ثورة التوابين

السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}. صدق الله العظيم.

في أجواء ثورة الإمام الحسين(ع) وارتداداتها.. اليوم سنتوقف عند محطة من آثارها، وهي الثورة التي انطلقت من الكوفة، ويعود السبب إلى أنه وبعد استشهاد الإمام الحسين(ع) اعترى الندم جزءاً من أهلها لعدم نصرتهم الحسين(ع) وخذلانهم له..

وقد تفاعل هذا الشعور مع دخول موكب السبايا وبعدما شاهدوا بأم أعينهم رأس الحسين(ع) ورؤوس أخوته وأنصاره على الرماح وزينب وأخواتها سبايا، وبعدما خطبت فيهم زينب(ع) خطبتها المشهورة..

وقد اجتمع يومها خمسة من زعماء الكوفة للتشاور فيما بينهم، فيما ينبغي القيام به للتعبير عن هذا الندم والتخلص من الإثم، ورأوا أن لا خيار لهم لذلك إلا بالتوبة.. ولذلك أخذت حركتهم عنوان التوبة وعرفت ثورتهم بثورة التوابين، وما لبثت أن استقطبت أعداداً كبيرة من الأنصار الذين استلهموا هذه القيمة، وقيمة التوبة عند هؤلاء أنها لم تقف عند حدود طلب التوبة من الله والاكتفاء بذلك، بل اقتربت بالعمل، لذا تراهم  عادوا إلى منطق الحسين(ع) بالأخذ بأسباب ثورته والشعارات التي أطلقها ووضعوها أهدافاً أمامهم، وانطلقوا للعمل بها بسرية تامة وبعيداً عن رقابة أجهزة بني أمية، وقد استلهموا من الآية التي تقول: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}..

وقد تزعم هذه الحركة سليمان بن صرد الخزاعي، وكان صحابياً أسلم في المدينة.. وانتقل بعدها إلى الكوفة فأصبح من رجالاتها، وقد شهد مع علي(ع) كل حروبه، وكان من المخلصين له، وقد عرف خلالها بالبطولة والشجاعة.

وقد حدد أهدافها الرئيسية:

بإزاحة الأمويين من السلطة في الكوفة.

وأخذ القصاص من المسؤولين عن استشهاد الحسين(ع).

وقد رأى سليمان بن صرد الخزاعي في موت يزيد والصراع على الحكم بين بني أمية فرصة مناسبة لإعلان ثورته والانتقال من السرية إلى العلن، فعمل على استقطاب أنصار له، وأرسل لهذه الغاية وفوداً إلى المدائن والبصرة، فاجتمع حوله آنذاك ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف في منطقة تسمى بالنخيلة، وهي تقع على مفترق الطريق بين الشام والكوفة والمدينة، وهناك وقف سليمان في أصحابه ليحدد لهم أهداف ثورته، وقال لهم: “أيها الناس من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما يأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع ما هو إلا سيوفنا على عواتقنا وزاد قدر البلغة، فمن كان ينوي هذا فلا يصحبنا”.

فنادى الجميع: إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا، إنما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول الله نبينا(ص)..

بعدها سار بهم إلى حيث قبر الحسين(ع)، وهناك علت أصواتهم بالبكاء وأعلنوا عنده التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.. قائلين: “اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا(ص) فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا، فارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك إنا على دينهم وعلى ما قُتلوا عليه، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”.. اللهم إذ حرمتنا منها معه فلا تحرمنا منها فيه بعده..

بعدها توجهوا إلى الشام حيث المعقل الرئيسي لها، وفي منطقة اسمها عين دارة تقع في الشمال الشرقي منها، وقبل وصولهم إل الشام كان ينتظرهم جيش قادم من الشام من عشرة آلاف فارس بقيادة عبيد الله بن زياد..

ورغم عدم تكافؤ العدد استطاع التوابون في البدء أن يهزموا جيش الشام مما اضطر الأخير أن يطلب المدد حتى بلغ جيشه ثلاثين ألفاً.. وبطبيعة الحال انقلب توازن المعركة وتراجعت فرص النصر أمامهم، ولكنهم لم يستسلموا أو يفروا وقررا أن يقاتلوا حتى الاستشهاد..

وبذلك انتهت ثورة التوابين بعدما قدمت أروع الدروس في التضحية والفداء، وهي ثورة مهمة في سياقها التاريخي، فقد كانت حلقة في سلسلة، أثارت بتضحياتها الجسام الرأي العام الإسلامي، ما أوجد مناخاً مؤاتياً للحركات المناوئة للحكم الأموي للثورة، والتي سرعان ما استكملت بثورة المختار الثقفي التي انطلقت أيضاً من الكوفة وحملت الشعار نفسه: يا لثارات الحسين(ع). وقد شكلت هذه الثورة وغيرها مصداقاً للأثر الذي كان لثورة الامام الحسين(ع) بايقاظ الامة من سباتها.

وبعيداً عن السياق التاريخي فان عبرا ودروسا كثيرة نستلهمها في حاضرنا من ثورة التوابين سنحصرها بثلاث نقاط سريعة:

الدرس الأول: عندما يطغى الفساد في المجتمع فالسباقون لمواجهته لهم النصيب الاكبر عند الله سبحانه، لكونهم المبادرين لمواجهته ولكونهم يمهدون الطريق لغيرهم (ومن هنا نستلهم دائماً دور المصلحين الأوائل في المجتمع والرعيل الاول من المجاهدين والعلماء، ممن بادروا ولم ينتظروا غيرهم حتى يعمل ليعملوا، ولذلك خصهم الباري عزّ وجل..

 {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

 النقطة الثانية:

أنه في الصراعات والأزمات وبعدما تتضح الأمور ويتبين الخيط الابيض من الاسود فإن على كل فرد وعلى المجتمع ان يتدارك خذلانه لواجباته ومسؤولياته، أن يجري مراجعة، فيتدارك تقصيره وسكوته.. فلا بديل عن المراجعة من أجل التطهر وتصويب المسار وتحصيل رضا الله..

المشكلة لدينا ان ثقافة المراجعة غير واردة، بل نجد ثقافة الاصرار والتبرير بحجة أن هذا قد مضى ونحن لا ننظر الى الماضي.. فيما الله يدعونا الى المراجعة والتوبة واتخاذ ما يجب اتخاذه من موقف تصحيحي.. والمراجعة ضرورية لأي مسار على مستوى الأفراد في علاقتهم ببعضهم أو الأحزاب أو الدول أو المؤسسات، والجميع عليهم أن يراجعوا مواقفهم..

والنقطة الثالثة التي نستلهمها:

 هي حول التوقيت فحري بنا ان نراجع انفسنا ومواقفنا في هذه الحياة قبل الآخرة، فبعدها لا مجال لعودة، لقد انتهى المشهد.. وجاء الحساب {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.

إنا أحوج ما نكون اليوم إلى ثورة توبة داخلية أولا وعلى المستوى النفسي ونعكسها على أرض الواقع، ومحظوظ من يبادر ليتوب الى الله ويراجع نفسه ومواقفه المسجلة في مدوّنة أعماله.. في أي قضية أو أمر أو موقف خذل فيه حقاً أو نصر باطلاً بإشهاره أو بسكوته.. فالله وكما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}..

والحمد لله رب العالمين

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بالأخذ بما ورد في سيرة الإمام زين العابدين(ع) هذا الإمام الذي نستعيد ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر محرم، حيث ورد أن رجلاً من المدينة أسمع الإمام كلاماً سيئاً واتهمه بما ليس فيه فلم يكلمه الإمام ولما انصرف قال لجلسائه: ” قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردّي عليه” فقاموا معه يظنّون أن الإمام سوف يرد عليه بالمثل .

طرق الإمام باب هذا الرجل فخرج الرجل متوثباً للشر فقال له الإمام لم آت للشر لكني أريد أن أقول لك إنك قلت فيّ ما قلت فان كان حقّاً في ما قلت فيّ فأستغفر الله منه وإن كان باطلا فغفر الله لك”.. هز هذا الكلام هذا الرجل، لذا أقبل على الإمام معتذراً، وقال له: إن ما قلته ليس فيك هو فيَّ.

وأصبح هذا الرجل بعدها من المحبين للإمام والموالين له، عندها التفت الإمام إلى أصحابه وقال أي أسلوب هو أفضل أن أبادله بأسلوبه كما كنتم تريدون، ولو حصل لزاد حقده عليّ.. أما أسلوبي الذي استعملته معه والذي جعله يتحول من عدو إلى صديق.

أيها الأحبة إننا أحوج ما نكون إلى أن ننهج هذا الأسلوب وهو أسلوب الواعين والرساليين، وهو الأسلوب الذي دعانا إليه القرآن الكريم عندما قال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.

وبهذه الروحية نكسب الأصدقاء والأنصار ونواجه التحديات…

والبداية مما حدث بالأمس في المرفأ، هذا الحدث الخطير الذي شكل للبنانيين صدمة جديدة، وهم لم يستفيقوا من الصدمة التي أحدثتها لهم الكارثة التي سبقتها، وزادت في إحباطهم ويأسهم وخوفهم على المستقبل وأعادت طرح علامات الاستفهام على مدى قدرة دولتهم على إدارة شؤونهم، فهي تؤكد مجدداً على  عجزها عندما فشلت مجدداً في حماية مرفق حيوي لها..

إننا أمام هذه الكارثة الجديدة ورغم الخسائر المادية والصحية والبيئية إذ نحمد الله على عدم سقوط أرواح فيها، ندعو الدولة إلى تحمل مسؤوليتها في الإسراع بالكشف عمن تسبب بما جرى، وترك يد القضاء حرّة في هذا المجال، لأننا نرى أن عدم الإسراع في التحقيق في هذه الكارثة سيمهد لكوارث أخرى، كما أن عدم الإسراع في التحقيق والمحاسبة بالكارثة الأولى تسبب في حصول هذه الكارثة..

في هذا الوقت، لا بد من أن نقدر عالياً كل الجهود التي بذلت من قبل الدفاع المدني وفرق الإطفاء وكل من شارك في إطفاء هذا الحريق الذي كان يخشى أن تكون مخاطره كمخاطر الكارثة السابقة..

ونعود إلى الوضع الصحي حيث يستمر عداد الإصابة بفيروس كورونا في الارتفاع، من دون أن يبدو أنه سيتوقف، إلا عندما يقرر المواطنون إتباع أقصى درجات الوقاية والتعامل بكل جدية معه، واعتبار من حولهم محتملي الإصابة…

ومن هنا فإننا نجدد التذكير بأن الواجب الشرعي والأخلاقي والإنساني يُلزم التقيد بكل الإجراءات وأن نصبر عليها ونتواصى بها..

وعلى صعيد آخر يعود الوضع الأمني ليشكل مصدر قلق للبنانيين بعد الاشتباكات التي حصلت في بيروت وغيرها والتي يخشى أن تتكرر..

ومن هنا، فإننا ندعو القوى الأمنية إلى تحمل مسؤوليتها في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة السلاح المتفلت وفي الوقت نفسه ندعو القوى التي تملك حضوراً على الأرض إلى تحمل مسؤوليتها في ذلك وعدم التنصل منه.. وعلى الأقل الالتزام بعدم التدخل عندما تقوم القوى الأمنية أو القضائية بالإجراءات الرادعة…

إن على القوى السياسية أن تعتبر أن أمن البلد هو خط أحمر لا يجوز تجاوزه وإذا كان هناك تنافس من سياسي أو خلافات على النفوذ، فلا ينبغي أن تكون اللغة في معالجتها هي لغة السلاح..

 وعلى وقع الضغوط الخارجية التي بدأت تلوح في الأفق وتجلت بداياتها في العقوبات التي فرضت على وزرين سابقين لما يمثلونه فإننا مدعوون إلى المزيد من التراص والوحدة ليكون ما حدث حافزا لإزالة العقبات التي لا تزال ماثلة أمام تأليف الحكومة، وأن يتم انجازها بالسرعة التي تقتضيها ظروف المرحلة والتحديات التي تواجه البلد على كل الصعد، بحيث تكون المصلحة الوطنية العامة هي الموجهة لعمل القوى السياسية المعنية في هذا التأليف لا مصلحة هذا الفريق أو ذاك أو هذه الطائفة أو تلك..

وعلى صعيد اجتماع الجامعة العربية، فإننا نرى في عدم صدور موقف حاسم من الجامعة تجاه التطبيع إضعافاً للموقف الفلسطيني وتشجيعاً على الاستمرار بهذه السياسة..إننا أمام ذلك، ندعو الشعب الفلسطيني إلى أن يراهن في سعيه للحفاظ على حقوقه وإنجازاته على وحدته، وكل مواقع القوة فيه وعدم التفريط بها..