المرض بلاءٌ وعذاب أم خيرٌ وثواب؟!

السيد علي فضل الله


قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. صدق الله العظيم.

قد يكون من الطبيعيّ أن ينظر الإنسان إلى المرض نظرة سلبيّة، فالمرض يحمل في طيّاته الألم والمعاناة، وقد يتسبّب بما هو أبعد من ذلك، بالموت. 

هل في المرض خير؟!

ولكنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة، أرادت أن نرى في المرض صورة أخرى، أنّ المرض وإن كان ظاهره الألم والمعاناة، إلّا أنّه يحمل في طيّاته خيراً ومنحة. فعند كلّ مرض، منح ربانيّة وهدايا وثمرات، وهي إن وعاها الإنسان، ساعدته على تخطّي الألم الذي يحصل له والمعاناة التي تنتج منه.

فقد ورد في الحديث: “المريض تحاتُّ خطاياه كما يتحاتُّ ورق الشّجر”.

وفي الحديث: “ما يصيب المؤمن من نصب (تعب) ولا وصب (وجع وألم) ولا همّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمّ، حتى الشَّوكة يشاكّها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه”.

ولننظر إلى هذا الحديث الذي يظهر مدى رحمة الله لعباده ومحبّته لهم: “إذا مرض المؤمن، أوحى الله عزّ وجلّ إلى صاحب الشّمال: لا تكتب على عبدي، ما دام في حبسي ووثاقي، ذنباً، ويوحي إلى صاحب اليمين أن اكتب لعبدي ما كنت تكتبه في صحّته من الحسنات”.

وفي الحديث: “سهرُ ليلةٍ من مرض أو وجعٍ أفضلُ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ من عبادة سنة”.

وهذا الأثر يكبر عندما يصبر الإنسان على وجعه ويكتمه عن النّاس رعايةً لمشاعرهم.. وقد بشَّر الله الصّابرين بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. 

وفي الحديث: “أربعٌ من كنوز الجنّة: كتمان الفاقة، وكتمان الصّدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الوجع”.

إيجابيّات المرض

أما الأثر الإيجابيّ الثّاني للمرض، فهو أنَّ المرض يؤدّي إلى عودة الإنسان إلى الله وإلى توثيق العلاقة به، فالكثير من النّاس تراهم بعيدين عن الله، لا يتواصلون معه، ولا يحسبون له حساباً، لكنّهم بمجرَّد ما إن يدبّ فيهم المرض، حتى تراهم يتوجّهون إليه، ويقرّرون عندها إصلاح تقصيرهم معه وإساءتهم إليه.

وإلى هذا أشار الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.

أمّا الأثر الإيجابي الثّالث للمرض، فهو أنّه ينزع من داخل الإنسان التكبّر الذي قد يكون تسلَّل إليه عند امتلاكه الصحّة. فالمرض يعيد إلى الإنسان تواضعه، ويقول له إنّك مهما علوت، فإنّ فيروساً أو جرثومةً أو مكروباً قادر على أن يقلب حياتك رأساً على عقب، فلا تغترّ بنفسك.

أمّا الأثر الإيجابي الرابع، فهو أنّ المرض يجعل الإنسان يعيد النظر في أسلوب تعامله مع صحّته التي قد يكون أهملها واستهتر بها، ولم يجعلها كما أراد الله سبحانه وتعالى من أولويّاته. لذا تراه عند المرض يعيد النظر بنظافته، وبنوعيّة طعامه وشرابه، ويتوقّى كلّ ما قد يسيء إليها.

أمّا الأثر الإيجابيّ الخامس، فهو أنّ المرض واحد من رسل الموت، فهو بمثابة إنذار للإنسان حتى يستعدّ للقاء الله، ويعيد النظر في كلّ ماضيه، حتّى لا يستمرّ في غيّه وضلاله وانحرافه.

والأثر الإيجابيّ للمرض لا يقف عند المريض، بل يتعدّى إلى عوّاده.

فقد ورد في حديث قدسي: “يا بن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا ربّ، كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّ عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده؟!”.

وفي الحديث: “إنّ عائد المريض يخوض في الرّحمة”.

وفي حديث آخر: “من عاد مريضاً، شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يرجع”.

لكنّ الحديث عن إيجابيّات المرض، لا يعني أبداً كما قد يعتقد البعض، أنّنا ندعو المؤمن إليه، فمن واجب الإنسان المؤمن أن يسعى لبلوغ العافية وأن يحافظ عليها، ولا يجوز له التفريط بها وعدم القيام بواجبه في حقها.

ولذلك، كان رسول الله (ص) يدعو: “اللّهمّ إني أسألك العفو والعافية في الدّنيا”.

وكان (ص) يقول: “سلوا الله العفو والمعافاة، فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من المعافاة”.

سنَّةٌ من سنن الله

لكنّ المرض واحد من سنن الله، لم يسلم منه بشر، ولم ينج منه أحد حتى الأنبياء والأولياء، فإن حصل، فلا بدّ أن يحوّله الإنسان إلى فرصة تجعله يهتمّ أكثر بوقاية نفسه منها.

وهذه الآثار الإيجابيّة للمرض هي الّتي دعت الإمام زين العابدين (ع) أن يحمد الله على نعمة المرض في دعائه الذي قال فيه: “اللّهمّ لك الحمد على ما لم أزل أتصرّف فيه من سلامة بدني، ولك الحمد على ما أحدثت بي من علّة في جسدي. فما أدري، يا إلهي، أيّ الحالين أحقّ بالشّكر لك، وأيّ الوقتين أولى بالحمد لك؛ أوقت الصحة التي هنّأتني فيها طيّبات رزقك، ونشّطتني بها لابتغاء مرضاتك وفضلك، وقوّيتني معها على ما وفّقتني له من طاعتك، أم وقت العلّة التي محصتني بها، والنّعم التي أتحفتني بها، تخفيفاً لما ثقل على ظهري من الخطيئات، وتطهيراً لما انغمست فيه من السيّئات، وتنبيهاً لتناول التّوبة، وتذكيراً لمحو الحوبة بقديم النّعمة؟ وفي خلال ذلك، ما كتب لي الكاتبان من زكي الأعمال، ما لا قلب فكّر فيه، ولا لسان نطق به، ولا جارحة تكلّفته، بل إفضالاً منك عليّ، وإحساناً من صنيعك إليّ. اللّهمّ فصلِّ على محمّد وآله، وحبِّب إليَّ ما رضيت لي، ويسّر لي ما أحللت بي، وطهّرني من دنس ما أسلفت، وامح عنّي شرّ ما قدّمت، وأوجدني حلاوة العافية”.

قيمة البلاء

أيّها الأحبّة: قيمة البلاء أنّه يشير إلى العناصر الإيجابيَّة الّتي يتحلّى بها المؤمن ويظهر جوهره، وإلى هذا أشار الحديث: “عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له”..

نسأل الله أن نكون من أولئك الذين لا يسقطهم البلاء، ولا يهزم إيمانهم وعلاقتهم بربهم، فيشكرونه فيكتبون من الشّاكرين، ويصبرون عند البلاء فيكتبون في لائحة الصّابرين.

والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله (ص) ابنته الزهراء (ع)، والتي نستعيد ذكرى وفاتها في الثّالث من جمادى الثّانية، حين قالت: “دخل عليَّ رسولُ الله (ص)، وقد افترشتُ فراشي للنَّوم، فقال: يا فاطمة، لا تنامي إلّا وقد عملتِ أربعة أشياء: ختمتِ القرآنَ، وجعلتِ الأنبياء شفعاءَكِ، وأرضيتِ المؤمنين عن نفسك، وحججتِ واعتمرتِ. قال هذا، وأخذ في الصّلاة، فصبرتُ حتى أتمَّ صلاتَهُ، قلتُ: يا رسول الله، أمرتَ بأربعةٍ لا أقدر عليها في هذا الحال! فتبسَّم (ص) وقال: إذا قرأتِ (قل هو الله أحد) ثلاث مرّات بعد الفاتحة، فكأنَّك ختمتِ القرآنَ، وإذا صلَّيتِ عليَّ وعلى الأنبياء قبلي، كُنّا شفعاءك يوم القيامة، وإذا استغفرتِ للمؤمنين، رضوا كلّهم عنك، وإذا قلتِ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فكأنّك حججتِ واعتمرتِ”.

هذه هي وصيَّة رسول الله (ص) للزهراء (ع)، وهي وصيّة لنا، بأن لا ننام إلا بعد أن نأتي بها، لنحظى بكرم الله وبالأجر الجزيل منه، وبذلك نعبِّر عن حقيقة ولائنا للزّهراء (ع)، حيث لا يكفي الولاء بذرف الدّموع فحسب، بل بالاقتداء والعمل بسيرتها، وهذا بعض سيرتها، وبذلك نصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

هل ينجح الإقفال؟

يدخل لبنان في تجربة جديدة من الإقفال نأمل لها النّجاح، بعدما لم يعد بالإمكان تحمّل تداعيات هذه الجائحة، ولا آثارها الكارثيّة من ناحية عدد الإصابات أو الوفيات أو على صعيد المستشفيات والطاقم الطبي.

لكنّ هذا النّجاح يتوقّف على مدى التزام المواطنين التامّ بقرار الإقفال، وتشدُّد الأجهزة الأمنيّة في إجراءات الرّقابة والسَّهر لضمان تقيّد المواطنين به.

ونحن في هذا المجال، كنّا نأمل أن لا نصل إلى هذا القرار، لمعرفتنا بتبعاته على مصالح النّاس وأعمالهم، ولا سيَّما في هذا الظّرف الاقتصاديّ الصّعب، لكن التفلت الذي حصل خلال فترة الأعياد، وتوسّع دائرة الإصابات وحجمها، بات يلحّ بضرورة الأخذ بهذا القرار والتقيّد به، حتّى لا نصل إلى كارثة صحيّة لا يستطيع هذا البلد تحمّل أعبائها. 

ومن هنا، فإنّنا نجدّد دعوتنا إلى المواطنين بضرورة التقيّد بقرار الإقفال، وبأيّ إجراءات تضمن عدم تعرّضهم للإصابة بهذا الوباء، فلا ينبغي التهاون في هذا المجال تحت أيّ ظروف، فهم معنيّون بصحتهم وصحّة من هم حولهم، وحياتهم وحياة من حولهم، ونقول لهم اصبروا أيّاماً قصيرة، لتحصلوا بعدها على راحة طويلة نريدها لكم، في الوقت الذي ندعو الدولة إلى عدم العودة إلى توسعة دائرة الاستثناءات والتشدّد في هذا المجال.

المساعدات واللّقاح!

ونبقى أن نشير، وفي ظلّ الإقفال الجاري، إلى ضرورة الأخذ بالاعتبار من يعتمدون في قوتهم على عملهم اليومي، والطبقات الفقيرة، للقيام بواجب تقديم العون إليهم. 

ونحن لذلك، ندعو الدولة والبلديات والجمعيات الأهليّة والميسورين، إلى العمل معاً لرعاية هؤلاء خلال فترة الإقفال هذه، وتوفير احتياجاتهم الضروريّة.

وهنا، ننوّه بقرار وزارة الماليّة بصرف مساعدات لدعم اللّبنانيّين الّذين يرزحون تخت خطّ الفقر المدقع، ونأمل أن تصل هذه المساعدات إلى مستحقّيها، ولا تضيع في متاهات السياسة والمصالح الفئويّة والحسابات الخاصّة كما ضاع الكثير منها. 

في هذا الوقت، ينتظر اللّبنانيّون بفارغ الصبر قيام الدّولة بكلّ ما يلزم للإسراع في الإجراءات بتأمين اللّقاح الأفضل الكافي لكلّ اللّبنانيّين، وإزالة أيّ عقبات إدارية ومالية وتشريعية تؤخّر وصوله، وعدم الاكتفاء في ذلك على مصدر واحد كما يجري، بعدما أصبح واضحاً أنّ العدد الذي يتمّ الحديث عن تأمينه لن يوفّر حاجة اللّبنانيّين منه.

وإذا كان ما يجري من تباطؤ لأنّ الدّولة غير قادرة على تأمين أعباء هذا اللّقاح، فليفتح الباب لمشاركة القطاع الخاصّ، حتى لا تكرّر تهاونها مع مواطنيها في صحتهم وحياتهم. 

جشع التجّار!

ونقف عند ما شهدته الأسواق اللّبنانيّة في الأيّام السابقة لفترة الإقفال، من استغلال جرى لحاجة المواطنين إلى الموادّ الغذائيّة والطبّية خلال فترة الإغلاق، حيث شهدنا ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار هذه السّلع تجاوز حتى ارتفاع سعر الدولار، ونخشى أن يحصل ذلك خلال هذه الفترة، ما يستدعي من وزارة الاقتصاد تعزيز رقابتها، ومن التجّار مزيداً من الإنسانيّة، بعيداً من استغلال معاناة النّاس وحاجتهم إليهم.

أوقفوا خطاب الطّائفيّة

ونبقى على الصّعيد السياسي الذي شهد في الأسبوع الماضي ارتفاعاً في السجالات، والتي وصلت في الأيام السابقة إلى حدّ غير مسبوق، وحتى غير لائق، بحيث بات معها تأليف الحكومة التي يريدها اللّبنانيون لتخرجهم من هذا النفق المظلم، أمراً أكثر تعقيداً وصعوبة!! وبات الحديث عن أزمة حكم لا أزمة حكومة.

ونحن أمام هذا الواقع، نجدّد دعوتنا القوى السياسيّة إلى الرأفة بهذا البلد وإنسانه الّذي تزداد معاناته يوماً بعد يوم، والخروج من حساباتها الخاصّة ومصالحها وصراعاتها، والإسراع في أداء مسؤوليّتها التي عهدت إليها بتأليف حكومة قادرة على إخراج البلد من معاناته. في الوقت الّذي نجدّد دعوتنا للّبنانيّين بالخروج عن صمتهم وسكوتهم لمواجهة حالة الاستهتار بهم، والذي أغرى هؤلاء بالتّمادي في إدارة الظّهر لمصلحة هذا الوطن ومصلحة إنسانه، بعدما اطمأنّ هؤلاء إلى أن الناس استكانوا ووهنوا، وعادوا إلى قواعدهم الطائفية والمذهبية، ولذلك عادوا إلى النّغمة القديمة ــ الجديدة، بأننا لن نرضى باستهداف هذه الطائفة أو تلك، أو الاستهانة بهذا المذهب أو ذاك،  في الوقت الذي هم بعيدون كلّ البعد عن مصالح طوائفهم ومذاهبهم.

إنَّ على اللّبنانيِّين أن يكونوا واعين تماماً، وأن لا يسمحوا لهؤلاء بأن يتلاعبوا مجدَّداً بغرائزهم المذهبيّة والطائفيّة، التي لن تكون لحسابهم هذه المرة، بل على حسابهم، وأن لا يلدغوا من جحر لدغوا منه مراراً، وأن لا يجرّبوا ما جرّبوه لسنوات مما أوصل البلد إلى ما وصل إليه.

العدوّ يخترق الأجواء

وأخيراً، لا بدّ من الوقوف جميعاً أمام تصعيد العدوّ المتكرّر في خروقاته للأجواء اللبنانيّة، واعتداءاته المستمرّة على السيادة اللبنانية، والتي تتلازم مع التصعيد الجاري في سوريا، والذي نخشى أن يعمّ المنطقة.

إنّ على اللّبنانيّين التنبّه إلى ما وراء هذا التّصعيد، وإلى مواجهته بالوحدة، فالعدوّ يغريه هذا الانقسام، ويستفيد منه للقيام بأيّ مغامرة يسعى إليها.

فالوحدة الداخليّة بكلّ عناصرها المدعومة بالقوّة، كانت وستبقى السلاح الأمضى في مواجهة هذا العدوّ الّذي لا يفهم إلا بهذه اللّغة.