المخطئ يتحمّل وحده مسؤوليَّة الخطأ

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}.

لقد أشارت هذه الآيات إلى قاعدة قرآنيّة مهمّة، وهي أنّ المخطئ والمذنب والمسيء هو من يتحمل مسؤوليّة أعماله، فلا يتحمّلها غيره، سواء كان هذا الغير قريباً أو ابن عشيرته أو حزبه أو طائفته أو بلده وما إلى هنالك.

وهي اعتبرت أن تحميل المسؤوليّة للغير، أياً كان الغير، هو إخلال بالعدالة وإساءة إليها. وهي تشير في دلالاتها إلى أمور عدة مهمّة:

منطق القصاص!

أوّلاً، أرادت أن تعالج منطقاً كان سائداً في الجاهليّة، وهو أنّ العشيرة تُحمَّل مسؤوليّة أيّ خطأ يصدر عن أحد أفرادها، فلو قتل واحد من أبناء عشيرة من العشائر رجلاً من عشيرة أخرى، فردّ فعل هذه العشيرة لا يكون باتجاه القاتل فقط، بل قد يوجَّه إلى أيّ واحد من عشيرة القاتل، حتى من ليست له أيّ علاقة بما حدث.

لقد جاءت آية {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لترفض هذا المنطق، ولتقول إنَّ القاتل هو وحده من يقتل إن أراد القصاص، فلا يقتل من هو من عائلته أو عشيرته أو طائفته أو مذهبه أو حزبه، ولا يراعي في ذلك الأحجام والأوزان، وقد عبَّرت عن ذلك الآية التي قالت: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}.

فهي حذّرت من بيده الولاية على الدّم من تجاوز الحدود في القصاص، وأن يسرف في القتل، فيقتل غير القاتل، وهو إن فعل ذلك، يكون قاتلاً ومجرماً.

وقد عبَّر عن هذا المنطق الإسلامي العادل أفضل تعبير، الإمام عليّ (ع)، فعندما ضربه ابن ملجم، جمع (ع) كلّ أفراد عشيرته من بني عبد المطّلب وقال لهم: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا، تقولون قُتِلَ أميرُ المؤمنين، ألا لا يُقتلنَّ فيَّ إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتِه هذهِ، فاضربوه ضربةً بضربةٍ، ولا يُمَثَّلْ بالرّجل، فإني سمعتُ رسول الله (ص) يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور".

رفض تعميم الأحكام!

أمَّا الأمر الثاني، فقد جاءت هذه الآية لتعالج منطقاً كان سائداً في عصر النبيّ (ص)، ولايزال سائداً في عصرنا، وهو منطق تعميم الأحكام، فعندما يصدر خطأ عن شخص، أيّاً كان هذا الشّخص، نرى أنّ الحكم لا يقف على المذنب ومن قام بالخطأ، بل يعمَّم على كلّ من له علاقة به. لذا نجد في الواقع أنّه لا يقال فلان أخطأ، بل العائلة أخطأت، أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب أخطأوا، مع أنّ هؤلاء قد لا يكون لهم دور في حصول الخطـأ، فلم يشاركوا فيه أو يحرّضوا عليه، بل قد يكونون ممن يدينونه ولا يقبلون به.

لقد نبَّهت قاعدة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} المسلمين إلى أنَّ إصدار الأحكام لا بدَّ من أن يبقى بحدود من ارتكب الخطأ، فلا يتعدَّاه إلى غيره، حتى في التّعبير، فلا يقال ابن العائلة أو ابن العشيرة أو ابن المذهب أو ابن الطائفة أو ابن الحزب أخطأ، بل يقال فلان أخطأ، وهذا يصبّ في تحقيق العدالة التي دعا إليها الله سبحانه وتعالى، عندما قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. وهذا يساهم بإبقاء أيّة مشكلة تحدث في إطارها، ويحول دون اتّساعها إلى دوائر أخرى تفاقم المشكلة وقد تصل إلى تهديد استقرار المجتمع.

أمّا السَّبب في التّعميم، فهو يعود في بعض جوانبه إلى سوء تقدير لما حصل، أو بفعل الانفعال والعصبيّة، وقد يكون الهدف الرغبة في استثارة عاطفة الجمهور والرّأي العام، عبر استغلال حادثة فرديّة، لتصوّر بأنها استهداف للعائلة أو الطائفة أو المذهب أو الجهة السياسيّة، وقد يعود ذلك إلى النظرة التشاؤميّة التي تجعل الإنسان لا يرى إلا الصورة السلبيّة، فيرى كل النّاس فاسدين أو سارقين أو ظالمين أو غير مؤمنين.

لذا كان التّوجيه من الله تعالى للوقاية من هذا السلوك، تحرّي الدقّة في الأحكام، وعدم التسرّع في إطلاقها، وتوخّي العدالة، فبدلاً من أن نقول إنّ الكلّ أخطأوا أو أفسدوا أو شتموا أو أساؤوا، بينما يكون الأمر قد صدر عن واحد منهم أو بعضهم، نقول فلان أخطأ أو أساء.

وهذا الأسلوب اعتمده القرآن في تعامله حتى مع الكافرين أو المنافقين، فلم يعمّم الأحكام، ونراه حين يتحدث عن أهل الكتاب من حيث أداء الأمانة، لم يحمِّل الجميع المسؤوليّة، بل قال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. وهو عندما تحدَّث عن المنافقين، لم يشملهم جميعاً في قضيّة الإساءة إلى النبيّ (ص)، فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}. والأمر نفسه مع الأعراب، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ}، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}.

الحساب يوم القيامة فرديّ

الأمر الثّالث: وهو الّذي يتعلَّق بالعدالة الإلهيَّة يوم القيامة، فقد بيَّنت القاعدة القرآنيّة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، أنَّ الإنسان يوم القيامة هو الّذي يتحمّل مسؤوليّة أخطائه ويحاسَب، ولا يستطيع غيره أن يحميه من العذاب إن هو استحقّه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}. وقال عزّ وجلّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}.

وقد ورد في ذلك، أنَّ الرَّجل يوم القيامة يقول لزوجته: أيّ بعل كنت لك؟ فتقول نِعْمَ البعل، فيقول إني أطلب إليك اليوم حسنة تهبينها لي، لعلّي أنجو مما تريني. فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكن لا أطيق أن أعطيك شيئاً، فإني أتخوّف مثل الّذي تخاف! وإنّ الرّجل يلتقي بأبيه فيقول: يا بنيّ، أيّ والد كنت لك؟ فيثني بخير. فيقول: يا بنيّ، قد احتجت إلى مثقال ذرّة من حسناتك لعلّي أنجو بها. فيقول ولده: "يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوّف مثل الذي تتخوَّف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً! وتأتي الأمّ إلى ولدها يوم القيامة، فتقول له: يا بنيّ، جعلت لك صدري سقاءً، وبطني وعاءً، وحجري وطاءً، فهلمّ بحسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم؟ فيقول: يا أمَّاه، ليتني أستطيع ذلك، إنّني أشكو مما أنت منه تشكين. وفي ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ}.

وهذا هو ما يقوله الذين اتَّبَعُوا للذين اتّبعوهم، حيث يقول الله عنهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}.

ولذلك، كان قول رسول الله (ص) لفاطمة (ع) بضعته وروحه الّتي بين جنبيه، وهي المعصومة: "يا فاطمة بنت محمَّد، يا بنت رسول الله، اعملي لما عند الله فإني لا أغني عنك من الله شيئاً"، وقوله لعمّه العباس: "يا عبّاس بن عبد المطلب، يا عمّ رسول الله، اعمل لما عندك فإني لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفيَّة بنت عبد المطّلب، يا عمَّة رسول الله، اعملي لما عندك فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً". وهذا لا يعني الشفاعة، لكن الشّفاعة لا تأتي بناءً على القرابات أو العلاقات، بل بناءً على العمل.

هذا المنطق العادل هو ما يحكم علاقة الله بعباده، فعند الله، لا يتحمّل أحد مسؤوليّة أحد، حتى لو كان هذا الأحد زوجه أو ولده أو من يرتبط به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.

وهو ما يريده الله لنا في التّعامل مع الناس، فلا يتحمّل أحد إلا ما قام به، وضمن حدود ما قام به، ولا تعمَّم أخطاء الآخرين على عائلاتهم ولا على طوائفهم أو مذاهبهم.

وبذلك نخلص للعدالة، ونحول دون الظّلم، ونضيق دائرة العداوات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم بما أوصانا به أمير المؤمنين (ع) عندما قال: "أوصيكم أيّها الناس بتقوى الله، وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه (إحسانه) لديكم. فكم خصَّكم بنعمة وتدارككم برحمة. وأوصيكم بذكر الموت، وإقلال الغفلة عنه. وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم! وطمعكم فيمن ليس يمهلكم، فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم حملوا إلى قبورهم غير راكبين (بغير إرادتهم)، وأنزلوا فيها غير نازلين، كأنهم لم يكونوا للدنيا عمّاراً، وكأنّ الآخرة لم تزل لهم داراً، أوحشوا (هجروا) ما كانوا يوطنون، وأوطنوا (اتخذوا وطناً) ما كانوا يوحشون، واشتغلوا بما فارقوا، وأضاعوا ما إليه انتقلوا. فسابقوا – رحمكم الله تعالى – إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها ودعيتم إليها، فإنَّ غداً من اليوم قريب، ما أسرع الساعات في اليوم! وأسرع الأيام في الشهر! وأسرع الشهور في السنين! وأسرع السنين في العمر!".

هذه وصايا أمير المؤمنين (ع). هو يريدنا أن لا ننسى الله وموقفنا بين يديه، أن نذكره حتى نفهم الدّنيا، حتى لا تخدعنا وتغرّنا بغرورها، وأن نعي مسؤوليّتنا حين يُنادَى بنا: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}. وبذلك، نصبح أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

لبنان: الواقع المأزوم

والبداية من لبنان، الّذي لايزال المشهد السياسي فيه على حاله من المراوحة منذ تأجيل موعد الاستشارات التي كانت ستجري في الأسبوع الفائت، بعد أن توقّفت المشاورات بين القوى السياسية الفاعلة، حيث لايزال كلّ فريق مصرّاً على موقفه في نوعيّة الحكومة أو من يتمثّلون فيها، من دون أن يتقدّم خطوة للّقاء مع الآخر، مستعيناً بذلك بغطاء طائفته أو مذهبه أو بعناصر القوّة الداخليّة أو الخارجيّة.

من الطّبيعيّ إن استمرَّ هذا الوضع أن يؤدّي إلى احتقان في الشّارع بكلّ ما يترتّب عليه من مخاطر، وهو بالطّبع بات ينعكس على الواقع الاقتصاديّ والنقديّ الَّذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ويعبِّر عنه ازدياد مشاهد الفقر والحاجة، وطوابير من ينتظرون على أبواب البنوك يريدون أموالهم لتسيير أعمالهم أو لسدّ حاجياتهم، وهم لا يحصلون منها إلا على الفتات، واستمرار تسريح العمّال والموظّفين من أعمالهم، أو عودة مشهد السيول التي حصلت مجدَّداً في الأيام الماضية، ويُخشى أن تتكرّر، في ظلّ عدم معالجة أسبابها، أو النقص الَّذي بدأنا نشهده في الدّواء والمستلزمات الطبيّة أو الموادّ الغذائيّة.

وما يزيد قتامة هذا الوضع، هو خفض التصنيف الائتماني للبنان ولعدد من البنوك، وما يترتَّب على ذلك من آثار سلبيّة.

إنّنا أمام هذا الواقع، نجدّد دعوتنا للقوى السياسيّة باسم كلّ المتألمين والخائفين على حاضرهم ومستقبلهم، أن كفى إهداراً للوقت ولعباً بمصير بلد يتداعى وعلى شفير الانهيار، فأنتم معنيّون بإخراجه مما يعاني من أزمات، ولا يحقّ لأيّ منكم أن يتنصل من مسؤوليّته، أو أن يستقيل منها، أو أن يحرد لأنّه لم يحصل على ما يريد. لقد تسلَّمتم مسؤوليّة هذا البلد، وعليكم أن تخرجوه من أزماته ومما يعانيه، وأنتم قادرون إن خرجتم من حساباتكم الخاصّة إلى حسابات الوطن وإنسانه.

إنَّ المرحلة ليست مرحلة تقاسم الحصص والنفوذ، أو مرحلة يسعى فيها كلّ فريق ليكون البلد على قياسه وقياس مصالحه أو أن لا يكون، بل مرحلة تعاون وتلاقٍ.

إنَّنا نأسف أن يكون في هذا العالم من يعمل على إخراج لبنان من واقعه الاقتصاديّ، ويدعو إلى الإسراع بتأليف حكومة قادرة على القيام بإصلاحات جديَّة، في الوقت الّذي لا نجد هذا الهمّ حاضراً في الكثير ممن هم في مواقع المسؤوليّة، فلا الحكومة تألفت، ولا الإصلاحات حصلت، ولو على عين هذا العالم، بل نجد استمراراً في إظهار تآكل الدّولة. وقد تجلّى هذا الأمر أخيراً في ممارسة يخشى أن تتسبَّب بإسقاط حصن من حصونها، وهو القضاء، رغم حاجته إلى إصلاح، حيث يفترض ممن يمثّل الشعب أن يكون أميناً على مؤسَّساته.

إنَّ إخراج البلد من واقعه لن يتحقَّق إلا عندما يقرّر من هم في مواقع المسؤوليّة إخراجه من حالة المراوحة التي يعانيها على صعيد الإسراع بتأليف حكومة تستجيب لمتطلّبات الناس الذين يتطلَّعون إلى دولة تلبّي احتياجاتهم، وتشعرهم بإنسانيّتهم المفقودة، وتعيد إليهم كرامتهم، وتعيد إليهم الثقة بدولة خالية من الفساد والهدر.

إنَّنا رغم كلّ تقديرنا لأيّ مساعدة من الخارج، لكنّنا ينبغي أن نعي أنَّ الخارج ليس جمعية خيرية، ولا يعطي قربةً إلى الله، وله مصالحه، وغالباً ما لا تتطابق مصالحه مع مصالحنا، ونحن نعرف أنَّ هناك في الخارج من ينتظر الفرصة حتى يسقط هذا البلد ليتمّ التحكّم بمقدّراته وثروته.

العدوّ يترصّد!

في هذا الوقت، لا بدَّ من لفت الانتباه إلى الخرق الإسرائيليّ للمياه الاقتصاديّة اللبنانيّة في البلوك "9"، حيث قامت إحدى سفن العدوّ بإجراء أبحاث لمعرفة مدى المخزون الموجود في هذه المنطقة للاستيلاء عليها أو لسرقة مخزونها، ما يستدعي استنفار جهود الجميع لمواجهته، ليشعر العدوّ بأنّه لا يستطيع التحرّك بحريّة في فترة الانقسام التي يعيشها لبنان، وبأنَّ الجميع له بالمرصاد لمواجهة أيّ عدوان على أرضه وجوّه وبحره.

ويبقى أن نتوجّه إلى القيادات الدينيّة في هذا البلد، لندعوها إلى أن تقدِّم منطقاً بديلاً من نمط الخطاب السياسيّ السّائد، وأن يكون خطابها منطلقاً من القيم التي تمثّلها، ومن روح المحبة والرحمة التي تحملها، حتى عندما تنتقد أو تبدي هواجسها أو تعطي رأيها، لتصل كلمتها إلى القلوب قبل العقول.

وفي الاتجاه نفسه، لايزال العمل مستمراً على التّطبيع مع العدوّ الصّهيونيّ من خلال التّطبيع الدّينيّ مع رموزه الدينيّة، كالذي حصل أخيراً في البحرين، أو مع رموزه السياسيّة، والذي شهدناه ولانزال نشهده في أكثر من بلد عربي، أو في إدخال مفردات التطبيع مع هذا الكيان في أكثر من منبر وموقع، ما يستدعي إدانته والعمل على مواجهته باستمرار.

الفوضى تهدِّد العراق

وإلى العراق، الَّذي تستمرّ معاناة شعبه بفعل الأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة التي دفعته إلى النزول إلى الشَّارع. ونحن في الوقت الَّذي نؤكِّد أهميَّة رفع هذا الصَّوت للمطالبة بحقوقه، لكنَّنا في الوقت نفسه، ندعو الشَّعب العراقي إلى أن يكون واعياً، لكي لا يقع في حمَّى فتنة داخليّة أو فوضى تهدِّد كيانه ومستقبله.

وندعو أيضاً القوى السياسيّة إلى الإسراع في إيجاد الحلول التي تلبّي مطالب الشعب العراقي وتخرجه من أزماته، بعدما بات واضحاً أنّ استخدام العنف وتجاهل مطالب المحتجّين سيزيد من أزمات العراق، وسيجعله في مهبّ رياح الآخرين.

 

 

Leave A Reply