حتى لا نضيّع البشارة – السفير

العلامة السيد علي فضل الله 

 

من نور السيّدة مريم الحاضرة معنا في كلّ تواصل مسيحي ـ إسلامي، نستعيد رمزيّة اسمها في كلّ بشارة تضع قيمة الرّجاء والخلاص عنواناً لمستقبل الأمل في أن نعيش معاً بملامح مريم الطّاهرة من كلّ رجس ودنس، المصطفاة المطهّرة بحسب النصّ القرآني: «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ»(آل عمران: 42)، والمباركة الممتلئة نعمةً بحسب الأناجيل.

نستعيد أيضاً مضمون إيماننا المشترك بمريم أمّ السيد المسيح، وفاطمة أمّ أبيها، ليزهر هذا الإيمان في لبنان الوطن الرّسالة، الذي أردناه ونصرّ أن يبقى وطن الرسالة، الوطن الأنموذج، الوطن القدوة، وطن نتجاوز فيه، حتى العيش المشترك لنصل إلى وطن الشراكة والمحبة، ولن نظفر بهذا الحلم من دون الخروج من ظاهرة المخاوف المتبادلة بين أديانه وطوائفه التي يزرعها من لا يريدون لهذا النموذج أن يبقى.
إنّ خيارنا هو أن نواجه هذا التحدّي بالأنموذج المريميّ في روح الغفران في الطهارة، في السموّ الروحي، وفي مناعة العفّة الّتي نريدها مثالاً لانتصار نظام العفّة على أنظمة الرّذيلة والفساد والانحراف، ولن يتيسّر لنا ذلك إلا بفضيلة التّقوى والصّبر على الآلام، في مواجهة كلّ سياسةٍ أمّارة بالظّلم والسّوء.
والبشارة، لم تكن من غير ألم. كانت ممزوجة بالمعاناة قبل الولادة وأثنائها، ولكنّ مريم الملتحفة بسماوات صبرها النّازل من عند الله، تمشي مطويّة بالسّرّ الّذي تحمله في أحشائها.
لا أبالغ إذا قلت إنّ في الإلهيّ من نور مريم ألف حزمة ضوء تدلّنا على منابع الدّين الصّافي في وحدته ومراميه الّتي تفرش الأرض بكلّ عدالة ومحبّة لا بدّ منها لتصنع السّلام الثّابت المتجذّر في عقيدتنا وإيماننا، بعيداً من جميع أشكال التكاذب السياسي والتكاذب الدّيني الّذي يتجاهل أبسط الشّروط الموضوعيّة لتحقيق السّلام، وذلك من قبل أن تموت الرّوح ويتحطم الميزان.
ولا خيار لنا إلا بتغيير ما علق في نفوسنا من عيوب وشوائب: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(الرّعد: 11).
وسيلتنا إلى ذلك أن نتصالح مع ذاتنا، لنؤكّد أن لا مستقبل يرتجى من مسؤوليّاتنا في حماية الجوهر الأخلاقيّ من الدّين، إلا بردّ الاعتبار إلى قيمة الاصطفاء الّتي اختص الله بها مريم المقدّسة، فنعمل على تطهير مؤسّساتنا الدّينيّة من كلّ نفاق ودنس، وشعارنا في زمن الفتن باسم الدّين، نداء السيّد المسيح (ع): «أخرجوا اللّصوص من الهيكل»، لكي لا تصبح بيوت الله بيوت ضرار أو معابد تفرقة وشقاق، تغذّي أجواء التوتّر السياسيّ وانقساماته، فيما المطلوب منها أن تكون بيوت عبادة وصلاة، تملأ الوطن كلّه بأزاهير المحبّة والودّ والرّحمة، الّتي لا تجعل من الدّين وسيلة لتأليه السّلطة وأربابها: «وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ»(آل عمران: 64).
إنّ لبنان الوطن لا يمكن أن يستمرّ من غير وعينا بقيمة المواطنة، ولبنان الدّولة لا يمكن أن يستمرّ من غير وعينا لقيمة الدستور في حياتنا، ولبنان الرّسالة لا يمكن أن يستمر في أجواء القطع والإقصاء الّذي شوّه أعزّ ما يتميّز به لبنان الإسلامي ـ المسيحي من قيم نحن في أمسّ الحاجة إليها لإنقاذ الوطن من محنته وأزماته وحرائقه.
وها هو ذا صوت المسيح المتَّحد بلهفة مريم في آيةٍ واحدة: «بحقّ أقول لكم، إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيتٍ إلى بيت، حتّى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأوّل، فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النّار معملاً».
نداؤنا باسم الربّ الواحد، أن نبتدئ من تقوى الله في القول والعمل، لنطارح بها كلّ عنفٍ في الفكر والسّلوك، ونداؤنا باسم كلّ الرّسل والأنبياء والأولياء والقدّيسين، أن نبتدئ من الخير والعفو والغفران، لنطرح بها نوازع الشّرّ الّذي يعكّر صفاء بيوتنا في سفاهة هنا وسفاهة هناك.. ونداؤنا باسم البتول مريم وباسم كلّ الأمّهات والعائلات: تعالوا لنكسر قيود الطّائفيّة وعصبيّاتها وأحقادها الّتي كبّلت أرواحنا وعقولنا، فالطائفية ليست ديناً، هي تختزن العشائرية والعصبية، هي غرائزية تستفيد منها السياسات الاستكباريّة الّتي تتغذّى على حرائقنا المشتعلة أبداً تحت عناوين الدين والدين منها براء.
ويا ألله! رحماك بالبشارة الّتي أضعناها يوم أضعنا المعنى بسواد الجهالات التي ظلمت وأظلمت بظلم بعضنا لبعض، فعميت عليها حقيقة الإيمان التي لا يمكن إلا أن يدعو بدعوة الله، تعالوا إلى كلمةٍ سواء، تعالوا إلى قيم الإنسانية التي لا يمكن أن نخرج وطننا من كل آلامه إلا بها

المصدر:جريدة السفير 

Leave A Reply