبهم ومن إيداعاتهم كما يحصل في البطاقة التمويلية..

فيما المعالجات الأساسية لما يجري مؤجلة بانتظار تأليف حكومة إصلاحات والتي هي الباب الرئيس لتقديم مساعدات للبنان تخرجه من أزماته أو على الأقل توقف حال الانهيار.

ومع الأسف، لا تزال هذه الحكومة أسيرة من يرونها بقرة حلوب لهم ولأتباعهم وأزلامهم من دون أن يبدي أي منهم استعداداً للتنازل عن مصالحهم الخاصة والفئوية لحساب وطن يتداعى.. وذلك إضافة إلى توقف المبادرات الداخلية والخارجية ما يجعل الحكومة بعيدة المنال.. 

ونحن أمام ما يجري، وفي ظل انسداد الأفق أمام تأليف الحكومة وأمام المواطنين، فإننا ندعو حكومة تصريف الأعمال إلى القيام بالدور المطلوب وضمن الصلاحيات المتاحة لها..

إننا لا نقول ذلك من باب رمي كرة النار الملتهبة في وجهها كما يحصل من البعض، بل منعاً للفراغ، فهي إن لم تستطع أن تقوم بمعالجة جذرية لمشكلات البلد وأزماته لأن ذلك يحتاج لحكومة كاملة الصلاحية، فإنها قادرة على التخفيف من وقع هذه الأزمات على البلد وإنسانه، من خلال إيجاد الآليات التي تمنع من تحول البطاقة التمويلية إن أقرت إلى وسيلة انتخابية أو بالضرب بيد من حديد على المحتكرين والمهربين والناهبين للمال العام..

ولكننا ونحن ندعو حكومة تصريف الأعمال إلى القيام بدورها، فإننا ندعو القوى السياسية إلى مساعدتها على أداء هذا الدور، لا أن تكون عقبة في هذا الطريق من خلال الفيتوات التي غالباً ما تنصب في الطريق عند أي خطوة تراها على حساب مصالحها وامتيازاتها.

ونبقى في الوقت نفسه ندعو كل المعنيين بتأليف الحكومة إلى الخروج من رهاناتهم ومن حال المراوحة ومن المصالح الخاصة أو الفئوية أو انتظار ما قد يجري.. فاللبنانيون لا يحتملون هدر الوقت وإضاعته، ولا بد من أن تزال كل العوائق أمام التأليف، وإذا كان هناك من لا يزال يحول دون أن تبصر الحكومة النور لتثبيت موقع أو استعادة لحقوق طائفته، فإننا نقول لكل من يفكر بذلك، إن الوقت ليس هو الوقت المناسب للمطالبة بحقوق الطوائف أو تثبيت المواقع.. فالوقت هو وقت إنقاذ بلد يتداعى وينهار، وعندما يحصل ذلك لن تبقى طوائف ولا مذاهب، وتذهب معها كل الأحلام الخاصة.

إننا ندعو الجميع طوائف ومذاهب ومواقع سياسية إلى أن يتوجهوا، للعمل معاً من أجل إنقاذ هذا البلد، وسيأتي الوقت الذي من حق كل طائفة أو مذهب أو موقع أن يطالب بما له إن كان له ما يطالب..

ونحن في هذا المجال، نجدد التحذير من استنفار الغرائز الطائفية والمذهبية لشد العصب أو لكسب الجمهور، لأن أي استنفار لغرائز طائفة سيستدعي استنفاراً مقابلاً من طائفة أخرى في بلد لا تزال الطائفية تعشش في كيانه، وقد يؤدي إلى المس بوحدته..

ونبقى في لبنان، لنتوقف عند حوادث السير التي مع الأسف تزداد هذه الأيام وتودي بالأرواح والأموال، وكان من نتائجها الفاجعة التي أدمت قلوبنا وقلوب اللبنانيين فقدان عائلة بكاملها نتيجة حادث سير مروع، والذي أصبح من الواضح أنه نتيجة الإهمال المزمن في تأهيل الطرقات وصيانتها وفوضى القيادة وعدم انتظامها، فضلاً عما تسببت به أزمة البنزين على هذا الصعيد وقد يكون سبب هذه الكارثة، ما يدعو الدولة إلى أن تتحمل مسؤوليتها في تأهيل الطرق وتشديد الرقابة على من يخالفون أصول القيادة واحترام النظام العام، في الوقت الذي نجدد دعوة من يقودون السيارات إلى أن يكونوا أمناء على أنفسهم وعلى من معهم..

ونتوقف عند القرار الذي صدر من الحكومة الأمريكية بإيقاف مواقع وسائل إعلامية عدة والتي إن جاءت كما تدعي بدوافع سياسية، فهي أصابت محطات ذات طابع ديني وثقافي وتوجيهي ومنفتح..

إننا ندعو الحكومة الأميركية إلى العودة عن قرارها والإصغاء جيداً للقيم التي تتغنى بها في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان..