جريمة الإفساد في الأرض ولماذا يخفت صوت المصلحين؟

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز:

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:٤١).

لقد حذر القرآن الكريم من الفساد في الكثير من الآيات.. ودعا الناس أفرادا وجماعات إلى محاربة الفساد ومواجهته وعدم السكوت عنه أو تبريره.. فقال سبحانه: {… وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا …} {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {…وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ }

ويظهر اهتمام القرآن بمسألة الفساد من عدد المرات التي ذكرت فيها هذه الكلمة أو إحدى مشتقاتها (اكثر من خمسين آية). فما هو الفساد؟

الفساد ليس نقيض الصلاح فقط إنه أكثر من ذلك. إنه آفة، وطاعون، ووباء، ففي اللغة لا فرق بين الفاسد والباطل، وتفاسد القوم يعني قطعوا الارحام وفسد اللحم يعني أنتن.

وما نلاحظه في معظم الآيات التي تحدثت عن الفساد، انها قرنت بين كلمة الفساد وكلمة الارض، لأن الارض جعلها الله بما أودعه فيها مكانا صالحا للعيش الكريم، فما إن يحل الفساد حتى تصبح دورة الحياة في خطر. الله سبحانه وتعالى يعطي صفة التدمير للفساد، نعم الفساد يدمر، هو كالحريق الذي يشب في بيت، إن لم يُطفأ فإنه سينتقل الى بيوت أخرى، وحيثما حلّ سيحرق ويدمّر.

ويقول عز وجل في آية أخرى : {… وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الشعراء: ١٨٣)..  هنا … أيضا تعيننا اللغة على فهم صفة أخرى من صفات هذا الطاعون. تسمعون بالعثة، هي حشرة لا تُرى بالعين المجردة فهي ان وقعت على الصوف عثته او عاثت به اي راحت تقرضه لتتركه باليا مهلهلا، ولا يمكن إصلاحه، كما لا يمكن  اصلاح الحليب او العسل اذا فسدا،لهذا يقول لنا القرآن الكريم: {… إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس: ٨١). لذلك يوصينا الله :{لا تفسدوا في الارض }.. هذه الارض التي بناها وسواها وفق النظام والقوانين {… مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: ٣).. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: ٤٩).. {… وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: ٢) … فلا تعطلوها ولا تنسفوها ولا تقلبوها رأسا على عقب…

والأمر يتعلق بالارض كنعم وخيرات وموارد، هي أمانات سيسأل عنها الله يوم الحساب، لأنه استخلف الانسان عليها منذ خلق آدم. ويومها التفتت الملائكة لتسأل {..قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ..} (وهنا على الهامش اشارة  الى ان البعض يستدلون على امكانية وجود حياة سابقة او بشر سابقين والملائكة كونت فكرة عنهم من تجارب سابقة).

 

أيها الاحبة:

والافساد كما يطال الارض فيسبب خللا في نظامها وقوانينها  كتدمير البيئة واحداث التلوث والقضاء على الكائنات، كذلك يطال الافساد كينونة الانسان نفسه، يطال الانسان في وجدانه، ومشاعره وحاجاته الجسدية والروحية.. فالله خلق الانسان في نظام متقن ودقيق {لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم} وهذا النظام يجب ان يحمى ويرعى ويحترم {قد أفلح من زكاها وخاب من دساها..}

 فالفساد يطال افكار الانسان فيسممها، ويطال روح الانسان فيدمرها، ويطال عقل الانسان فيخربه ويطال قلب الانسان فيقسو ويموت، ويطال اخلاق الناس فينحرف بها عن خط الاسلام ووسطية الاسلام ورحمة الاسلام …

***********

ولعل أكثر ما يعزّز موقع الفساد أن يتولى الذين يفسدون، مواقع السلطة او يتمتلكون  الصلاحيات مع غياب الرقابة او المحاسبة.. وإلى هذا أشار القرآن الكريم عندما قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ …} (محمد: 22).

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 204-205) اذا الخطورة عندما يتولى الانسان امرا او مسؤولية، ولا فرق، بين ان تكون السلطة سلطة سياسية اوسلطة دينية. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "اثنان اذا صلحا صلحت الأمة واذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء."

أليست سلطة الفتيا هي واحدة من هذه المسؤوليات، ومِمَّن يتحمّل المسؤولية عما يجري اليوم، من تعطيل للعقول وتخديرها وقسوة القلوب وفظاعة المواقف والافعال وصولا الى  الفساد الأكبر وهو استباحه دماء الناس الأبرياء، كما نشهد في واقعنا وتطالعنا به الفضائيات يوميا وتزودنا به خدمات الاخبار.

 

أيّها الأحبّة..

ان الافساد لا يمكن ان يمر دون ان ترتد نتائجه الى صاحبه، أكان أمة أم فردا ام جماعة .{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } {… فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: ١٤).

ويُحدّثنا القرآن عمّا آلت  اليه احوال المفسدين في التاريخ لنتّخذهم عظة فيقول:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: ٦-١٤).

كذلك يعظنا بمصير قارون:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ } (القصص: ٨١).

وقد يقول قائل ان ليس كل مفسد يرتد عليه عمله… (لأنه شاطر ومبكل عملته) وليس كل مفسد ينال عقابه من الله في الدنيا فقد يمهله الله ويمد له، ولكن المفسد لن ينجو أبدا من عقاب الله العسير يوم الحساب: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}

****

إن من أعظم صور الفساد، عندما يُقدّم المفسد نفسه مصلحاً.. ويدّعي أنّه يمثل الحقيقة، وان ما يقوم به هو لأجل التغيير نحو الأفضل.. وبذلك تنقلب المقاييس في الحياة.. بحيث يصبح المفسد مصلحا والمصلح مفسدا .. وهنا تكون المصيبة.. وهذه الصورة هي التي أشار إليها الله سبحانه عندما تحدّث عن المنافقين قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ*أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١١-١٢).

بهذا المنطق تعامل فرعون مع قومه، عندما نصب نفسه واعظا وراح ينصح ويقول لهم عن نبي الله موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}، ولا عجب في ذلك، فهذا دأب المفسد والمنافق الذي يتلوّن كما تتلوّن الحرباء لأجل تمرير مشاريعه وأهدافه وطموحاته ومصالحه، ولكي ينجح يستخدم.. سياسة التجهيل: {فاستخف قومه فاطاعوه ..}

أيّها الأحبّة..

إزاء كل هذا الذي يجري، مدعوون إلى الوقوف أمام ظاهرة تسميم العقول والافكار وتوريط ضعيفي العقول في ضرب استقرار المجتمعات الاسلامية، وندعو بأن يهدي الله صناع قرار التكفير ممن يتولون أمور الفتاوى،  ويهدي كل الذين لا يميّزون بين الكفر الذي يحاسب عليه الله  وحده والتكفير الذي يمارسه الانسان تجاه أخيه الانسان. ولا يميزون بين القتال في ساحة المعركة وبين القتل في ساحة العيش والعمل.

 وفي الوقت نفسه لا بد من ان نتوجه الى من حمّلهم الله مسؤولية مواجهة المفسدين وسماهم: المصلحون…  أين هم المصلحون في هذه الامة.. لماذا خفتت أصواتهم، هذا الخفوت الذي يصل الى حد الهمس خشية ان يروا متلبسين بالاصلاح او بالاعتدال، أو بقول كلمة الحق ولو على انفسهم. ان صمت هؤلاء هو ما يجعل صوت النشاز المفسد عاليا ومؤثرا. كم نحن بحاجة الى رفع صوت الاصلاح  ولغة الاصلاح بين الافراد والعائلات وعلى مستوى المجموعات والمناطق.. ان الحالة التكفيرية التي نشهدها اليوم هي بالتاكيد لا تمثل ابدا كل المسلمين بمذاهبهم المختلفة، نحن على يقين ان المصلحين كثر والوسطيين كثر.. ونقول لهم  لماذا هذا الانكفاء والنأي بالنفس.. نقولها للعلماء الربانيين منهم ونقولها للواعين والفاعلين والقادرين نقولها لكل واحد من موقعه.. فالساكت على كل ما يجري هو شريك في كل هذه الدماء البريئة والتي تنزف في غير موقعها.. وإلاّ لن يكون هناك إنسان آمن ولا مكان آمن، ولا حل لنا الا بالسعي نحو الاصلاح لننجو: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون}

الله الله في الاصلاح لقطع دابر سبيل المفسدين.

الله الله في الاصلاح  لردع الذين يقطعون ما امر الله به ان يوصل.

الله الله في الاصلاح لدرء المصطادين في الماء العكر.

الله الله في الاصلاح  لقطع الطريق امام المشائين بالفتنة.

الله الله في وحدة المسلمين لنعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق.

ولكي لا نتنازع فنفشل وتذهب ريحنا.

وليكن دعاؤنا الدائم: اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك.

اللهم اصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللهم احمنا من شرور العابثين بأمن البلاد والعباد انك سميع مجيب.

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي زادنا في كلّ الظروف. ولنحرص في ذكرى ولادة الإمام الحسن العسكري(ع)، التي تمر علينا في الثامن من شهر ربيع الآخر، وفي رواية، في العاشر منه، على الالتزام بما أوصى به شيعته، عندما قال لهم: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص). صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحَسُن خلقه من الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرني ذلك. اتقوا الله، وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، أكثروا ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي(ص). إنكم في آجال منقوصة، وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع. احفظوا ما وصيّتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام".

من خلال هذه الكلمات، حدَّد الإمام العسكري لنا المعايير التي تؤكّد صدق انتمائنا إلى أهل البيت(ع)، فلا تكفي الموالد التي نقيمها في ذكرى ولادتهم، والدموع التي نذرفها في ذكرى وفاتهم، وزيارة مقاماتهم، بل لا بدَّ لنا من الالتزام بالقيم التي أرادوها أن تكون الأساس في حركتنا في المجتمع، حتى نكون أكثر صدقاً وأمانة وأخلاقاً وورعاً وانفتاحاً…

بهذا السّلوك، استطاع الإمام العسكري أن يفتح قلوب أعدائه عليه، لا محبيه فقطـ. وبهذا السلوك، نعمّق حبّه وحبّ أهل البيت(ع) في قلوب الناس، ونعالج الكثير من توترات الواقع. والبداية من الهرمل؛ مدينة الشهداء والمجاهدين والصابرين، التي لم تكن قد التأمت جراحها بعد، ولم تكفكف دموعها نهائياً، حتى امتدت إليها يد الإجرام من جديد. وقد طاول الاستهداف هذه المرة محطة الأيتام، التي لم يشفع لها عنوانها لدى هؤلاء، وكلّ ما تمثّله. ونحن لم نرَ فيما حدث استهدافاً خاصاً لمؤسَّسة تابعة لجمعيَّة المبرات الخيريّة، لها دور واضح في خدمة الإنسان اليتيم والفقير والمستضعف، بقدر ما رأينا فيه استهدافاً لمدينة الهرمل، ولما تمثل للوطن، ولصورة الإسلام، وكل القيم الإنسانية التي دعت إليها الرسالات السماوية.

وهنا، نتوجَّه بالسؤال إلى أولئك الذين تبنّوا التفجيرات ويقفون وراءها، إن كانوا يصغون وينصتون: ألم تروا بأم أعينكم ما جنت أيديكم؟ ألم تسألوا أنفسكم للحظة ما هو الذنب الذي ارتكبه كل هؤلاء الشباب الذين كانوا يسعون وراء لقمة عيشهم، وما هو ذنب النساء والأطفال، حتى تحترق أجسادهم، أو تشوّه أبدانهم؟ وما هو العنوان الديني والإنساني الذي يبرر لكم هذا العمل؟ أين كلّ ذلك من قيم الرحمة، ورقة القلب، والتفاعل مع آلام الآخرين، التي اعتبرها الإسلام عناوين أساسية في رسالته، وجسَّدها رسول الله بأخلاقه؟

وإذا كنتم تتحدَّثون عن الثأر لشباب ونساء وأطفال سقطوا في مواقع أخرى، فإننا معكم ندين التعرض للأبرياء، ولكن أين أنتم في ذلك من قول الله سبحانه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وأن البريء لا يؤخذ بجريرة غيره، حتى لو كان أقرب الناس إليه؟

هذا المنطق هو منطق جاهلي لا يمت إلى الإسلام بصلة، ولا إلى الديانات السماوية الأخرى. وإذا كنتم تتحدثون عن ضغط تمارسونه على هذا الفريق أو ذاك، فهل دماء النساء، والأطفال، والرضّع، والساعين إلى العيش الكريم، تحقّق ما تصبون إليه؟! إنَّ القضية أعقد من ذلك، وكذلك الحلّ، وهذه الوسيلة لن تحقّق ما تصبون إليه، وهذا الأسلوب ليس الأسلوب الصحيح دينياً وإنسانياً.

ألم يئن الأوان بعد كلّ ما جرى، لأن تعودوا إلى دينكم، وإلى إنسانيتكم، وإلى ضمائركم، ولأن تراجعوا حساباتكم، حتى تتوجّه كل الجهود إلى العدو الحقيقي الذي يتربّص بأرضنا ومقدساتنا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا؛ العدو الذي يقهقه عالياً، وهو يرانا نقتل بعضنا بعضاً، وندمّر بعضنا بعضاً، ونسقط بعضنا بعضاً.

إننا نسأل الله أن يتغمَّد الشهداء برحمته، وأن يربط على قلوب أهلهم بالصبر، وأن يشفي الجرحى، وفي الوقت نفسه، ندعو إلى إنشاء أوسع جبهة وطنية لمواجهة هذا الواقع، ولا نكتفي بالاستنكار، والمشاركة في تشييع الضحايا إلى مثواهم الأخير، كما ندعو إلى خطوة عملية لا تقف عند حدود طائفة أو مذهب أو منطقة، بل تشمل الجميع، فأمن الوطن لا يتجزأ، ونؤكد ضرورة وقوف كل مكونات الشعب اللبناني وراء الجهات الأمنية، التي نقدر جهودها في المجال الأمني، وكشفها المتورطين بالأعمال الإرهابية.

وهنا، نرى الحاجة ماسّة إلى بذل جهود أكبر للخروج بصيغة حكوميَّة جامعة تلبّي طموحات اللبنانيّين، ولو اقتضى الأمر أن نعطي وقتاً إضافياً للمشاورات، فالحكومة الجامعة أفضل من أية حكومة أخرى قد تؤدي إلى التشنّج السياسي، الذي يوفر البيئة الحاضنة لكل الذين يريدون العبث بأمن الوطن في الداخل أو الخارج.

وفي هذا المجال، وتعزيزاً لمناخات الوحدة والحوار، فإننا نقف مع كل الطروحات التي تساهم في تدعيم العيش المشترك، وبناء الدولة العادلة والقادرة على مواجهة كل التحديات، بعيداً عن المصالح الشخصية أو الفئوية، وهو ما تناولته وثيقة بكركي، فإنّ ذلك يعد أساساً لبناء الوطن في هذه المرحلة الحساسة، حيث لا خيار للبنانيين إلا تعميق القواسم المشتركة، والحوار الدائم والمستمر وغير المتشنج في ما يختلفون عليه.

إننا ندعو الجميع إلى التدقيق جيداً في الكلمات والمواقف، ففي هذه المرحلة التي تشتعل فيها الأرض تحت أقدامنا، لا ينبغي أن تلقى الكلمات ولا الاتهامات جزافاً، ونحن لا نقبل أن تنطلق الكلمات المحرّضة ضد بلدة بكاملها، أو ضد طائفة، لأنَّ هناك مجرماً أو أكثر ينتمي إليها، فلا يجوز أن نضع الجميع في موقع واحد، ومن يُجرم يتحمّل وحده المسؤولية، بصرف النظر عن هويته السياسية أو الطائفية أو المناطقية، كما أنَّ بلدته وطائفته ليستا مسؤولتين عنه.

وفي هذه المرحلة، نحذّر من المخطّطات الرامية إلى الإيقاع بين المخيمات ومحيطها، بذريعة أن بعض المجرمين يتحركون في هذا المخيم أو ذاك، وندعو الفلسطينيين إلى وعي مخاطر ما يجري، ليكونوا العين الساهرة على مخيماتهم، ونحن نثق بوعي القيادات الفلسطينية لمنع كل ذلك، ونشدد على التنسيق المستمر في هذا المجال، لنفوت الفرصة على كل من يريد شراً بلبنان وفلسطين.

أما في سوريا، ففي الوقت الذي ندعو إلى الإسراع بالحوار، والسعي لإنجاحه، بدلاً من تسعير المعارك التي لن تنتج سوى المزيد من الدمار والخراب، فإننا ننظر بإيجابية إلى المبادرة الإنسانية التي حصلت في حمص، ونراها منطلقاً لمبادرات أخرى.

وفي الوقت نفسه، ندعو الشعب العراقي بكلّ مكوناته، إلى الوقوف صفاً واحداً في مواجهة الإرهاب الذي يعتبر مشكلة للعراقيين جميعاً، ليستعيد العراق عافيته ودوره، ويتخفف من ثقل الآلام التي يحملها يومياً.

إننا لا نرى أن الحل العسكري يكفي لخروج العراق من أزمته، بل لا بد من مبادرة سياسية تزيل الهواجس التي تعيشها مكونات هذا الشعب، ويشعر معها الجميع بأنهم مواطنون من درجة واحدة.

وأخيراً، فإننا نعيد الدعوة إلى ضرورة إبقاء العيون محدقة بفلسطين، التي يخشى أن تمرر فيها الحلول التي لن تكون بالطبع لحساب الشعب الفلسطيني ومستقبل الأمة، وسط الحرائق التي تشتعل في المنطقة.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 7ربيع الآخر 1435هـ الموافق : 7  شباط 2014م

 

 

 

Leave A Reply