تسبيحة الزّهراء (ع): اطمئنان روحيّ وسبيل لذكر الله

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. صدق الله العظيم.

مرَّت علينا في الثّالث من شهر جمادى الثاني، ذكرى وفاة الصدّيقة الطَّاهرة فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين، وذلك بناءً على الرِّواية التي ترى أنَّ وفاتها حصلت بعد وفاة رسول الله(ص) بخمسة وتسعين يوماً.

هذه الذِّكرى الأليمة الّتي فجعت قلب عليّ وزينب والحسن والحسين وأمّ كلثوم (ع) وكلّ المحبين والموالين لأهل هذا البيت الطاهر، وجدَّدت فيهم حزنهم على رسول الله (ص)، والّذي برز أكثر ما برز في تأبين أمير المؤمنين (ع) لها: "قلَّ، يا رسول الله، عن صفيّتك صبري، ورَقَّ عنها تجلُّدي، إلّا أنَّ في التأسّي لي بعظيم فُرقتك، وفادح مصيبتك، موضع تعزٍّ… فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرَّهينةُ! أمَّا حزني فسرمَدٌ، وأمَّا ليلي فمُسهَّدٌ، إلى أن يختارَ الله لي دارك الّتي أنت بها مقيم.. وستنبئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفّها السؤال، واستخبرها الحال… وإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء".

تسبيحة الزّهراء (ع)

ونحن اليوم، عندما نستعيد هذه الذكرى، نريد أن نستلهم بعض ما ورد من سيرتها (سلام الله عليها)، لنقتدي بها، وهذا ما تريده الزهراء (ع) منا، تريد أن تكون حياتنا أطهر وأصفى وأنقى كطهرها ونقائها وصفائها. حيث ذكر أنها جاءت يوماً إلى بيت أبيها رسول الله (ص) لتطلب منه خادمةً تعينها على أعباء المنزل وثقل المسؤوليَّات الملقاة على عاتقها فيه، إضافةً إلى مسؤوليّاتها في الحياة العامّة وحمل هموم النّاس، لكنّها وجدت عنده جمعاً من النّاس، فلم تشأ أن تشغله عنهم، فما إن انتهى رسول الله (ص) من الوافدين إليه، حتى اتى إلى بيت فاطمة ليستعلم حاجتها، وعندما علم حاجتها من عليّ (ع)، دمعت عينا رسول الله (ص) لما آل إليه حال ابنته الزّهراء من التّعب وثقل الأعباء.

ولم يكن رسول الله (ص) ليبخل على ابنته الزَّهراء (ع)؛ بضعته وروحه الّتي بين جنبيه، بخادمة توفِّر لها بعضاً من راحة هي أحوج ما تكون إليها، ولكنَّه أراد لابنته أمراً آخر، لذا قال لها ولعليٍّ (ع)، باعتبار أنّهما كانا يتشاركان في حمل مسؤوليّة البيت: "أفلا أعلّمكما ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما، فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعاً وثلاثين". قالت فاطمة (ع): "رضيت عن الله وعن رسوله"، وقال عليّ (ع) مثل ذلك، وأصبحت هذه التّسبيحة على لسانهما، يردِّدانها عند كلّ منام، وبعد كلّ صلاة، يتزوّدان منها بطاقة روحيّة إيمانيّة ساعدتهما على أداء ما كانا يتحمّلانه من مسؤوليّة.

لقد كرَّم رسول الله (ص) ابنته السيِّدة الزّهراء (ع)، عندما اقترنت التَّسبيحة باسمها، فسمِّيت "تسبيحة الزَّهراء"، والتي أشارت الأحاديث إلى أهميّتها، والأثر الّذي تتركه على كلّ من يقرأها ويأتي بها.

فقد ورد عن الإمام الصَّادق (ع): "ما عُبدَ الله بشيءٍ من التَّحميد بعد الصَّلاة أفضل من تسبيح فاطمة، ولو كان شيء أفضل منه، لنحله رسول الله (ص) إلى فاطمة (ع)".

وفي حديثٍ آخر عن أحد أصحابه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "تسبيح فاطمة الزّهراء (ع) في دبر كلِّ صلاة، أحبُّ إليَّ من صلاة ألف ركعة في كلّ يوم"، يعني لو خيِّر الإمام (ع) بين صلاة ألف ركعة وبين تسبيحة الزّهراء (ع)، لفضَّل تسبيحة الزّهراء، وهذا لعظيم شأنها.

لكن كلّ هذه الآثار التي تتركها هذه التّسبيحة، مرهونة ككلّ العبادات والأذكار، بمدى تفاعل القلب معها، فلا يكفي الإنسان حتى يحظى بالثَّواب، أن يحرّك لسانه بها، بل لا بدَّ من أن يعيش معانيها، وأن تترك أثرها في حياته، ولذلك ورد في آداب هذا التَّسبيح، أنه لا بدَّ فيه من التوجّه إلى الله والخشوع، لأنه بدون الخشوع، يصبح التسبيح لقلقة لسان ولا يستفيد الإنسان منه، والله لا يريد لمن يذكره أن يذكره بلسانه، بل بقلبه. وحتى يؤدّي هذا الذّكر دوره، لا بدَّ من أن يؤدَّى كاملاً غير منقوص. لذا، ورد عن الإمام الصَّادق (ع): "إذا شككت في تسبيح فاطمة الزَّهراء فأعده"، أي عد واذكر ما شككت في إتيانه، حتى تتأكَّد من اكتمال العدد.

فوائد التّسبيح

أمَّا الفوائد الروحيّة والمعنويّة والتربويّة الّتي تحصل من هذه التّسبيحة، فأوّلها هي تلك التي تترتّب على ذكر الله عزّ وجلّ. فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ليس عمل أحبّ إلى الله تعالى ولا أنجى لعبد من كلّ سيّئة في الدنيا والآخرة من ذكر الله". ولا القتال في سبيل الله؟ قال: "لولا ذكر الله لم يؤمر بالقتال".

وقد ورد: "ذكر الله لذّة المحبّين"، "ذكر الله مجالسة المحبوب"، "ذكر الله قوت النفوس"، "ذكر الله مطردة الشيطان"…

وفي الدعاء نقرأ: "يا من اسمه دواء، وذكره شفاء".

وقد وعد الله سبحانه بأنه لن ينسى من فضله وعطائه الذّاكرين له، فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.

وقد ورد عن الإمام الصَّادق (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: "يا أبا هارون، إنَّا لنأمر صبياننا بتسبيح فاطمة(ع) كما نأمرهم بالصّلاة". وفي هذا إشارة واضحة إلى أهميّة التربية على الصّلاة. وهنا نسأل: كم منّا يهتمّ بإيصاء أولاده بهذه التّسبيحة؟. ثم يقول الإمام (ع): "فالزمه، فإنّه ما لزمه عبد فشقي".

فالإتيان بتسبيحة الزّهراء (ع)، يعزّز الاطمئنان في القلوب ويعمّقه في النّفوس، فقال عزّ من قائل: {أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فيما الشَّقاء ينتج من الإعراض عن ذكره وعدم الانصياع لإرادته، كما ورد في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}.

آثار تسبيحة الزّهراء

ومن الآثار التي وردت في الحديث عن تسبيح الزَّهراء (ع): "من سبَّح تسبيح فاطمة الزّهراء (ع)، فقد ذكر الله الذِّكر الكثير".

والذّكر الكثير هو ما حثَّ الله سبحانه وتعالى عليه، عندما تحدَّث عن أولي الألباب، قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "مَنْ أكثرَ ذكر الله عزَّ وجلَّ، أحبَّه الله، ومن ذكرَ الله كثيراً، كُتِبَتْ له براءتان؛ براء‌ة من النّار، وبراء‌ة من النِّفاق".

أمَّا لماذا عدّت تسبيحة الزَّهراء من الذِّكر الكثير، فهذا يعود إلى أنَّ عدد أذكارها كثيرة، وخصوصاً إذا تكرَّرت بعد كلِّ صلاة، وقبل النّوم، وفي أيّ مواقع أخرى.

معاني التّسبيح

ومن أهمّ ما يعزّز أهمية هذه التسبيحة، المعاني التي تشير إليها، والتي لها أثر في بناء الإنسان الرّوحيّ والتّربوي. فالتّكبير الذي تعبِّر عنه كلمة "الله أكبر"، هو إعلان من الإنسان بأنَّ الله لا يدانيه أحد في القوّة ولا في القدرة ولا في الرِّزق ولا في التَّدبير ولا في الخلق ولا في الإبداع، وهذا ما يدعو الإنسان إلى أن تكون وجهته إليه لا إلى أحد غيره.

و"الحمد لله" إعلانٌ من الإنسان بأنَّ الله هو مصدر النعم والعطاء، وأنَّ كلَّ ما عندنا هو منه، ولذلك هو أحقّ بالشّكر والتّقدير من أيّ أحد. وقد كان عليّ (ع) يقول: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ، وَلَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ".

وأمّا التّسبيح بالقول "سبحان الله"، فهو إعلان من الإنسان بكمال الله، وأنّه منزَّه عن كلّ نقص وعيب ووهن وضعف، وأنّه عندما يستند إليه، فهو يستند إلى ركنٍ وثيق، وهذا يشعر الإنسان بالأمل والاطمئنان والثّقة.

كيف نخلص للزّهراء؟

هذا غيضٌ من فيض الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزَّهراء علينا، وإخلاصنا لها لن يكون إلّا من خلال الالتزام بما التزمت به، والعمل بما عملت به وبما ترتَّب عليه. لقد أخلصت الزَّهراء (ع) لله، أحبّته وأكثرت من ذكره وشكره والثَّناء عليه في تسبيحها وعبادتها الّتي بلغت بها أن عبدته حتى تورَّمت قدماها، وأخلصت له عندما نصرت دينه ورسالته، وكانت في خدمة عياله، والوفاء الحقيقيّ هو أن نخلص كما أخلصت.

نسأل الله أن يوفِّقنا لذلك، والسَّلام عليها يوم ولدت، ويوم انتقلت إلى رحاب ربّها، ويوم تُبعَث حيّة.

 

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

ومن الطَّبيعيّ أن نواجه التحدّيات والمشاكل والصّعاب في الحياة، فهي لن تكون بالنّسبة إلينا ربيعاً زاهراً. وقد حدَّثنا الله عن ذلك عندما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.

لقد أرادنا الله أن نواجه هذه المشاكل والصّعاب بالاستناد إلى سند داخليّ، هو الصّبر والثّبات أمام الصعوبات، وعدم الاستسلام للأمر الواقع والظروف الصّعبة، وإلى سند آخر هو التوجّه إلى الله والوقوف بين يديه للصّلاة، فالصّلاة تحقّق الارتباط بالله، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات، وتشعر الإنسان بالأمان. ولذلك، كان عليّ (ع)، وهو تلميذ رسول الله (ص)، إذا هاله أمر قام إلى الصّلاة.

إنَّنا أحوج ما نكون في ظلِّ التوتّرات التي تعصف بنا إلى استلهام هذين الأمرين، لنقوى ونشتدّ ونصبح أكثر قدرة على مواجهة التحدّيات.

صفقة القرن!

والبداية من فلسطين، الّتي تواجه مرحلة هي الأخطر في تاريخها، بعد إعلان الرئيس الأميركي، ومعه رئيس وزراء العدو الصّهيونيّ، وبحضور عددٍ من سفراء الدول العربيّة، ما سُمِّي بصفقة القرن.

ولم يكن هذا الإعلان مفاجئاً، فقد انطلق مصطلح "صفقة القرن" منذ تولي الرئيس الأميركي مسؤوليّته، وجاء تتويجاً لخطوات أقدم عليها بإعلانه يهوديّة فلسطين، وأنَّ القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وبنقل السفارة الأميركيّة إليها، وإقامة مؤتمر في البحرين في حزيران الماضي بحث الشقّ الاقتصادي لهذه الصفقة والاعتراف بالمستوطنات.

وقد جاء هذا الإعلان، ومن خلال بنوده، ليظهر، وبكلّ وضوح، الهدف من هذه الصّفقة، وهو تمرير الفصل الأخير من فصول إنهاء القضيّة الفلسطينيّة، فقد جاء ليدعو الفلسطينيّين إلى التنازل عن كلّ التراب الفلسطينيّ وعن القدس، وإلى إضفاء الصفة القانونيّة والشّرعيّة على كيان العدوّ مقابل تقديمات مالية من جيوب المانحين، على أن يُعطى الفلسطينيون دولةً لا يمتلكون فيها أدنى مقوّمات السيادة، ولا تستجيب لطموحات هذا الشعب، وهو من قدَّم الغالي والنّفيس من أجل حريّته وحقّه في العيش الكريم.

إنّ الدّولة الَّتي تُقدَّم لهم هي دولة مقطَّعة الأوصال، تشكّل مساحة ضئيلة من الأراضي الّتي احتلّت في العام 1967، بعد أن أُخذ منها غور الأردن والمستوطنات الَّتي بنيت في الضفة الغربية، من دون الحديث عن احتلال القسم الأكبر من فلسطين في العام 1948، والَّذي بقي خارج دائرة أيّ تفاوض. هي دولة لا تملك حقّ الدّفاع عن نفسها، فهي دولة منزوعة السلاح، على أن لا يسمح بعودة اللاجئين إليها، فعليهم أن يبقوا في البلدان الّتي احتضنتهم، وأن تكون عاصمتهم خارج القدس، فالقدس، بناءً على الإعلان، هي عاصمة موحّدة للكيان الصّهيونيّ، وله كامل السّيادة عليها.

ولزيادة الضّغط النّفسيّ على الجانب الفلسطينيّ، اعتُبر هذا الإعلان الفرصة الأخيرة له، وأنّ الإدارة الأميركية لن تدخل بعده في أية فرصة سلام.

لقد جاء هذا الإعلان ليؤكّد مجدداً مدى التطابق بين الإدارة الأميركية ومصلحة الكيان الصهيوني، فهو يلبّي احتياجات هذا الكيان إلى الأمن والاستقرار في الداخل، ليفتح أبواب السّلام له مع العالم العربيّ، حتى يدخل في نسيجه، وليشارك في الخطط التي ترسمها الإدارة الأميركيّة، الهادفة إلى العبث بهذه المنطقة ومواصلة استنزافها.

وهو في ذلك استفاد من حالة الانقسام الّتي تشهدها الساحة الفلسطينيّة، والتمزّق الّذي يعيشه العالم العربي والإسلامي الغارق في همومه، والصّراعات الّتي تعصف بدوله ومكوّناته، والرغبة التي يبديها العديد من الدول العربية بالتطبيع مع هذا الكيان والتخفّف من أعباء القضية الفلسطينيّة.

كيف نعدّ للمواجهة؟!

ونحن أمام هذا الإعلان، ندين ما جرى، ونرى أنه يمسّ بإنسانيتنا وديننا وقيمنا وتاريخنا وتراثنا، ويهدّد مستقبلنا العربي والإسلاميّ، ونحن ننوّه بوحدة الشعب الفلسطيني وتلاحمه في مواجهة هذه الصفقة، وندعو إلى تدعيم هذه الوحدة والثبات عليها، وعدم الرضوخ أمام كلّ التهويلات السّاعية إلى هزها والنيل منها، والإعداد لمواجهة الأعباء والضّغوط التي ستترتّب على هذه الصفقة.

ونحن نرى أنَّ من الطّبيعيّ أن يواجه الشّعب الفلسطينيّ بمثل هذه الضّغوط، التي نعتقد أنه سيكون قادراً على تجاوزها، كما تجاوز الكثير من الضّغوط التي واجهته في السابق.

وفي الوقت نفسه، نتوجَّه إلى الشعوب العربية والإسلامية، وإلى كلّ الشعوب المحبّة للحرية والعدالة وحقوق الإنسان، للوقوف مع هذا الشعب وإسناده وتعزيز عناصر القوة لديه.

إننا لا نريد للمشاعر التي انطلقت، والتي عبّرت عن رفض صفقة القرن، أن تنتهي وتتلاشى، بل أن تتجذَّر لتتحوّل إلى خطّة مدروسة وحكيمة لكيفيّة التعامل مع هذه المرحلة.

ونقول في الوقت نفسه لكلّ القيادات الرسميّة في العالم العربيّ والإسلاميّ، وخصوصاً أولئك الَّذين يستعجلون تقديم التنازلات: لقد جرّبتم كلّ أنواع التنازلات، وها هو العدوّ يدعوكم إلى المزيد، وسيدعوكم إلى ما هو أكثر. أوقفوا هذه التنازلات، وجرّبوا لمرة واحدة أن تقفوا موقف الرّافض للإذلال والقهر، وأن تطلقوا كلمة لا في مواجهته، أو أن تذيقوه ما يخشاه من بأسكم الَّذي سيضطرّه إلى الرضوخ في نهاية المطاف، فأنتم لستم ضعفاء إن أحسنتم استخدام مواقع قوّتكم وتوحّدت جهودكم.

سنبقى نثق بقدرة الشّعب الفلسطينيّ وبما لديه من عمق عربي وإسلامي، وبما يمتلكه من حقّ ومشروعيّة إسلاميّة وإنسانيّة ترسّخه وتثبته القوانين الدوليّة، لإسقاط كلّ المخطّطات التي تستهدف تصفية حقوقه وإنهاء قضيته.

لبنان: رفض التَّوطين

وبالانتقال إلى لبنان، الَّذي عليه أن يعدّ نفسه لمواجهة تداعيات ما سيجري بعد الإعلان عن صفقة القرن، بعد هذا الإجماع على مخاطرها، والإعلان عن رفض التوطين الّذي يمثل أحد أهداف هذه الصّفقة، وندعو الجميع إلى مزيدٍ من العمل لتثبيت الأرض، حتى يكون البلد قادراً على مواجهة التحدّيات.

ومن هنا، ندعو الحكومة إلى أن تستعجل الخطى في البيان الوزاري الّذي لا بدَّ أن يركِّز على رسم خريطة طريق لمواجهة الوضعين الماليّ والاقتصاديّ، من خلال رؤية واضحة ترسو على قواعد علميّة وجدّية، وأن يلمس المواطنون أنَّ ثمة إنجازات تحقَّقت في الفترة القريبة، من شأنها أن تزرع نوعاً من الثقة والأمل في النفوس التوَّاقة إلى رؤية بدايات حلول الأزمة.

ولا شكَّ في أنَّ هذا يتطلّب خريطة طريق مغايرة للعقليّة الماليّة والاقتصاديّة التي أنتجت هذا الانهيار الذي نعيش في هذه الأيّام تداعياته الخطيرة، كما يتطلَّب أن يحمل البيان الوزاري إشارات واضحة فيما يتعلَّق باستقلاليَّة القضاء، كعنوان أساس يؤكّد جديّة الحكومة في الإصلاح ومكافحة الفساد.

 

Leave A Reply