دماءُ الحسينِ (ع) تُثمِرُ وتنتصِرُ على الظّالمين

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه: {و َلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }[يونس: 13]. صدق الله العظيم.

مهمّةُ زينبَ (ع) بعدَ كربلاءَ

ما إن انتهت معركة كربلاء، حتى أخذت زينب (ع) قرارها بأنَّ عليها أن تجمّد عاطفتها، رغم كلّ مشاعر الحزن التي كانت تعيشها على الدماء الغالية التي نزفت في كربلاء، لأن الوقت لم يكن لإبداء العاطفة، بل للعمل أوّلاً، التزاماً منها بوعدها لأخيها، عندما قال لها: ” يا أخيّة، إنّي أقسمت فأبرّي قسمي؛ لا تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثّبور …”.

وثانياً، لأنها رأت أنَّ مسؤوليَّتها أن لا تسمح ليزيد ولا لعبيد الله بن زياد ولا لعمرو بن سعد أن يشعروا بنشوة النّصر، وأن يحقّقوا أهدافهم التي كانت تتمثّل بدفن ثورة الإمام الحسين (ع) في صحراء كربلاء، ومعها الأهداف والشعارات التي لأجلها انطلق الحسين (ع) بثورته، ولأجلها استشهد هو وأصحابه وأهل بيته.

كانت ترى أنّ من واجبها أن تُعرّف الناس بما جرى، وأن تزيل من أذهانهم كل التشويه الذي عمل له بنو أميّة منذ انتهاء المعركة، وأن تفضح للنّاس حقيقة يزيد ومشروعه التدميري للإسلام وللمسلمين.. هذا ما فعلته طوال طريق السّبي في الكوفة عندما اجتمع الناس إليها، أو في مجلس ابن زياد، وفي الطريق من الكوفة إلى الشّام، وفي مجلس يزيد، وبعد أن حطّت رحالها في المدينة المنوَّرة.

لقد استطاعت زينب (ع) أن تحدث تغييراً في كلّ مكان توجّهت فيه أو خطبت، حتى بلغ تأثيرها أنّ والي المدينة ضجّ منها، وأرسل إلى يزيد أنّ زينب بنت عليّ وأخواتها يؤلّبون الناس لمواجهة حكم بني أميّة، والمدينة سائرة إلى الثّورة، لا محال، إن بقيت. فكتب إليه يأمره بإخراجها من الحجاز، وأن يفرّق بينها وبين الناس، وعندما عرض عليها الوالي أمر يزيد بن معاوية، قالت له: ” قد علم الله ما صار إلينا؛ قُتِل خَيرُنا، وانسَقنا كما تُساق الأنعام، وحُمِلنا على الأقتاب من بلد إلى بلد، فوالله لا خرجنا وإن أهريقت دماؤنا “.

وتلاقى هذا الدور مع دور الإمام زين العابدين (ع) الذي عمل على بناء الوعي من خلال دعائه وكلماته، وعلى إثارة العاطفة والتذكير بالجريمة التي حصلت في كربلاء كلّما سنحت له الفرصة.

وفي هذه الأجواء، جاءتها بنت عقيل وقالت لها: ” يابنة عماه، قد صدقنا الله وعده، وأورثنا الأرض نتبوّأ منها حيث نشاء, فطيبي نفسًا، وقرّي عينًا، وسيجزي الله الظالمين, أتريدين بعد هذا هوانًا؟ ارحلي إلى بلد آمن “.. ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم، وما زلن بها، حتى اختارت مصر، أو الشّام، على اختلاف الروايات.

النّقمةُ على يزيدَ

وقد أثمرت كل هذه الجهود نقمة على يزيد وعلى الحكم الأموي، لذا حاول تغيير سياسته شكليّاً، فعزل واليه الوليد بن عتبة لقساوته، وعيَّن والياً قريباً من أهل المدينة. وطلب يزيد من الوالي أن يرسل إليه وفداً من زعمائها لاستمالتهم إليه، فذهب الوفد إليه، وكان برئاسة عبد الله بن حنظلة، وقد سمي والده بغسيل الملائكة، لأنه عندما سمع منادي رسول الله (ص) يدعو للخروج إلى معركة أحد، وكان في ليلة زفافه، خرج واستشهد في المعركة، فقال رسول الله (ص) إن الملائكة غسّلته، فسمّي بغسيل الملائكة.

وعلى طريقة بني أميّة، كان يزيد يعتقد أنّه بالمال يستطيع أن يكسب قلوب زعماء المدينة، وأن يقرّبهم منه ليسكتوا على جريمته، ولكن خاب ظنّه.. فبعدما عاد الوفد من الشّام، وبعدما رأوا بأمّ أعينهم الحقيقة؛ حقيقة يزيد الّتي أشار إليها الحسين (ع) عندما قال: ” يزيد رجل فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله “، قالوا: لقد وجدنا رجلاً لا يعرف الدّين ولا الإسلام، وليس أهلاً لخلافة المسلمين، وإنَّا نشهد أنّنا خلعناه فاخلعوه.. وفعلاً، قرّر أهل المدينة خلع يزيد وإعلان البراءة منه، وقال ابن حنظلة: والله لو لم يكن معي أحد، لقاتلته بنفسي وولدي ومن معي من أهلي.

الثّورةُ على الأمويّين

كان هذا الكلام إعلاناً من أهل المدينة الثّورة على يزيد وعلى الأمويّين، وأعلنوا خروجهم على حكم يزيد، فعزلوا والي يزيد على المدينة، وحاصروا الأمويّين الذين اجتمعوا آنذاك في منزل أحد زعماء بني أميّة مروان بن الحكم، واشترطوا لفكّ الحصار عنهم أن يغادروا المدينة مسالمين، وأن لا ينضمّوا إلى من يقاتلهم في المستقبل، ولكنّ هؤلاء نقضوا العهد بمجرّد أن خرجوا من تحت الحصار.

وهنا نشير إلى أنّ مروان بن الحكم هذا الذي كان يقود الأمويّين في المدينة، لما أراد الخروج من المدينة، راح يبحث عمّن يضع عنده عائلته، فلم يقبل أن يودعها عنده سوى الإمام زين العابدين (ع)، وكان عدد أفرادها ثلاثمائة نفر، فقال له: اجعل عيالك مع عيالي، ففعل ذلك، رغم كلّ أفعال مروان تجاه أهل البيت (ع) وكراهيته لهم، فمروان بن الحكم شارك في الحرب على عليّ (ع) في الجمل وصفّين، وفي منع الحسين (ع) من دفن أخيه الحسن (ع) إلى جنب جدّه رسول الله (ص)، وهو من أشار إلى والي المدينة عندما استدعى الإمام الحسين (ع) ليبايع يزيد، بقوله له: لا تدعه يخرج حتى يبايع، وإلا فاضرب عنقه. لكنّ الإمام زين العابدين (ع) ما كان يريد أن يحمّل عائلته مسؤوليَّة جرائمه.

وقد أشارت إحدى بنات مروان بن الحكم إلى مدى الرّعاية التي حظوا بها عند الإمام زين العابدين (ع)، فقالت: والله، لقد وجدنا من الرعاية من الإمام زين العابدين (ع) وتفقّده لنا ما لم نجده من أبينا.

واقعةُ الحرّةِ

لما وصل خبر ثورة أهل المدينة إلى يزيد، وخلعهم لواليه، وإخراجهم بني أميّة منها، أرسل لذلك جيشاً من الشّام بقيادة مسلم بن عقبة تجاوز عديده الثّلاثين ألف فارس، فهاجموا المدينة على حين غرّة، واستباحوها ثلاثة أيام، وقد ارتكبوا خلالها أبشع الجرائم، واعتدوا على الأعراض والأموال، وأعملوا القتل في الرجال والنساء والشيوخ.. وقد سقط نتيجة ذلك عدد كبير من الشّهداء، ووصل العدد، كما ورد عن أحد المؤرّخين، إلى أحد عشر ألفاً وسبعمائة شخص، منهم سبعون رجلاً من حفّاظ القرآن، وثمانون من صحابة رسول الله الأجلاء.

لقد شكّلت هذه الواقعة التي سميت بواقعة الحرّة، وحدثت بتاريخ 13 من شهر محرَّم العام 63 للهجرة، أي بعد ثلاث سنوات من استشهاد الإمام الحسين (ع)، استمراراً للنهج الأمويّ، وأظهرت مجدَّداً مدى طغيان يزيد وجبروته.

صحيح أنّ هذه الفاجعة انتهت بهذه الصّورة الأليمة، لكنّها أكَّدت قوّة الإرادة والعزيمة التي تجذّرت في النفوس بعد كربلاء في مواجهة الحاكم الظّالم، رغم قلّة العدد والقدرات، وهي مهّدت لثورات لاحقة هزّت أركان الحكم الأمويّ وأسقطته في نهاية المطاف، وأشارت بذلك إلى الحقيقة القرآنية التي تقول: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }[الشّعراء: 227].

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم بوصية الحسين (ع) لنا عندما قال: ” أيّها الناس، إنَّ رسولَ اللَّهِ (ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِ الله، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه.. ألا إنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ، وتَولّوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ، وعطّلوا الحدودَ، واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر “..

فلنستوص بوصية الحسين (ع)؛ أن لا نسكت على ظالم أو فساد فاسد أو متلاعب بأموال الناس ومصائرهم، أو عاصٍ لله، أو من يحرّم حلاله ويحلّ حرامه.. وأن يكون لنا موقفنا بأن نغيّر بالكلمة، بالموقف.. وأن نري هؤلاء أننا غير راضين عما قاموا به، أن نغيّر الواقع، ولكلّ أسلوبه، ولكل مرحلة أوانها وبعين البصيرة..

لم تنته عاشوراء بانتهاء موسمها، هي بدأت بعد أن تزودنا من معينها، وعلينا أن نُري الحسين (ع) صدق دموعنا وصدق مشاعرنا.

والحسين (ع) لا يريد ذلك فقط بالدموع وحضور المجالس، أو بإقامة المآدب على اسمه، هو يريد ذلك بالمواقف العزيزة والحكيمة، ومتى فعلنا ذلك، سنكون أقدر على مواجهة التحديات..

واقعٌ مأزوم

والبداية من لبنان الّذي تستمرّ فيه معاناة اللبنانيين الحادة على صعيد المحروقات، رغم القرار الذي صدر عن حاكم المصرف المركزي برفع الدّعم عنه، لعدم قبول أيّ من القيادات المعنيّة بتثبيت هذا القرار وتحمل تبعاته، والتي هي كارثية على المواطنين.

ولذلك، يستمر مشهد طوابير السيارات الطويلة على محطات الوقود إن توفّر فيها، وفي ظلّ عدم توفر مادة المازوت الضّرورية لتسيير المولدات الكهربائية والأفران والمستشفيات والمصانع، فيما تتفاقم أزمة الكهرباء والأعطال التي حصلت في عدد من محطاتها، وأزمة الدواء الذي يكاد يختفي من الأسواق، والارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية..

هذا إلى جانب الفوضى الأمنية التي بدأت تطلّ برأسها، وإن بشكل محدود، عبر حوادث إطلاق النار أو تزايد السرقات وغيرها.

أمام هذا الواقع المأزوم، ندعو اللبنانيين إلى التعاون فيما بينهم، وأن لا يكونوا سبباً لزيادة معاناة بعضهم البعض، إذ من المعيب ما شاهدناه من التخزين لمادّتين أساسيتين تمثّلان السبب الأكبر في هذه المعاناة، والذي كشف عن مدى الجشع لدى المحتكرين، سواء أكانوا أفراداً أم جهات، وعدم مبالاتهم بوجع الناس ومعاناتهم، والتي لا تمسّ حاجاتهم فحسب، بل قد تمسّ حياتهم.

وهنا نثمِّن الخطوات التي قام بها الجيش اللبناني والقوى الأمنية لضبط هذه الكميات ومصادرتها وتوزيعها على المحتاجين إليها.

وهنا، لا بدّ أن نشدد على حرمة هذا الاحتكار، وأنّ من يقوم به هو سارق لمال اللبنانيين، لأن الدعم يأتي منهم، ومن يقوم بذلك هو خائن لوطنه.

ونحن نأمل أن تستمر القوى الأمنية بهذه الخطوات، وأن لا تتوقف تحت أيّ اعتبار، وأن تشمل قطاعات أخرى هي محلّ للتخزين، كالدواء والغذاء، وأن يكون ما قامت به حافزاً للوزارات المعنيّة والبلديات على القيام بالدور المطلوب منها، إن على صعيد كشف مستودعات الاحتكار أو ضبط الأسعار.

مبادراتٌ لتخفيفِ العبء

ونتوقّف عند المبادرات الأخيرة التي صدرت بالتّخفيف عن المواطنين بتأمين مادّة المازوت من إيران، أو الخطوة التي تبعتها باستجرار الكهرباء لدعم محطّات توليد أو لصيانتها؛ لننوّه بأيّ مبادرة تخفّف من آلام اللّبنانيين وتحلّ مشاكلهم، بعد أن أصبح واضحاً مدى حاجتهم إلى يد ممدودة تريد خيراً لهذا البلد، ولا تُلقي عليه أعباء أو أيّ تبعات.

وهنا ندعو الناس الذين يسارعون إلى تسييس القضايا وتطييفها أو رفضها، إلى أن يكونوا سنداً لأيّ خطوة تخفف عن كاهل المواطنين، وأن يساعدوا على إزالة العقبات من أمامها، أو أن يقوموا بمبادرات مماثلة، ولا سيما عندما تأتي ممن كانوا حريصين على هذا الوطن وقدّموا التضحيات في سبيله.

هل تتشكّل الحكومة؟

في هذا الوقت، لا يزال اللبنانيون ينتظرون تشكيل حكومة تخفّف من هذا الكمّ الهائل من الأزمات، فيما المعنيّون بتأليفها لا يزالون غارقين بالحصص والأسماء ومن سيكون له الحظوة، ليكون سلَّماً له على الصعيد الانتخابيّ، لتضيف رصيداً إلى مستقبله السياسي في وجه خصومه أو في الاستحقاقات القادمة.

إننا نأمل أن تكون الأجواء التفاؤلية التي نستمع إليها هي أجواء حقيقيّة، وأن لا تكون تعمية عما يجري في كواليس المداولات.

إن من المعيب أن تحدث كل هذه الكوارث، والتي تهدد حياة اللبنانيين وغذاءهم وسبل شفائهم ومتطلّباتهم الأساسية وأمنهم، فيما يستمرّ الواقع السياسي المأزوم على حاله من إدارة الظهر، وكأن البلد بألف خير واللبنانيون ينتظرون.

إننا نجدّد ما قلناه سابقاً، أيها المسؤولون: اتّقوا صولة العزيز إذا جاع، والمريض إذا لم يجد الدّواء أو مستشفى، أو صاحب الحاجة إن لم يجد حاجته…

عدوانٌ مدان

ونتوقّف عند العدوان الإسرائيلي الذي حصل ليلة أمس، وبالشكل الذي حصل من استباحة جديدة للأراضي اللبنانية، وسعيه لتخويف اللبنانيين.

إننا في الوقت الذي ندين هذا العدوان، نريد لكلّ اللبنانيين ذلك، لأنه مسٌّ بسيادة لبنان، وينبغي أن تهمّ كلّ السياديّين.. وهو في الوقت نفسه، تهديد مباشر وغير مباشر لهذا البلد، لا لسوريا فقط، لا سيما أنه يواكب باستعدادات وتدريبات يقوم بها العدوّ الصهيوني لكيفية المواجهة مع القرى والمدن اللبنانيّة، وتهديده المستمر للدولة اللبنانية..

إننا لن نخاف من هذا العدوّ، ولكنّنا نخاف أن تصبح استباحته للأراضي اللبنانية قضية خلافية.

ونتوقف أخيراً حيال ما جرى في أفغانستان، والذي كشف عن قدرة أبناء هذا البلد على فرض خيارهم على المحتلّ لأرضهم ومنعه من الاستمرار في احتلاله.

إننا نهيب بمن يتولون المسؤوليّة أن لا يكونوا وقوداً لفتنة بين مكوّناته أو لمحيطهم، بل أن يوحدوا مكوّنات هذا البلد بكلّ طوائفه وقبائله، ليكونوا عنصر استقرار في هذه المنطقة التي يراد لها أن تتفجر بالصراعات بين مكوّناتها.