دعا إلى وأد الفتنة عبر الاسراع بتشكيل حكومة جامعة فضل الله: ليس العدو هذا المذهب أو تلك الدولة انما العدو اسرائيل

ألقى سماحة العلامة السيِّد علي فضل الله كلمة بعد قراءة المصرع الحسيني في مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشَّخصيات السياسيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة وحشد غفير من المؤمنين، وجاء فيها:

 

مبارك لكم كلّ هذه الدّموع الطاهرة الّتي تنبعث من قلوب امتلأت حبّاً للحسين وأصحابه وأهل بيته، ممن بذلوا مهجهم وأرواحهم لأجل أن يبقى الإسلام حياً، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإصلاح أمة رسول الله، لأجل أن لا يبقى إنسان متألم ومعذّب ومظلوم. هي ليست دموع الضعفاء والمنهزمين، هي دموع تنبض بالعزة والعنفوان. هي دموع تنهمر ومعها القبضات المرفوعة، و¬ المواقف العزيزة التي تخاطب المستكبرين والمحتلين والفاسدين. "لا وَالله لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل، وَلا أقِرُّ لكم إقِرارَ العَبيد.. هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون" هي دموع  واعية تعرف اعداءها جيداً هم كل مستكبر وغاز ومحتل.

أيّها الأحبّة، نحن اليوم نؤكّد من خلال كل حضورنا لمجالس عاشوراء، أنّنا منحازون، وبشكل كامل وبدون أي تردد إلى منطق الحسين وأصحابه وأهل بيته، رغم أننا نعرف أنّ هذا الموقف كما كلّف الحسين وكل الذين كانوا معه قد يكلّفنا دماءاً وتضحيات وحصاراً سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لكن كل هذا لن يغيّر شيئاً في قاموسنا.

أيها الإخوة والأخوات،

إن ما جرى في كربلاء لم يكن بين جيشين تقاتلا وانتهت المعركة بقدر ما كان بين منطقين وأسلوبين لا يزالان يتصارعان في الحياة؛ فالّذين وقفوا في وجه الحسين(ع) كان منطقهم حب الدنيا، كما هم عبّروا، ولأجله باعوا قيمهم ومبادئهم. منطق الاستئثار والسّيطرة، منطق الخائفين، منطق القساة الذين يستبيحون حتى أقدس المقدسات لحساب "اشهدوا لي عند الأمير".. وفي المقابل منطق الحسين(ع) وأصحابه وأهل بيته، منطق الوعي، منطق الإصلاح، منطق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، منطق الحوار والكلمة الطيّبة، منطق المضحين والغيورين الذين يقولون: "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه…"، منطق: "إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظّالمين إلا برما".. منطق "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله"… منطق القرآن ورسوله(ص)…

أيّها المواسون، لم تكن عاشوراء بعيدة عن حركة رسول الله(ص)، هي استمدت منها حركتها وشعارها وأسلوبها.. هي تأكيدٌ لما دعا إليه رسول الله وإحياءٌ لما جاء به، ومن هنا كان عنوان ثورته عندما قال: أيها الناس، إني سمعت رسول الله يقول:"مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، ولم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه".

"إنِّي‌ لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلاَ بَطِراً، وَلاَ مُفْسِداً وَلاَ ظَالِماً؛ وَإنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاَحِ فِي‌ أُمَّةِ جَدِّي‌؛ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى‌ عَنِ الْمُنْكَرِ".

ولذلك نقول إنّ عاشوراء إسلاميّة في منطلقاتها وأهدافها وحركتها، وينبغي أن تكون إسلاميّة في الإحياء.. أن تُحيا عاشوراء من خلال الأساليب الّتي تتناسب مع الإسلام في شريعته، وتساهم في توسعة حضوره.. أن تكون أساليبها طاهرة تستلهم الحسين وأصحاب الحسين وتعبر عنهم. ومن هنا نقف أمام كل الأساليب التي نرى فيها مخالفة لحكم سرعي كمثل الممارسات التي فيها إذاء للجسد، كالتطبير وضرب الظهور بالسلاسل والتي تسيء إلى صورة عاشوراء وطهارتها وقدسيتها. نريد لعاشوراء أن تكون ذكرى جامعة يلتقي على إحيائها كلّ المسلمين كما كلّ إنسان يريد أن يعيش بعزّة وكرامة ..

ومن هنا، فإنّنا نعيد الدّعوة لكلّ المسلمين، إلى التلاقي إحياء عاشوراء، ولا نكتفي بالمشاركة فيها ، رغم أهميّة أن يشارك كلّ المسلمين في إحياء هذه المناسبة، بل أن نحييها معاً من خلال تربية كل أجيال المسلمين على شعاراتها وروحيّتها وأهدافها وحيوتها، فلا يستفيد منها بعض المسلمين دون البعض الآخر. أن نعمّق شعاراتها على أرض الواقع ، أن نتعاون من أجل إصلاح أمّة رسول الله في أن نقف معاً في مواجهة الفساد والظّلم والطّغيان.. سواء كان ظلماً داخليّاً أو عالميّاً..  أن نكون كالجسد الواحد في مواجهة من يتحدّى الإسلام في فكره وحضوره، ويتحدّى المسلمين في عزّتهم وحرّيتهم.. إنّنا نقول لكلّ المسلمين: تعالوا لنتوحّد على عاشوراء كما توحدنا على رسول الله، فالحسين من رسول الله ورسول الله من حسين. (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحبّ حسينا)

أيها الإخوة والأخوات،

عاشوراء لا نريدها أن تكون مناسبةً نبقيها في التاريخ فيما واقعُنا يضج بالفساد والظلم فلا نحرّك في مواجهته لساناً ولا يداً ولا قلباً، نترك له الحرية ليتحرك مستفيداً من صمتنا، من خوفنا، واتكاليتنا. فلا يمكن أن يكون هناك من يحيي ذكرى الحسين ويستكين لظالم أو مستكبر أو يقبل بظلم أو طغيان أو فساد. لقد صنع الحسين وأصحابه وأهل بيته عاشوراءهم. هم لن يكتفوا منا أن نبكيهم، أن نلبس السواد عليهم. بل أن نكون معه، في الموقع الذي كانوا فيه بحيث نقف كما وقفوا مع الحق ضد الباطل، مع لعدل ضد الظلم، مع الإصلاح ضد الفساد، مع الله ضد شياطين الإنس والجن. لا نجامل أحداً على حساب مبادئنا وقيمنا.

أيّها المواسون، تطلّ علينا عاشوراء وهناك أكثر من قضية تلحّ علينا. القضية الأولى والتي هي أم القضايا، قضية فلسطين، حيث تمرّ هذه الذكرى و لايزال العدو الصهيوني يعبث ببشرها حجرها ومقدساتها.

في ذكرى عاشوراء، لا يمكن لنا كحسينيين إلا أن نقف مع هذه القضية لكونها قضية عزّة وكرامة وحقوق مسلوبة ومصادرة،  ومن هنا  سنبقى نقف مع الشّعب الفلسطينيّ المظلوم، وندعمه بكلّ الوسائل المتاحة، فلا تُنسى هذه القضية كما يراد لها أن تنسى في ظل انشغال العالم العربي والإسلامي بأزماته والفتن التي تحصل فيه، وأن نتحرّك إعلاميّاً وسياسيّاً مع كلّ القوى العربيّة والإسلاميّة المناهضة للاحتلال الصّهيونيّ، لإظهار أنّ ما يتحرّك من مفاوضات بين العدوّ والسّلطة الفلسطينيّة، ليس إلا للاستهلاك الإعلاميّ، ولتقطيع الوقت، ريثما ينتهي العدو من مشروعه الاستيطاني وتهويد القدس.

في ذكرى عاشوراء، تعالوا نتوحّد جمعياً، مسؤولين وعلماء ومثقفين ، للدعوة إلى إيقاف نزيف الدم الذي تشهده سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا والبحرين … والتي تستنزف كلّ مواقع القوّة في العالم العربي والإسلامي، وكل الفتن التي يضجّ بها واقعنا سواء طائفية أو مذهبية أو بين الدول العربية والإسلامية، وهي تستفيد أكثر ما تستفيد من انعدام لغة الحوار والمنطق التكفيري الإلغائي والجهل والتخلف، واستُبدل العدو حتى صار هذا المذهب أو هذه الطائفة أو هذا البلد العربي أو الإسلامي أو هذا الموقع المقاوم، فيما العدو الأساس هو من يريد الاستئثار بأرضنا وثرواتنا ومقدساتنا، وهو الذي ينبغي أن تُوجه كل طاقاتنا في مواجهته. إننا بحاجة إلى تعميق لغة الحوار والتواصل ومد الجسور ومعالجة الخلافات بروح من التسامح والانفتاح.

وفي هذا المجال، فإننا نأمل أن تساهم كل دعوات الحوار، سواءً كانت على المستوى الإسلامي، أو الإسلامي المسيحي، أو في داخل الدول العربية والإسلامية، أو فيما بينها، أو بينها وبين الغرب. في علاج الكثير ممّا نعاني منه في واقعنا، وتبريد الأزمات التي باتت تستهلك الحجر والبشر. وندعو إلى تعزيز فرص نجاحها حيث لا علاج للكثير مما نعاني منه إلا بالحوار المبني على قاعدة لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين. فالعنف لا يؤدي إلا إلى العنف، والتوتير لا يتنج إلا توتيراً. هذا ما نريده في علاقة

هذا ما نريده أيضاً لهذا البلد لبنان، والذي بدأت تطل الفتنة إليه في أكثر من موقع والخوف المتزايد من تفجير هنا أو هناك. والذي يعاني من تأثيرات محيطه عليه، في ظل انقسام داخلي وعدم انتظام عمل المؤسسات، فضلاً عن تهديد العدو الصهيوني، مما بات يفرض على الجميع المسارعة لتأمين مناخات الحوار والتواصل، والعمل سريعاً لتشكيل حكومة جامعة، والخروج من الخطاب المتشنج والمتوتر، حفظاً لهذا البلد مما ينتظره في داخله على إنسانه في معيشته وأمنه، ومن خارجه نتيجة الظروف التي تحيط به.

أيّها المواسون، في ذكرى عاشوراء، عاشوراء التضحية والفداء، نحن بحاجة لاستلهام هذه القيمة، لنضحي بعصبياتنا، بأنانياتنا، بمصالحنا الطائفية والمذهبية لحساب أوطاننا، ولأجل مستقبل أجيالنا.

في ذكرى عاشوراء الإصلاح، لتُبذل كل الجهود لإصلاح واقعنا الاجتماعي والأخلاقي والقيمي كما إصلاح واقعنا السياسي والاقتصادي والأمني، لنحفظ مجتمعنا، ونبقيه قوياً قادراً على مواجهة التحديات.

في ذكرى عاشوراء الجهاد والمقاومة، نشدّ على أيدي المقاومين المجاهدين الذين يقفون في الخطوط الأمامية، يحفظون البلد من العدو الصهيوني الذي يعمل بكل يوم على استباحة بره وبحره وجوّه.

في ذكرى عاشوراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليعمل كل منا على أن يتحول إلى رافض للمنكر داع للمعروف، كي لا يتحول المعروف إلى منكر، والمنكر إلى معروف، وتتبدد المفاهيم والأفكار والعقائد.

بذلك نخلص للحسين ولأصحابه وأهل بيته، وللدماء الزاكيات في كربلاء.

السّلام على الحسين.. وعلى أبناء الحسين.. وعلى أصحاب الحسين..

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله      

التاريخ: 10 محرم 1435هـ    الموافق: 14 تشرين الثاني 2013م

Leave A Reply