دروس من سيرة النبي(ص)

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

قال الله سبحانه في كتابه العزيز: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}. صدق الله العظيم.

نلتقي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول أو السابع عشر منه على اختلاف الروايات الواردة بذكرى ولادة نبي الرحمة محمد بن عبد الله(ص).

هذا النبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين أحاطه برعايته وتعهده بالتربية ليكون للناس قدوة وأسوة بحيث يرون فيه صورة الرسالة التي جاء يدعو إليها ويبشر بها، فهو من قال الله سبحانه وتعالى عنه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ..}..

ونحن في هذه المناسبة الكريمة، سنتوقف عند بعض ما ورد من سيرته..

الموقف الأول حصل عندما جاء بعض رجالات قريش إلى أسامة بن زيد للتدخل لدى رسول الله(ص) في شأن امرأة من بني مخزوم، أمر رسول الله(ص) بإقامة الحد عليها، بعدما سرقت، لما لأسامة من موقع عند رسول الله(ص).. فجاء إلى رسول الله(ص) بهذا الطلب..

وهنا تذكر السيرة أن رسول الله غضب عندها غضباً شديداً، وقال له: “أتشفع يا أسامة في حد من حدود الله”.. بعدها ذهب رسول الله إلى المسجد ليعلن موقفه من هذه القصة، وقف بين الناس الذين اجتمعوا إليه وقال لهم: {إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْم الله، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ فاطمة بنت محمد لَقَطَعْتُ يَدَهَا”.   

لقد أراد رسول الله بذلك أن يثبّت للمسلمين مبدأً، وهو أن لا استثناءات عنده في تطبيق العدالة، الكلّ في العدالة سواء، فلا تمييز عنده بين شريف ووضيع، وغنيّ وفقير، ولا بين كافر ومؤمن، فالعدالة عنده لا تتجزأ ولا تخضع لأي اعتبارات، وهذا هو مدلول قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}.

موقف ثان، أثار غضب رسول الله(ص)، هو عندما وقع خلافٌ بين أحد أصحابه ورجل يهوديّ، فقال اليهوديّ يومها مقسماً لإثبات حقِّه: والذي اصطفى موسى على البشر، فردَّ عليه الصحابي: تقول الذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله بين أظهرنا؟ لا، محمّد هو سيد البشر وكلّ البريّة.. فذهب اليهودي ليشتكي الصحابي إلى رسول الله(ص)، فغضب يومها رسول الله(ص) من كلام هذا الصحابي، ونهاه عن هذا الأسلوب في التعامل مع الأنبياء ووقف خطيباً في المسجد قائلاً: “أيّها الناس؛ إيّاكم أن تفاضلوا بين أنبيائكم.. اتركوا هذا الأمر”، فرسول الله(ص) لم يقبل بهذا الأمر.

لقد أراد رسول الله(ص) للمسلمين أن يحترموا كل الأنبياء، أن لا يفرقوا بين أحد منهم في ذلك، فيكفي أن يقسم أحدهم بأحد الأنبياء حتى يسلم له، والأمر الثاني أن يتقوا منطق التفاضل والخلافات التي تحصل بين أتباع الأديان والمذاهب حول من هو أفضل هذا النبي أو ذاك، أو هذا النبي وهذا الإمام.. أو تلك التي تحصل بين المواقع الدينية أو السياسية أو الحزبية.. والتي لا تؤدي إلا أي نتيجة وهي غالباً ما تتسبب في زيادة الأحقاد والضغائن وسفك للدماء.

وموقف ثالث أن أحد الأغنياء كان جالساً في محضر رسول الله(ص)، إذ وصل رجل فقير يلبس ثياباً بالية وأراد أن يجلس، فلم يجد مكاناً خالياً إلا بجانب ذلك الرجل الغني، فذهب وجلس عنده ، فابتعد الغني عنه قليلاً.. عندها غضب رسول الله(ص)، وخاطب الغني قائلاً: “هل خشيت أن يأتيك شيء من فقره؟ قال: لا يا رسول الله.. فتابع(ص): هل خشيت أن ينتقل شيء من ثروتك إليه؟ فقال: لا يا رسول الله.. قال(ص): هل خشيت أن تتسخ ثيابك؟ فقال: لا يا رسول الله.. قال رسول(ص): إذن لماذا فعلت ذلك؟ قال: إنها عادة خاطئة يا رسول الله! وأنا مستعد لأن أعطي الفقير نصف ثروتي تكفيراً عن فعلتي. فقال الرجل الفقير: ولكن يا رسول الله أنا لا أقبل ذلك. لأني أخاف إذا قبلت أن يصيبني ما أصابه.. بعدها جاء رسول الله بالفقير وأجلسه إلى جانبه تكريماً له وتعزيزاً للفقراء في أعين الأغنياء..

وموقف أخير، أثار غضب رسول الله(ص) عندما أرسل أحد أصحابه، لمواجهة المشركين، فكان أن حصل قتال معهم، فقتل هذا الصحابي رجلاً من المشركين، رغم أنه عندما رفع السّيف عليه نطق بالشّهادتين، فبلغ ذلك النبيّ(ص).  

تقول السيرة أنّه(ص) غضب غضباً شديداً، ولم يقبل حجّة هذا الصحابي بأنّ الرجل قالها في اللّحظة الأخيرة لينجو من القتل، وردّ عليه(ص): “أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟”، وظلّ يردّد: لماذا يا أسامة قتلت هذا الرّجل؟ حينها قال أسامة: تمنيت حينها لو أسلمت الرّوح قبل هذا اليوم.

لقد أشارت كل هذه المواقف إلى صفة ميزت شخصية رسول الله، وهي صفة الغضب لله، فلم يكن رسول الله يغضب للدنيا أو يغضب لنفسه، ولذلك لم يغضب عندما كان يرمى بالحجارة وتوضع الأشواك في طريقه، وكان يكتفي بالقول: “اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون”، ولم يغضب عندما جذبه ذلك الأعرابي جذبة أثرت في صفحة عنُقِه، ثم قال: مُر لي يا محمّد من المال الذي عندك. واكتفى يومها بأن ابتسم في وجهه وأمر له بعطاء.

ولم يغضب يوم وقف أمام أهل مكّة الذين أذوه وحاصروه وتآمروا عليه وعلى المسلمين، بل اكتفى بالقول: “اذهبوا أنتم الطلقاء”..

لكن رسول الله(ص) كان يغضب لظلم مظلوم، أو لدمٍ سفك بغير وجه حقّ، أو لانتهاك حق إنسان أو لفقدان العدالة..

وهذا ما أشار إليه علي(ع): “كان النبيّ(ص) لا يغضب للدّنيا، فإذا أغضبه الحقّ لم يصرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيءٌ حتّى ينتصر له”.

إننا أحوج ما نكون إلى أن نغضب لله، أن نغضب عندما يساء إلى كرامة مؤمن أو نرى إنساناً يظلم، أو حقّاً يضيع، أو فقراء لا يجدون ما يسدّ رمقهم، وبذلك وحده نؤدّي حقّ رسول الله(ص) الكبير علينا ونكون من أتباعه وممن تأسوا به قولاً وعملاً ويستحقون الانتماء إليه.

في ولادة رسول الله(ص) لنتوجه بقلوبنا وأرواحنا إلى حيث هو في مدينته؛ لنقول له بقلوب تخفق معه وتنهج شوقاً إلى زيارة مرقده، وإلى أن نحظى بالقرب منه يوم شفاعته يوم يقوم الناس لرب العالمين..

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية من وصايا رسول الله(ص): “لا تَحاسدُوا، وَلا تناجشُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَدابرُوا.. وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْوانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم: لا يَظلِمُه، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا”.. وأشار ثلاثاً إلى قلبه قائلاً: “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.”..

لقد أراد رسول الله(ص) بذلك أن يؤكد تماسك المجتمع وتواده وتحابه وتراحمه ليكون خير مجتمع أخرج للناس، وأقدر على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان الذي تتصاعد فيه الأزمات والتحديات يوما بعد يوم على الصعيد الصحي حيث الأرقام صادمة في عداد فيروس كورونا التي لامست في آخر حصيلة عتبة الألفي إصابة، ما ينذر بكارثة صحية إن لم يتم العمل على تلافيها. وعلى الصعيد المعيشي يستمر ارتفاع أسعار السلع والمنتجات والمواد الغذائية، وصولاً إلى عدم توافر الأدوية ولاسيما للأمراض المستعصية والمزمنة وحتى لكورونا، وفي ازدياد أعداد العاطلين من العمل بسبب الإقفال المتزايد للمصانع والمؤسسات وهو ما بدت انعكاساته بارزة على حياة الناس حتى على الصعيد الأمني.

وفي ظل هذا الواقع ينتظر اللبنانيون ولادة حكومة جديدة تنتشلهم من كل هذا الوضع المأساوي الذي يعانون منه وتوقف الانهيار السريع الذي يدخل فيه البلد.

ونحن أمام هذا الواقع، ندعو مع كل اللبنانيين إلى الإسراع في تأليف هذه الحكومة وإزالة العقبات التي لا تزال تعترضها، ولا نريد لها أن تكرر التجارب الفاشلة للحكومات السابقة التي كانت السبب في إيصال البلد إلى ما وصل إليه، بل حكومة متجانسة كفوءة نزيهة فاعلة تترفع عن الأنانيات والمصالح الشخصية والفئوية، لحساب الوطن كله، وهنا ندعو القوى السياسية التي ستتمثل فيها لاستعادة الثقة التي فقدتها في خلال الفترة الماضية والتي أدت إلى ارتفاع الأصوات للتنديد بها لتثبت أنها قادرة على إنقاذ هذا الوطن ومعالجة أزماته..

إننا نرى ان نجاح الحكومة لا يتوقف على ضوء أخضر دولي أو إقليمي لإزالة العوائق من أمامها، على أهمية ذلك، بل على ثقة الشعب اللبناني  الذي لن يسكت أبداً أمام الذين يتلاعبون بمصيره ومصير أبنائه ومستقبل وطن ارتضوه لأنفسهم…

في هذا المجال، تعود إلى الواجهة قضية مصير أعداد كبيرة من الطلاب ممن يدرسون في الخارج والذين لم يتمكن أهلهم من تأمين الدولار بالسعر المتداول في السوق لإكمال دراستهم، بعدما لم يطبق القرار الذي اتخذ من قبل المجلس النيابي بفعل مماطلة المصرف المركزي بتنفيذه.

إننا نؤكد ضرورة معالجة هذه القضية رأفة بهؤلاء الطلاب وبأهاليهم وبهذا الوطن الذي لا نريد أن يتخلى تحت وطأة الوضع المالي والنقدي عن أبنائه وعن طاقاتهم فهم يمثلون رأسمال هذا الوطن ومستقبله الواعد.

ضمن هذه الأجواء لا بد من أن لا يغفل اللبنانيون عن المناورات التي يقوم بها العدو الصهيوني، وكان آخرها تلك التي جرت قبل أيام والتي تحاكي حرباً يستعد لها على جبهتي سوريا ولبنان..

إننا نريد للبنانيين جميعاً ألا يناموا على حرير لأن العدو لن يكف عن اقتناص الفرصة للنيل من هذا البلد الذي أذله ويده دائماً على الزناد، حتى وهو يفاوض على ترسيم الحدود، وليس أمام اللبنانيين في مواجهته إلا الوحدة والحفاظ على عناصر القوة فيه..

ونتوقف عند ما جرى بالأمس في فرنسا، لندين الاعتداء الذي استهدف المصلين في الكنيسة، في الوقت الذي ندعو فرنسا إلى طي ملف الإساءة إلى مشاعر مليار ونصف مليار مسلم، والذي أصبح من الواضح أنه يؤدي إلى أن يدخل على خطه من يسيئون إلى صورة الإسلام وقيمه ويقدمون صورة مشوهة عنه كما يسيئون إلى الأبرياء في فرنسا..

وأخيراً، وفي ذكرى ولادة رسول الله(ص)، نتوجه إلى كل المسلمين وكل الذي تمتلئ قلوبهم بالمحبة والرحمة ويعيشون القيم الإنسانية بالتهنئة بولادة هذا الذي أرسله الله رحمة للعالمين وبلسماً لجراحهم وآلامهم وللنهوض بهم حيث الخير والحق والعدل والأخذ بالقيم الأخلاقية والإنسانية.