دروس ثورة التوابين

العلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله حديث الجمعة، ومما جاء فيه:

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} صدق الله العظيم

نستعيد في العشرين من شهر صفر، ذكرى أربعين استشهاد الإمام الحسين(ع)، هذه الذكرى التي نحييها في كل عام لنعبر عن حبّنا وولائنا واستعدادنا لبذل التضحيات لتحقيق الأهداف التي سعى إليها الامام الحسين(ع) في ثورته المباركة. هذه الثورة التي لطالما الهمت ثورات وحركات حول العالم على مدى الزمن. ومن اول مصاديق هذه الثورة مكانيا وزمانيا كانت الثورات التي هزت حكم بني امية فكانت ثورة التوابين التي تحدثنا عنها سابقا وتلتها ثورة مهمة في اطار الرد على ما جرى في كربلاء وهي ثورة المختار الثقفي.

فقد شكلت ثورة المختار الثقفي التي انطلقت من الكوفة في العام 66 للهجرة احد ابرز ارتدادات ثورة الإمام الحسين(ع) في زمانها، وقد حدد المختار الثقفي هدفها بالثأر من قتلة الإمام الحسين(ع) وشهداء كربلاء.. ورفع لذلك شعار: يا لثارات الحسين..

والمختار الثقفي هو واحد من رجالات الكوفة ومن الموالين لأهل البيت(ع) والمحبين لهم.. وقد حمل المختار لواء المعارضة لحكم بني أمية منذ تولي معاوية الحكم، وهو لذلك عانى في سجونهم.. وعند انطلاق الإمام الحسين(ع) بثورته  وإبداء رغبته بالقدوم إلى الكوفة أعلن المختار الثقفي عن تبنيه لها ولشعاراتها..

ولذا نزل عنده مسلم بن عقيل لما جاء موفداً من قبل الامام الحسين(ع) الى الكوفة من أجل أن يهيئ الناس لقدومه وكسب الأنصار لثورته وكادت مهمته تنجح  لولا ما حصل من تفرق الناس من حوله مع إرسال يزيد لعبيد الله بن زياد الذي اتبع سياسة بذل الأموال على رؤساء العشائر وإثارة الخوف من جيش الأمويين ما أدى إلى استشهاده.. يومها اضطر المختار الثقافي إلى التخفي والابتعاد عن أعين بني امية الذين راحوا يلاحقونه..

وكان أن قبض عليه وأودع السجن وبقي فيه إلى ما بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) ولذلك لم يستطع الالتحاق به، وهو ما خرج منه إلا بتدخل زوج أخته عبد الله بن عمر عند يزيد الذي قبل بإخراجه من السجن شرط خروجه من الكوفة.. عندها غادر المختار الثقفي الكوفة إلى الحجاز، ولكنه بقي يتتبع أخبارها وما يجري فيها، وعندما استشعر ان الجو في الكوفة مؤات للاقتصاص من الامويين، توجه إليها وكانت ثورة التوابين آنذاك قد بدأت تحركها، ولكنه آثر أن لا يشارك فيها رغم تماهي أهدافها مع أهدافه، لأنه كان يرى أنه كان ينقصها بعض التخطيط، ولأن أولويته كانت محاسبة قتلة الحسين(ع) من مركز ثورته في الكوفة، لا الذهاب إلى الشام كما ارتأى التوابون..

وبعد انتهاء ثورة التوابين إلى ما انتهت إليه من استشهاد قائدها سليمان بن صرد الخزاعي ومن معه على يد جيش يزيد، بايعه أهل الكوفة على ما دعا إليه من الثأر من قتلة شهداء كربلاء، فبدأ بخلع والي الكوفة.. بعدها نادى مناديه في الكوفة أن يعلن لأهلها: من أغلق بابه فهو آمن إلا من اشترك في قتل الحسين(ع).. فاقتص من كل من قدر على الوصول إليه من قتلة الحسين(ع) وأصحابه..

وممن اقتص منه آنذاك عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن.. وبذلك انتهت هذه الثورة التي أدخلت السرور على قلوب المحبين والموالين لأهل البيت(ع) بتحقيق انجاز في عملية الثأر للحسين(ع) والثأر هنا لم يكن بالمفهوم الضيق للكلمة بل هو محاسبة لمفسدين في الارض كما تمثل ذلك في مواجهات ثورة المختار مع الامويين. وهذا الثأر لم ينته، بل هو مستمر ومرفوع دائماً في مواجهة كل ظالم وفاسد ومستكبر..

ونحن قبل أن ننهي حديثنا، سنتوقف عند بضعة دروس وعبر من هذه الثورة:

الدرس الأول: هو ضرورة الاقتصاص من الظالمين والمجرمين والقتلة حتى لا يشعروا بالأمان ولينالوا جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة.. ومن هنا قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.. لأن عدم الاقتصاص منهم سيفسح في  المجال للقتل أن يستشري وللظلم أن يمتد، وسيغري كل قاتل أو ظالم بالاستمرار بالقتل والظلم وسيدفع من ترغب نفسه بالقتل والظلم إلى التجرؤ عليه..

الدرس الثاني: هو أن القصاص إن هو حصل، فلا ينبغي أن يكون تشفياً وانتقاماً أو على الشبهة، بل لا بد من أن يخضع لموازين العدالة والمحاكم الشرعية والوضعية هي المكان الأنسب لتحقيقها، فلا يقتص إلا بعد تثبت وممن أجرم وقتل، لا إلى ابن عائلته أو عشيرته أو حزبه أو حركته..

وهذا ما عبر عنه علي(ع) بكل وضوح بعدما سمع أن هناك من يريد الاقتصاص من عشيرة ابن ملجم أو من كل من انتمى إلى الخوارج، قال(ع) لبني عبد المطلب: “يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا تقولون قُتِلَ أميرُ المؤمنين، قتل أمير المؤمنين، ألا يُقتلنَّ فيَّ إلا قاتلي، أنظروا إذا أنا مِتُّ من ضربتِه هذهِ فاضربوه ضربةً بضربةٍ، ولا يُمَثَّلْ بالرجل، فإني سمعتُ رسول الله(ص) يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور”..

والله سبحانه يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}..

الدرس الثالث: هو أن الظلم مهما استشرى وامتد فلن يستمر، هي سنة من سنن الله أشار إليها بقوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}..

وعندما قال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}..

ولكن الله سبحانه شاء ذلك أن تكون على أيدي دعاة الحق والعدل، ومن هم على استعداد لبذل التضحيات وتقديم الأثمان لذلك، هو لن يأتي بالمجان من دون تعب وسهر وبذل جهود وتقديم التضحيات..

وهذه القيمة أكدها التاريخ والحاضر وسيؤكدها بعون الله تعالى المستقبل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الحسين(ع)، لولده الإمام زين العابدين(ع) قبل استشهاده، وهي وصيته لنا جميعاً: “يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ‏ وَظُلْمَ‏ مَنْ‏ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا اللَّهَ”.

لقد أراد الإمام الحسين(ع) بوصيته أن لا يستغل الإنسان قوته وموقعه والصلاحيات التي تعطى له لظلم من هم دونه في القوة أو الموقع أو المرتبة أو الصلاحيات.. فلا يظلم الرئيس مرؤوسه والمدير موظفيه ورب العمل عماله والمعلم طلابه والزوج زوجته والأب أولاده، فهذا من أفحش الظلم عند الله وأصعبه موقفاً عندما يقف بين يديه.. والله، كما وعد، نصير المضطهدين والمظلومين ولن يدع ظلامتهم..

وبهذه الوصية نعبر عن حبنا وولائنا وعشقنا للحسين(ع)، وبذلك نبني مجتمع تحكمه العدالة ويكون قوياً وقادراً على تحمل التحديات..

والبداية من لبنان الذي يسير بخطى سريعة نحو الانهيار وعلى كل الصعد، فيما ينتظر اللبنانيون أن تتصدق عليهم القوى السياسية بحكومة قادرة على منع الانهيار أو على الأقل التخفيف من وقعه عليهم، حيث لا تزال هذه القوى في شكل عام على مواقفها فيما لا تزال أبواب الحوار معطلة، فالكل ينتظر تبدل موازين القوى لمصلحته وما الذي يحصل على صعيد الانتخابات الأمريكية أو في الإقليم.

وفي ظل هذا الجو السياسي تأتي دعوة رئيس الجمهورية لاستشارات نيابية،  لتفتح كوة في هذا الجدار ولتضع القوى السياسية أمام مسؤوليتها.

ونحن أمام هذا الواقع، ندعو القوى السياسية إلى الاستفادة من هذه الفرصة المتبقية للبدء بالاستشارات النيابية لتحريك عجلة المشاورات في ما بينها والخروج من حال المراوحة، واستيلاد حكومة فاعلة قادرة على إخراج هذا البلد من الخطر الوجودي القادم لا تتكرر معها التجارب الفاشلة.. فالبلد لا يبنى بالإقصاء ولا بالتهميش أو بالقهر والغلبة…

 في المقابل فإننا نأمل أن تحمل مواقف بعض القيادات السياسية في الانفتاح للتشاور السياسي قدراً من الإيجابية على هذا الصعيد..

إننا نقول لكل الأفرقاء السياسيين في هذا البلد، أنكم لا تملكون ترف الوقت، فالبلد لا ينتظر، ولذلك عليكم أن تسارعوا للحوار في ما بينكم وأن تقوموا بالخطوات الإصلاحية التي تقنعون بها العالم بأنكم أهل لإدارة بلدكم حتى يتحرك العالم لمساعدتكم، فلن يقلع أحد أشواك الوطن ما لم تبدأوا أنتم بتقليع أشواكه بأظافركم..

وفي الموازاة، فإنه يخشى أن يكون البلد قد دخل في قلب الانهيار الصحي، بعدما باتت طاقته على المواجهة تتضاءل يوماً بعد يوم في ظل الأرقام الخطيرة التي تسجّل للإصابات بفيروس كورونا، على الرغم من إجراءات الإقفال التي اتخذت، وهو ما يحتاج إلى وعي من المواطنين للالتزام بالإجراءات الصحية، كما يحتاج إلى استنفار الدولة لكل الأجهزة الصحية والاستشفائية للقيام بواجباتها في تأمين سبل الوقاية والعلاج، ومساعدتها على ذلك.

إن من المؤسف أن نجد من لا يزال غير مقتنع بخطورة هذا الفيروس أو تداعيات استمراره على هذه الوتيرة أو بضعف الإمكانات المتوافرة لدى المستشفيات الحكومية والخاصة، ولا يلتزم بكل الإجراءات الضرورية لمقاومته والحد من انتشاره..

في هذا الوقت، تزداد الأوضاع المعيشية سوءً في ظل الارتفاع المتزايد للدولار، واحتكار بعض التجار لبعض السلع والأدوية والمحروقات، طمعاً في جني الأرباح بعدما كثر الحديث عن اقتراب موعد رفع الدعم عن هذه المواد ما يتطلب من الدولة تدخلاً حاسماً، ورداً من قبل المسؤولين على أسئلة الناس حول المصير الذي ينتظرهم إذا تم رفع الدعم فعلاً، وندعو إلى موقف شعبي حاسم حيال هذا الواقع الصعب وآثاره وتداعياته.

وأخيراً إننا نشعر مع كل اللبنانيين بالقلق حيال الفوضى الأمنية التي بدأت تبرز في أكثر من مكان، إن في إطلاق النار العشوائي، أو في عمليات الثأر كما حصل في منطقة البقاع قبل أيام، أو بالظهور المسلح على خلفية عشائرية أو السرقات التي باتت في وضح النهار، ما يستدعي التدخل من الدولة وكل القوى السياسية الفاعلة على الأرض والإسراع في التحرك وقطع الطريق على تفاقم هذه المشاكل، فلا تتحول إلى ظاهرة تنتقل من منطقة إلى أخرى في ظل الضغط النفسي وللاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يعيشه البلد والذي يضغط على المواطنين ويؤثّر في حركتهم وتصرّفاتهم.