الوضوءُ عبادةٌ لا تكتملُ إلَّا ببعديْها المادّيِّ والرّوحيّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة: 6]. صدق الله العظيم.

أهميّة الوضوء

من أهمِّ العبادات التي شرَّعها الله سبحانه وتعالى لعباده، والتي يغفل الكثير من الناس عن أهميتها، الوضوء.

ويكفي لتبيان هذه الأهميّة، أن الله سبحانه وتعالى جعل الوضوء شرطاً للوقوف بين يديه والصلاة، فبدونه لا يتحقَّق ذلك الوقوف، ولا تصحّ الصلاة، فلا صلاة بلا طهور، كما ورد في الحديث، وهو شرط في الطواف حول الكعبة المشرَّفة، فلا يمكن الطواف حولها وأداء فريضة الحجّ والعمرة من دونه. وكذلك، لا يمكن دون الوضوء مسّ آيات القرآن الكريم، فقد أشار القرآن الكريم إلى أنّه لا يمسّه إلَّا المتطهّرون. وأبعد من ذلك، فالوضوء يعتبر عبادة مستقلّة، وهذا ما أشارت إليه الآيات والأحاديث الَّتي دعت الإنسان إلى أن يكون دائماً على وضوء، واعتبرت أداءه باباً لبلوغ محبَّة الله ومغفرته ورضوانه.

وهذا ما ورد في قوله سبحانه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222]. ويراد بذلك من يكونون على وضوء دائماً.

وفي الحديث: "إذا توضَّأ الرَّجل المسلم (أو المرأة المسلمة) خرجت خطاياه من سمعه وبصره ويديه ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له". وفي الحديث: "إذا توضَّأ العبد، تحاط عنه ذنوبه كما تحاط ورق هذه الشَّجرة". وفي الحديث: "أكثر من الطهور (ويقصد الوضوء) يزد الله في عمرك، وإن استطعت أن تكون باللّيل والنّهار على طهارة فافعل، فإنَّك تكون إذا متّ على الطَّهارة متّ شهيداً".

ويضاف إلى ذلك النظافة التي تحصل من وراء الوضوء، والتي أشارت الأحاديث إلى مدى أهميتها: "إنَّ الله نظيف يحبّ النظافة". وفي الحديث: "تَنَظَّفُوا بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّ اللهَ تعالى بَنَى الإِسْلَامَ عَلَى النَّظَافَةِ، وَلَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَظِيفٍ".

البعدان الماديّ والرّوحيّ

والوضوء له بعدان؛ بعد مادي، وهو الذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى، عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، حيث دعا الله سبحانه في هذه الآية من يريد الصَّلاة إلى غسل تمام وجهه من الأعلى إلى الأسفل، وإلى غسل يديه اليمنى واليسرى.

ثم قال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} في إشارة إلى مسح الرأس. والباء هنا للإشارة إلى أنه يكفي بعض الرأس، وهو مقدّمه، {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، في إشارة إلى مسح القدمين.

هذا هو البعد المادي، لكن هذا غير كاف حتى يتحقَّق بذلك هدف الوضوء، فلا بدّ حتى يحصل ذلك من البعد الروحي والإيماني والتربوي منه. فقد ورد استحباب أن يتوجه الإنسان إلى القبلة حين الوضوء، بكلِّ ما تعنيه القبلة التي تمثِّل رمزاً للتسليم لله والانصياع له وحده وللوحدة بين المسلمين. وعند النظر إلى الماء، أن يقول: "الحمد الله الَّذي جعل الماء طهوراً ولم يجعله نجساً".

وعند غسل الكفَّين الذي يأتي قبل البدء بأعمال الوضوء: "اللّهمَّ اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهّرين".

وعند غسل الوجه: "اللَّهمَّ بيِّض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه، ولا تسوِّد وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه"، أي يوم القيامة، وهو اليوم الذي تبيضّ فيه وجوه وتسودّ فيه وجوه.

وعند غسل اليد اليمنى: "اللَّهمَّ أعطني كتابي بيميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حساباً يسيراً"، حيث ورد في كتاب الله عن يوم القيامة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ… فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}[الحاقة: الآية 19 والآية 21].

وعند غسل اليد اليسرى: "اللَّهمَّ لا تعطني كتابي بشمالي، ولا تجعلها مغلولةً إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النّيران".

وعند مسح الرأس يستحبّ القول: "اللَّهمَّ غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك".

وعند مسح القدمين: "اللَّهمَّ ثبّتني على الصِّراط يوم تزلّ الأقدام، واجعل سعيي فيما يرضيك عني".

بعد ذلك، يستحبّ قراءة سورة القدر والقول: "اللّهمَّ إني أسألك تمام الوضوء، وتمام الصَّلاة، وتمام رضوانك والجنَّة، والحمد لله ربِّ العالمين".

الانشغال بمعاني الوضوء

إذاً، من خلال كلِّ ذلك، ندرك أنَّ المطلوب في خلال الوضوء أن لا يكتفي الإنسان بأداء واجبات الوضوء، بل أن يكون إلى جانب كلّ ذلك مشغولاً بكلِّ هذه المعاني الذي تذكِّره بالله وحمده والثَّناء عليه، وكيف يحقِّق الأمان عندما يقف يوم القيامة، يوم تهتزّ الأقدام وترجف القلوب، وتأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها، ولا ينجو هنا إلَّا عمل مع رحمة، كما قال رسول الله(ص).

وقد أشار الإمام الرّضا (ع) في حديثه إلى أهداف أخرى أريدت من الوضوء، عندما قال: "إنَّما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبَّار، وعند مناجاته إيَّاه مطيعاً له فيما أمره، نقيَّاً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار".

وتبقى مسألة لا بدَّ من الحرص عليها عند الحديث عن الوضوء، وهي عدم الإسراف بالماء. وقد ورد في ذلك أنَّ رسول الله (ص) مرَّ على رجل يتوضَّأ، وكان يسرف في استعمال الماء، فقال له رسول الله (ص): "لا تسرف ولو كنت على نهر جار".

أيُّها الأحبَّة: إنَّنا أحوج ما نكون إلى إعطاء هذه الفريضة بعدها الروحي والإيماني، حتى لا تتحوَّل إلى عبادة نكتفي فيها بغسل وجوهنا وأيدينا، ونمسح على رؤوسنا وأقدامنا، وينتهي كل شيء من دون أن ينعكس ذلك على القلب والمشاعر وعلى سلوكنا ومواقفنا. ولذلك، نحن مدعوّون إلى الأخذ بهذه الأذكار وحفظها والدَّعوة إليها، حتى نكون من أولئك التوَّابين والمتطهّرين، ونحظى بما وُعِد به المتوضّئون من محبَّة الله وبلوغ رضوانه؛ إنه سميع مجيب الدّعاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله الصَّحابي الجليل أبا ذرّ، عندما قال له: "يا أبا ذرّ، من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر. قلت: وما الثّلاث، فداك أبي وأمّي؟ قال: ورع يحجزه عمَّا حرَّم الله عزّ وجلّ عليه، وحلم يردّ به جهل السّفهاء، وخلق يداري به النَّاس. يا أبا ذرّ، إن سرَّك أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ، وإن سرَّك أن تكون أكرم النَّاس فاتّق الله، وإن سرَّك أن تكون أغنى الناس، فكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منك بما في يدك. يا أبا ذرّ، لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. يا أبا ذرّ، يقول الله جلَّ ثناؤه: وعزتي وجلالي، لا يؤثر عبدي هواي على هواه إلَّا جعلت غناه في نفسه، وهمومه في آخرته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكففت عنه ضيقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر".

أيُّها الأحبَّة: إنَّنا أحوج ما نكون إلى أن نستهدي بهذه الكلمات لتعيننا في هذه الحياة، ولتجعلنا أكثر وعياً ومسؤوليَّة وقدرة على مواجهة التحديات.

لبنان في انتظار الفراغ

والبداية من لبنان الَّذي بات على بعد أيام من مرحلة نخشى مع كلّ اللبنانيين من تبعاتها، بعدما أصبح واضحاً بما لا يقبل الشّكّ أن المرحلة القادمة هي مرحلة الشغور الذي سيحصل في موقع رئاسة الجمهورية، بعدما لم يقم المجلس النيابي بالمسؤوليَّة الملقاة على عاتقه بانتخاب رئيس للجمهوريَّة، فيما بقي تشكيل الحكومة أسير الشّروط والشّروط المضادَّة، ورهينة المصالح المتعارضة والحسابات الضيقة.

ومن المحزن أن يجري كلّ ذلك فيما البلد يمرّ بمرحلة هي من أصعب المراحل، والتردي الذي يعانيه اللبنانيون على الصعيد المعيشي والحياتي، والّتي لم تعد تقف تداعياته عند عدم قدرتهم على تأمين احتياجاتهم، بل زاد في تفاقمها انتشار الأوبئة والأمراض، وآخرها الكوليرا، الذي بات يحصد أعداداً متزايدة من الأرواح، فضلاً عن التردّي الحاصل على الصعيد الأمني والاجتماعي، وانكفاء العالم المشغول بأزماته عن هذا البلد.

إننا أمام هذا الواقع، نعيد دعوتنا القوى السياسية إلى تحمّل مسؤوليتها، والاستفادة من الأيام القليلة المتبقّية والثمينة، لتأليف حكومة تحظى بثقة المجلس النيابي الحالي، قادرة على إدارة شؤون البلد، وتجنب الجدل السياسي والدستوري الذي لن ينتهي حول شرعيَّة حكومة تصريف الأعمال بصيغتها الراهنة.

في الوقت نفسه، لا بدّ من إبقاء السعي لانتخاب رئيس للجمهوريَّة، وعدم ترك البلد أسير الفراغ بكل تداعياته لمدة طويلة.

ونحن على هذا الصعيد، نرحّب بأيِّ دعوة للحوار، وندعو الجميع إلى تلقّفها، وأن يكون لديهم كل الاستعداد للتنازل عن حساباتهم الخاصَّة ومصالحهم الفئوية لحساب استقرار هذا البلد وبقائه، إذ لا يمكن أن يُبنى بلد إذا بقي كلّ يقف في موقعه ولا يريد أن يتقدم خطوة نحو الآخرين، فالبلد بني على التوافق البناء، والذي أقيمت عليه دعائمه، ولا يُصان إلا بهذا التوافق.

التَّرسيمُ أملٌ للّبنانيّين

ونبقى على صعيد الترسيم للحدود البحريَّة مع الكيان الصهيوني الذي بات الجميع يرى فيه باب أمل في هذا البلد، وبالتالي، فإننا نعيد تأكيد أهمية تحقيق هذه الخطوة، ونقدِّر كل جهد بذل في هذا السَّبيل، لمدى حاجة اللبنانيين الملحة إلى الاستفادة من ثروتهم. ولكنَّ هذه الخطوة تبقى ناقصة ولا تؤدي الهدف المرجوّ منها، إن لم يتمّ الإسراع باستثمارها والاستفادة منها عبر تأمين كلّ الظروف التي تضمن البدء بالحفر، وإزالة أيّ عوائق قد تقف أمام ذلك، خشية أن يستأثر العدوّ الصهيوني بها، وأن يكون هو الرابح من وراء ذلك، وهو من بدأ بالاستخراج، وفي الوقت نفسه، تأمين الاستقرار السياسي والإصلاحات الكفيلة التي تضمن عدم ضياع الثَّروة كما ضاعت كلّ ثروات البلد.

ونحن في هذا المجال، نعيد تأكيد عدم إعطاء هذه الخطوة أبعاداً تزيد عما هي عليه، فهي لن تكون باباً للتطبيع أو إنهاءً للصِّراع مع العدوّ الصهيوني الذي يبقى الصِّراع معه مفتوحاً ما دام يحتلّ جزءاً من الأرض اللبنانية، ولا يزال يتهدَّد بره وبحره وجوَّه.

جريمةُ داعش في إيران

أما في إيران، فتستمرّ المحاولات الحثيثة لخلق التوترات في هذا البلد والفوضى فيه، والذي تمثَّل بأبشع صورة في مشهد الجريمة التي قامت بها داعش، واستهدفت أحد المراقد الدينيَّة لأحد أولاد الإمام موسى الكاظم (ع)، وأدت إلى استشهاد وإصابة العشرات من الزائرين لهذا المرقد الشَّريف.

ونحن في هذا المجال، وفي الوقت الذي ندين هذ الاعتداء الإجرامي، ندعو الشعب الإيراني إلى الوقوف صفاً واحداً في مواجهة كلّ المؤامرات التي تستهدف ضرب أمنه واستقراره.

وفي الوقت نفسه، ندعو إلى موقف حاسم وصوت واحد من المرجعيات الدينية والفعاليات الثقافية والفكرية كافة، على مختلف اتجاهاتها المذهبية، والحريصة على صورة الإسلام والمسلمين، يدين هذه الفئة الضالَّة التي لا تراعي في إجرامها حرمةً للمساجد والمعابد وإزهاق النفوس البريئة، ومع الأسف، يحدث كل ذلك باسم الإسلام، هذا الدّين الممتلئ رحمة وسلاماً، والذي لا يمتّ إلى مثل هذه الأعمال بصلة.

الحكومةُ الجديدةُ في العراق

وعلى صعيد العراق، فإنَّنا نهنِّئ الشَّعب العراقي بالخطوة التي حصلت بتأليف الحكومة ونيلها الثقة، والتي نأمل أن تكون على مستوى طموحات العراقيين التوَّاقين إلى حكومة تخرجهم من واقعهم المرير والصعب وباباً لوحدتهم.

أولويّةُ دعمِ الشَّعبِ الفلسطينيّ

أمَّا في فلسطين، حيث يستمر الشعب الفلسطيني بتقديم التضحيات وأغلى الأثمان في مواجهة العدوّ الصهيوني، وهو يثبت، رغم كلّ عمليات الاغتيال والاعتقال والاقتحامات المتكرّرة في الضفة الغربية والقدس، عن مدى عزيمته وإرادته لاستعادة وطنه وحماية مقدَّساته من رجس الاحتلال.

ونحن هنا نأمل من القمَّة العربيَّة التي تنعقد في الجزائر في الأيام القادمة، أن تجعل من أولوياتها دعم الشعب الفلسطيني، وتوحيد الجهود العربية في مواجهة العدوّ الصهيوني واعتداءاته الَّتي تستهدف هذا الشعب، وحيث يستمرّ في الاعتداء على بلد عربي عزيز، وهو سوريا.

التّعاونُ لمواجهة الكولير

وأخيراً، فإننا ندعو إلى بذل كلّ الجهود من قبل وزارة الصحة والوزارات المعنيَّة والبلديات لمواجهة وباء الكوليرا، واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة التي تمنع من استفحاله. وهنا نقدّر كلَّ الجهود التي بذلت على صعيد الوقاية أو توفير فرص العلاج، ونأمل أن تتضافر هذه الجهود، وأن يتمَّ التعاون بين الجميع رغم الظروف الصَّعبة التي يعانيها الوطن، في الوقت الَّذي ندعو المواطنين إلى اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر والوقاية لدفع هذا الوباء الخطير عنهم.