رسول الله (ص) القائد و القدوة

 

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

  {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

نلتقي في هذه الأيّام بالولادة العطرة لرسول الله(ص)، وهذه الذّكرى ليست كأيّ ذكرى بالنّسبة إلينا، ولا هي للتّذكير برسول الله، فهو(ص) حاضر دائماً معنا، حاضر في أذاننا حين ينادي المنادي: "أشهد أنَّ محمداً رسول الله"، وحاضر في صلاتنا وفي حجّنا وعند قراءتنا القرآن،  وهو حاضر في كلّ مرّة نستجيب لنداء الله: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب: 56].

القدوة والأسوة

لهذا، في كلّ محطّة من مناسباتنا الّتي تتعلّق برسول الله، تكون لنا فرصة لنغرف من معين سيرته العطرة، نتأمّلها، نتزوّد منها، وقلوبنا تفيض فرحاً وحبّاً وبشراً بهذه النّعمة الّتي أنعم الله بها علينا، ومنّ بها علينا، أن اصطفى خير خلقه ليكون خير قدوة وأسوة لنا..

وشخصيّة رسول الله أكبر من أن نحيط بها أو أن نحصرها أو نختصرها بفهم محدود أو حرفيّ، فهو مدينة علم ومدينة أخلاق ومدينة رحمة وتسامح ومحبّة ورفق ورفعة ومنعة.. وقد تجلّت رحمته وتسامحه مواقف شهد لها القاصي والدّاني من الأصدقاء والأعداء ومن مفكّري البشريّة وفلاسفتها، يكفي أنّ الشّهادة برحمته جاءت من ربّ العالمين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.. حيث كانت كلّ حياته وسيرته مجبولةً بالرّحمة والتّسامح والمحبّة، ولا حدَّ فاصلاً بينهما.. هو الرّحمة بذاتها..

من هدي النبوّة

رحمته(ص) جعلته يتفقّد ذلك الرّجل اليهوديّ الّذي اعتاد ليلاً أذيّته ورمي القاذورات والأشواك أمام بيته، فلمّا انقطعت، ذهب ليزوره ويسأله عن حاله، ويبدي استعداده لمساعدته ومساعدة عياله. موقف يهزّ الرّجل، فيقبل على رسول الله وهو يقول: "إبسط يا رسول الله يدك لأبايعك"، ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّـك رسول الله".

ورحمة رسول الله وتسامحه منعاه حتّى من أن يدعو على المشركين بسوء يوم أُحُد، في ذلك اليوم شُجّ رأسه الشّريف، وكسرت رباعيّته، وقُتل عمّه الحمزة، ومُثّل بجسده، وقتل وجرح العشرات من المسلمين، يومها تقدّم بعض الصّحابة إلى النبيّ(ص)، واقترحوا عليه أن يدعو على المشركين ليعذّبهم الله، كما كان يعذب الكفّار من الأمم السّابقة بدعوة أنبيائهم عليهم، لكنّه(ص) امتنع عن ذلك وقال: "إنّي لم أبعث لعّاناً، ولكن بعثت داعياً ورحمةً"، ثم قال: "اللّهمّ اِهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"

أيضاً رحمته وسموّه ورفعته جعلته يدعو بالخير والهداية لأهل الطائف الّذين وكّلوا سفهاءهم ليرشقوه بالحجارة، حتّى أدموا قدميه وأصابوه في أكثر من مكان…

وعندما نذكر تسامح رسول الله ورحمته، لا بدّ من أن نقف عند موقفه التاريخيّ لما عاد فاتحاً مكّة؛ مكّة الّتي ذاق فيها العذاب، مكّة الّتي قال عنه أهلها ساحر ومجنون، حاصروه ثلاث سنين،  أكل هو ومن معه من ورق الشّجر، تآمروا عليه بالقتل، عذّبوا أصحابه وسلبوهم أموالهم وديارهم، وشنّوا عليه الحرب تلو الحرب، يومها وقف جميع أهل مكّة، وقد امتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً، وهم يفكّرون فيما سيفعله بهم محمّد بن عبد الله لهم، بعد أن نصره الله عليهم، وسط كلّ هذا الخوف، انطلق صوت رسول الله الحاني: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطّلقاء"…

بهذا الفيض المتدفّق من رسول الله، استطاعت رسالته أن تخترق تلك العقول المتحجّرة والقلوب القاسية، وإلى ذلك أشار الله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].

رسالة لصناعة الإنسان

أيّها الأحبّة: هذا هو خُلُق رسول الله، خلق الإسلام؛ الإسلام الّذي جاء ثورةً من أجل الإنسان وبناء الإنسان قبل بناء الحجر، وكان الرّسول(ص) القدوة والأسوة في شقّ طريق هذه الثّورة.

ما قام مصلح أو مفكّر، أو قائد، أو فاتح بتأسيس حكم أو دولة أنتجت حضارة إلاّ وبنى قواعدها على أسس خاصّة تميّزها؛ على القوّة والبأس، أو التّجارة، أو العمران والفنون، أو الزّراعة، أو العلوم أو على غير ذلك. لكنّ كلّ تلك الحضارات والمدنيّات كانت لا تلبث أن تضعف، يتسلّل إليها الفساد، فتسقط، ويطويها الزّمن.

وحده الإسلام، بدأ حضارته من بناء الإنسان وصناعة الإنسان، بدأ نواة، واستطاع أن يثبت دعائمه وسط مجتمع ديدنه السّلب، والنّهب، والجهل، والانحطاط، والقسوة، والعصبيّة، وفي زمن لا يفرّق أهله بين حقّ وباطل..

كلمة السّرّ في مسيرة نجاحه هي الأخلاق، لقد أدار الإسلام رحاه على محور الأخلاق، أرسى قواعده الأولى في صدور المؤمنين، قبل أيّ مهمّات أخرى.

ولأنّ الإسلام هو دين الحياة حتّى تقوم السّاعة، فقد شاء اللّه أن يكون خاتم أنبيائه نبيَّ نفسه قبل أن يرسله إلى النّاس. لهذا رعاه سبحانه وتعالى في أفعاله وأقواله وفي كلّ مراحل حياته، ونقله من صلب طاهر إلى صلب ليأتي كما أراده…

وحين نقرأ سيرة الرّسول محمّد(ص)، نقع على سيرة إنسان كان معجزة في حسن الخُلُق، قبل مبعثه وبعده، قولاً وفعلاً، ولهذا يصفه اللّه في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهو الّذي قال عن نفسه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ولو لم يكن محمد بن عبدالله معجزةً في الصّبر والحلم والحكمة وسموّ الأخلاق والرّأفة والتّسامح، لما استطاع أن يحطّم الأصنام في القلوب والنّفوس، قبل أن يحطّمها في الكعبة وما حولها.

قولٌ وعمل

أيّها الأحبّة: لقد بنى رسول الله علاقتنا معه على أساس العمل، وقد عبّر عن ذلك عندما قال لعمّه العبّاس: "يا عبّاس بن عبد المطلب، يا عم رسول الله، اِعمل لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيّة بنت عبد المطلب، يا عمّة رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، يا بنت رسول الله، اِعملي لما عند الله فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً…"، ثم قال: "ألا إنّه لا ينجي إلا عمل مع رحمة".

في ذكرى رسول الله، نحن مدعوّون إلى أن نشارك الكون فرحته، نشارك الكائنات  والأفلاك والأكوان، فالذّكرى هي ولادة من جاء رحمةً للإنسان، وخاتم رحلة الوحي بين الأرض والسّماء ..

في هذه الذّكرى، مطلوب منّا أن نعبّر عن فرحتنا بأساليب راقية وبأساليب تليق بنبيّنا.. قد يؤخذ علينا أنّ تعبيرنا في مناسبة ولادة رسول الله قاصر ولا يرقى إلى مستوى الفرحة الّتي في داخلنا، ربما لأننا نخشى أن يحصرنا الاحتفال بالشّكل والبهرجة، ونستغرق فيه، وننسى المضمون، ولكن هذا لا يعفينا من مسؤوليّتنا؛ أن ننشر الفرح مع رعاية الشّكل والمضمون.

لهذا، نحن ندعو إلى أن نفرح ونفرّح من نعيش معهم، أن نُدخل رسول الله إلى كلّ السّاحات، وأن لا يجمد في ساحتنا كمسلمين..

وندعو إلى أن نزيّن شوارعنا وبيوتنا ونجمّلها، ولكن أن نزيّن معها قلوبنا بالمحبّة، وأعمالنا بالصّدق، ووجوهنا بالبشر، وحياتنا بالخير..

وندعو إلى أن نقيم الولائم لنأكل، ولكن ليأكل معنا أولئك الّذين أحبّهم(ص)، أي الفقراء والمساكين  والأيتام والمستضعفين.

نحن ندعو إلى أن نحتفل بولادة الرّسول(ص)، ولكن لنخرج بعد الاحتفال بقلوب تطهّرت، ونفوس تسامحت، لتصبح صفحات بيضاء كأننا ولدنا من جديد..

تجديد عهد

أيّها المحبّون لرسول الله، يا من جمعنا رسول الله تحت رايته، تعالوا نجدّد العهد معه لنقول له:

لن نخذلك يا رسول الله، وستكون لنا بحقّ الأسوة والقدوة، ولن نقتدي بغيرك..

لن نخذلك يا رسول الله، وسنكون رحماء بيننا، لا نعرف حقداً أو عصبية..

لن نخذلك يا رسول الله، وسيكون حسن الخلق سمتنا وميزتنا.. لا مكان بيننا لمن لا تزيّنه أخلاقه، ولمن لا يفوح منه عطر المحبّة والصّدق والعفو.

لا مكان بيننا إلا للنّظيفين؛ نظيفي الوجه واليد والقلب واللّسان..

لا مكان بيننا إلا للأنقياء الأتقياء الّذين يعملون بجدّ، ويبقى التّواضع يكلّل هاماتهم..

 وسنبقى نتذكّر تواضعك يا رسول الله، وأنت من أنت، حين قلت: "إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".

في ذكرى المولد الشّريف، نبارك لكم هذا اليوم، ونتمنّى أن تغمر أمّة محمد الرّحمة والقوّة والعزيمة من الله سبحانه وتعالى، والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله؛ "فمن أحبَّ أن يكونَ أعزَّ النّاسِ فليتّقِ اللهَ"، كما قال رسول الله(ص)..

ومن التّقوى أن نثبّت دعائم الوحدة في حياتنا؛ فلم يردها الله خياراً يمكننا التّنازل عنه، بل هي فريضة وواجب. وهو الذي قال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران: 103].

إنَّ من المعيب، أيّها الأحبَّة، أن تكون أمّة رسول الله، الأمَّة الَّتي عمل رسول الله لتكون خير أمَّة أخرجت للنّاس، وأن تكون الأمّة الشّاهدة والقائدة، تعاني من التفرّق والاختلاف وصولاً، إلى التّحاقد والتّكفير وحتى التّقاتل، بحيث باتت لا تخشى العدوّ الخارجيّ الَّذي يتربّص بها ليلاً نهاراً، بقدر ما تخاف من فتنة داخليَّة بين مذاهبها أو داخل كلّ مذهب. أمَّة صارت لا تلبس ثياب السَّواد لأجل شهداء سقطوا في مواجهة العدوّ المشترك؛ العدوّ الصّهيوني، أو دفاعاً عن أرضهم، وإنّما من أجل من يسقطون في تفجير انتحاريّ هنا في مسجد أو آخر في حسينيّة.. أمّة قلبت القاعدة القرآنيّة: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[الفتح: 29]، بحيث صارت أشدّاء بينهم رحماء على الكفّار.

إنَّ المسؤوليَّة في إيقاف نزيف الدّم وتحقيق الوحدة، تقع على عاتق الجميع، لكنّ المسؤوليّة تقع أكثر على عاتق صنفين من النّاس أشار إليهما رسول الله(ص)، عندما قال: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلُحَا صَلُحَتِ الأُمَّةُ، وَإِذَا فَسدَا فَسدَتِ الأُمَّةُ: الفقهاء والأمراء".

فنحن بحاجةٍ إلى أمراء لا يسخِّرون الدّين لحساب مصالحهم السياسيّة، وإلى علماء يرفعون الصّوت عالياً في وجه كلّ العاملين للتّنازع والتحاقد والاقتتال، وفي وجه التكفيريّين والإلغائيّين والإقصائيّين…

ولذلك نقول: حذارِ حذارِ من اللاعبين بالفتنة في السّاحة الإسلاميَّة، حذارِ حذارِ من اللاعبين بالفتنة في ساحتنا الداخليّة.. إنَّ كلّ الحريصين على واقع هذه الأمّة ومستقبلها والقضايا الكبرى، ولا سيَّما مقاومة العدوّ الصّهيونيّ، وعلى قوّتها ومنعتها، مدعوّون لأن يقفوا في وجه كلّ صوت يريد أن يعيدنا إلى أجواء أربكت ساحتنا ومزّقت صفوفنا..

لقد قلنا ونقول إنّنا مع كلّ حوار علميّ وموضوعيّ، ولكنّنا لسنا مع كمّ الأفواه ومصادرة الرّأي الآخر، وإلصاق عناوين الضّلال بكلّ من يُختلف معه..

تطرّف العدوّ يقابَلُ بالمواجهة

إنّنا بحاجة في هذه المرحلة إلى استعادة الوحدة لكي نواجه التحدّيات الكبرى الّتي تنتظرنا؛ تحدّي الكفر والانحراف والفساد والكيان الصّهيونيّ، حيث انشغل العالم خلال الأيّام الماضية بالانتخابات الّتي جرت في الكيان الصّهيونيّ ونتائجها، وراح البعض يمنّي نفسه بتغيير داخل كيان العدوّ ستفرزه هذه الانتخابات، وأنّ الكيان الصّهيونيّ سيكون في المرحلة اللاحقة أكثر اعتدالاً، وأقلّ تطرّفاً، ونحن كنّا نؤكّد دائماً أنَّ هذا الكيان بطبيعته العدوانيَّة إزاء العالم العربي والإسلامي، سيبقى هو نفسه لا يتغيّر، سواء كان الّذي يحكمه يمينيّاً أو وسطاً أو يساراً، فقد وُجد هذا الكيان ليثبت احتلاله لفلسطين، وليكون له موقع القوَّة والسَّطوة على المنطقة، ولن يغيّر هذه السياسة، فهي أساس وجوده في هذه الأرض.

ومن هنا، سيبقى خيارنا مع هذا العدوّ، هو الاستعداد لمواجهة استكباره وعدوانه، فلا ينبغي أن نشعر في وقت من الأوقات بالاستكانة لعدوٍّ غادر ينتظر الفرصة السّانحة للانقضاض على فريسته. لذلك، نقول لكلّ الَّذين يتحدّثون عن عدم جدوى المقاومة: لا تدفنوا رؤوسكم في الرّمال لتقولوا لا خطر من وجود هذا العدوّ، وبإمكاننا أن نحمي أنفسنا منه، بل تذكّروا دائماً التّاريخ العدوانيّ لهذا الكيان، وأنّ اللّغة الّتي يفهمها هي لغة القوّة والمقاومة.

أمريكا تغيّر في التّكتيك

في هذا الجوّ، استبشر الكثيرون بخطاب الرّئيس الأمريكي، وهو يتحدّث عن أنّ عقداً "من الحرب أشرف على نهايته"، وأنَّ أمريكا لن تخوض الحروب في أيّ مكان، اعتقاداً منهم بأنّ أميركا قد غيَّرت سياستها وستنكفئ إلى الدّاخل، ولكنَّنا نعتقد أنَّ هذا الأمر ليس واقعيّاً، ولا ينبغي أن ينطلي على أذهان الواعين.

ستبقى أمريكا تعمل للإطباق على المنطقة وتعزيز سيطرتها على بلادنا، فهي لن تفرّغ قواعدها، ولن تتخلّى عن نفوذها، وجلّ ما ستفعله هو أنها ستغيّر تكتيكها. قد لا تبادر إلى الحرب المباشرة، ولكنَّها ستحارب من بعيد بأدوات أخرى. قد لا تشنّ حرباً عسكريّة، ولكنَّها ستشنّ حروباً باتت أشدّ ضراوة، كحروب التجويع، ونهب مقدّرات الشّعوب وإمكاناتها، وتوكيل حلفائها الإقليميّين بتنفيذ سياساتها، تجنّباً لتورّطها مباشرة وتكبّدها خسائر إضافيَّة، وخصوصاً بعد الإهانات الَّتي تعرّضت لها في منطقتنا العربيَّة والإسلاميّة، عندما وقف المجاهدون في وجه احتلالها وغطرستها، حتّى باتت تخشى من أن ينزل جنودها إلى الأرض. نعم، ستغيّر أمريكا أساليبها، ولكنَّها سوف تبقى مشكلة العالم الأساسيّة، ما دامت تحمل عقليّة استكباريّة، عقليّة لا تحترم خيارات الشّعوب وثرواتهم وأمنهم وسياساتهم، وتريدهم أن يكونوا بقرة حلوباً لمصالحها.

استقرار العراق بالوحدة

أمّا العراق، فإنّه لا يزال يعاني من تنامي التّفجيرات الّتي تستهدف استقراره، في الوقت الّذي تستمرّ الأزمة السياسيّة الّتي تأخذ طابعاً مذهبيّاً وطائفيّاً.

ومن هنا، فإنّنا نعيد التّأكيد على مكوّنات الشّعب العراقيّ، بضرورة التّواصل والحوار، حرصاً على استقرار بلدهم، وعدم ربط مصيره بما يجري في المنطقة، ومنعاً للمصطادين في الماء العكر، وأن لا ينخدعوا بكلّ الأماني المعسولة من هنا وهناك، فخيار العراقيّين لا يتحقَّق إلا بالوحدة والتّماسك.

لا حسم في سوريا

أمّا في الشّأن السّوري، فما زلنا نرى الحوار هو السّبيل الأسلم لحلّ الأزمة في سوريا، متمنّين أن تصبّ كلّ اللّقاءات التي تحصل في هذا الاتجاه، بدلاً من صبّ الزّيت على النّار، وخصوصاً أنَّ الجميع بات يشعر بأنَّ الطَّريق أمامه مسدودة، وأنَّ الحسم غير وارد من هنا وهناك، وأنّ المعركة ستستغرق سنوات طويلة.

إنّنا ندعو كلّ الأطراف في سوريا، إلى اتخاذ قرار شجاع بالبدء بالحوار، سعياً لتحقيق أماني الشَّعب السّوري في الإصلاح، وبقاء سوريا موقعاً للقوّة، بدلاً من أن يغرق في كلّ التجاذبات الدوليَّة الَّتي تجعل هذا البلد رهينة مصالح الدّول الكبرى والمصالح الإقليميّة.

ترحيب بالحوار في البحرين

وعندما نطلّ على البحرين، فإنّنا نرحّب بالدّعوات الأخيرة إلى الحوار، ولا سيَّما تلك الّتي أطلقها ملك البحرين، والَّتي لاقت ترحيباً من الفئات الأساسيّة في المعارضة. إنّنا نريد أن تتوافر لهذه الدّعوات الآليّات الّتي تضمن تحوّلها إلى واقع ملموس، وأن تأخذ طريقها إلى التّطبيق، وتسير في خطّ الجدّيّة، لتُترجم إلى حلول واقعيّة تُنهي الأزمة، وتعود بالبحرين إلى واقع الطّمأنية والاستقرار.

لبنان: أين حساب الوطن؟

أمّا لبنان، فلا يزال الوضع فيه يدور في الحلقة الانتخابيّة المغلقة، اجتماعات تتوالى، وبيانات تصدر، وتصريحات متلاحقة، والنّتيجة أنَّ الجميع يبحث في قانون معيّن، والعين على قانون آخر، أو على نصائح تأتي على شكل كلمات السّرّ في نهاية المطاف..

إنّنا نخشى من أن يكون هذا السّجال الدّائر حول قانون الانتخاب، هو لتمضية الوقت ريثما تنضج الطّبخة السياسيَّة الَّتي تنتظر تبدّل موازين القوى في الخارج أو الدّاخل.

ومن هنا، فإنّنا ندعو كلّ القيادات إلى الخروج من حساباتها الطائفيّة والمذهبيّة والانتخابيّة، إلى حسابات الوطن ومصلحة المواطن ومستقبله، فهذا هو السّبيل للخروج بقانون انتخابيّ عصريّ يريده اللّبنانيّون، وأن تنصرف الدّولة بعد ذلك لحلّ الكثير من المطالب الملحّة، من مشاكل المعلّمين المتواصلة، إلى أساتذة الجامعة، إلى المسجونين دونما محاكمة.

وأخيراً، فإنّنا ندعو إلى النّظر بكلّ مسؤوليّة وإيجابيّة، إلى القضية الإنسانيَّة المتمثّلة بإعطاء الجنسيَّة لأولاد اللّبنانيّات اللّواتي تزوّجن من غير لبنانيّين، والتّعامل مع النّاس على أساس كراماتهم، وليس على أساس التّعداد الطّائفيّ، كما يحصل مع هذه القضيّة ومع غيرها من القضايا.

أيُّها المسؤولون، إنّ البلد أمانة في أعناقكم، فلا تجعلوه يسقط وسط المتاهات.

التاريخ: 13 ربيع الأوّل 1434 هـ  الموافق: 25/01/2013 م

Leave A Reply