زينب(ع): المرأة الّتي صنعت من الانكسار قوَّة

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

في الخامس من شهر جمادى الأولى، وفي السنة الخامسة للهجرة، أقبل رسول الله سريعاً إلى بيت عليّ(ع) وفاطمة(ع)، احتضن المولودة الجديدة بين يديه، ضمّها إلى صدره، أذّن في أذنها اليمنى وأقام في اليسرى، ودعا الله أن تكون قرّة عين له ولأمّها وأبيها، وأن تكون في خدمة الإسلام والمسلمين، بعدها توجّه إلى الزّهراء(ع) وعليّ(ع)، وقال لهما سمياها زينب.

وهذا الاسم كان له قيمة كبيرة عند رسول الله، فهو اسم ابنته الكبرى الّتي آمنت به، ولأجله فارقت زوجها، ابن خالتها العاص بن وائل، ولم تعد إليه حتّى أسلم وحسُن إسلامه. وكانت وفاتها أيضاً من أجل الرّسالة، فقد توفّيت متأثّرةً بإيذاءٍ تعرّضت له من قبل أحد المشركين خلال هجرتها من مكّة إلى المدينة، لمنعها من الالتحاق بأبيها رسول الله.

في كنف بيت النبوّة

عاشت السيّدة زينب(ع) طفولتها الأولى في كنف جدّها رسول الله، الّذي أغدق عليها حبّاً وعاطفة وحناناً، كما أغدق على أخويها الحسن والحسين(ع)، وتربّت في بيت لم يكن كبقيّة البيوت، بيتٍ كان مهبط قلب رسول الله(ص)، بيت يفِدُ إليه في ذهابه وإيابه وقبل سفره وبعد رجوعه منه، هو البيت الّذي لطالما نزل فيه الوحي: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب/33)، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}(الإنسان/8-9)،  {قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشّورى/ 23)…

هو بيت الخُلُق والعلم والبطولة والبلاغة والعبادة والصّبر والجهاد في سبيل الله.

في هذا البيت، ترعرعت السيّدة زينب وعاشت، فحظيت برعاية أمّها في حياتها القصيرة معها، وبعد ذلك، برعاية أبيها الإمام عليّ(ع)، الّذي حرص على أن تُصاحبه إلى كلّ الأمكنة الّتي تنقّل فيها، فكانت تسكن حيث يسكن، لم تفارقه حتّى بعد زواجها، وحتّى بعد انتقاله إلى الكوفة عندما تسلّم الخلافة.

 تزوّجت السيدة زينب(ع) من ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، الّذي كان له دوره الرّساليّ، إلى جانب تميّزه بكرمه، حيث كان يُسمّى ببحر الجود، وقد رُزقت منه بخمسة أولاد، منهم عون ومحمد، اللّذان استشهدا في كربلاء خلال وجودهما معها.

من ألقابها تعرفها

أيّها الأحبّة: اقترن اسم السيّدة زينب(ع) بعدّة ألقاب ميّزتها، وعبّرت عن شخصيّتها وحضورها، فقد لُقّبت بعقيلة بني هاشم، والعقيلة تعني العزيزة في قومها، الكريمة في نسبها، فهي كما حظيت بتكريمٍ في بيتها، كان لها دورها وحضورها في مجتمع المدينة والكوفة، وكانت محطّ احترام الجميع، ومقصداً لكلّ طالبي حاجة.

كما لُقّبت أيضاً بالعالمة، وهي الّتي نهلت العلم من أبيها وأمّها، فكانت عالمةً بالقرآن والحديث، وكان الرّجال والنّساء يرجعون إليها.

وإلى موقعها العلميّ، أشار الإمام زين العابدين(ع): "كانت عمّتي زينب عالمة غير معلّمة، وفاهمة غير مفهّمة".

ومن ألقابها أيضاً عابدة آل محمّد، فقد كانت تقوم اللّيل حتّى تتورّم قدماها. وقد ورد عنها: "من أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه، فليحمد الله، فإنّ الله يسمع لمن حمده"، "خف الله لقدرته عليك، واستح منه لقربه منك".

كما كانت تُلقّب بالفاضلة، فقد كانت أفضل النّساء في عصرها، في علمها وعطائها وجهادها وطهارتها.

وهي الصَّابرة، فقد واجهت(ع) أمرَّ المصائب الّتي مرّت على هذا البيت الطّاهر، إذ عاشت مصاب فقدِ رسول الله، ومعاناة أمّها الزّهراء وأبيها، وما عاناه الحسن والحسين(ع)، لكنَّها كانت تواجه كلّ ذلك بإيمان وصبر وعنفوان.

شريكة الحسين(ع)

أيّها الأحبَّة: لقد أظهرت ثورة الحسين(ع) عظمة شخصيّة زينب، فهي ما إن أخبرت الحسين(ع) برغبتها في الخروج معه لتلبية نداء أهل الكوفة وقيادة ثورتهم على حكم يزيد، حتّى لبّت النّداء، وتركت من أجل ذلك كلّ شيء؛ تركت زوجها وأولادها لتشارك أخاها الحسين(ع) في حركته.

كان الحسين(ع) يستشيرها عند كلّ موقف، وكان يجد لديها الحكمة والعقل الرّاجح وحسن التّدبير. كانت(ع) تعرف حجم التحدّيات الّتي ستواجهها مع الحسين وبعده؛ والتّضحيات الّتي ينبغي أن تعدّ نفسها لها، فقد كان عليها أن تجمّد عاطفتها لحساب الرّسالة، لذا التزمت جيّداً بما قاله لها: "يا أختاه، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي بالويل والثّبور".

حاملة لواء كربلاء

وبعد المعركة واستشهاد الحسين(ع) وأصحابه وأهل بيته، لم تشقَّ جيباً، لم تدع بالويل والثّبور، لم تظهر ضعفاً ولا هزيمة، لم تضرب رأسها بالمحمل، كما تذكر بعض الرّوايات الضّعيفة سنداً ومتناً، بل مشت بكلّ ما فيها من شموخ الإيمان بين صفوف الأعداء إلى مصرع أخيها، وحولها الأجساد الطّاهرة، ثمّ وضعت كفّها تحت جسد الحسين الشّريف وقالت: "اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان".

بهذه الكلمات أرادت السيّدة زينب(ع) أن تزيل نشوة النّصر لدى الأعداء الّذين اعتقدوا أنّهم بقتلهم للحسين(ع) وأصحابه وأهل بيته، هزموا النّفوس وأسقطوا الإرادات. أرادت أن تقول لهم: لقد قتلتم الرّجال وذبحتم الأطفال وستسبون النّساء، ولكنّكم لم تقتلوا الرّوح، لم تقتلوا العزيمة والإرادة والموقف…

واستطاعت بذلك أن ترسم معالم النّصر؛ النّصر للروح وللشّعارات والقضيّة، ومنذ تلك اللّحظة، حوّلت السيّدة زينب(ع) الهزيمة العسكريّة إلى نصرٍ وتحدٍّ…

وطوال رحلة السّبي، بدت السيّدة زينب بكلّ شموخها، لم تستعطف أحداً،  وقفت بكلّ عنفوان أمام عبيد الله بن زياد وهو يقول لها: "كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟"، فقالت: "ما رأيت إلا جميلاً". وكرّرت السيّدة زينب الموقف أمام يزيد المنتشي بنصره، عندما قالت له: "كد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا…".

ولم تسكت السيّدة زينب في الشّام ولا في المدينة، وبقي صوتها صادحاً في كلّ مكان، لم يقف عند حدود المكان والطّوائف، فكانت بشائر الثّورة تنطلق من الكوفة والمدينة ومن كلّ مكان…

 ويكفي أنّه عندما تُذكر زينب في التّاريخ والحاضر، وفي المستقبل، يكون اسمها مقروناً بالبطولة والعنفوان وعمق التّأثير الّذي تركته في وجدان المسلمين والأحرار في العالم. ستبقى مثالاً يحتذى به، ليست مثالاً للنّساء فقط في لجم العاطفة من أجل الحقّ، هي مثال للرّجال أيضاً في إعادة إنتاج القوّة من الهزيمة والانكسار، وهي مثال انتصار الكلمة على السّيف.

حبّ تتقاسمه مدن

أيّها الأحبّة: لقد اختلف المؤرّخون حول مكان دفن السيّدة زينب(ع)، فهناك من أشار إلى أنّها دُفنت في المدينة، وآخرون أشاروا إلى أنّها دُفنت في الشّام، عندما قدمت إليها برفقة زوجها عبدالله بن جعفر بسبب مجاعة حصلت في المدينة، وهناك مَن ذكر أنّها دُفنت في مصر، بعدما خرجت إليها من المدينة بسبب تضييق والي المدينة عليها بأمرٍ من يزيد،  بعدما استنهضت أهلها للوقوف بوجه الحكم الأمويّ.

ونحن هنا لا نريد أن نناقش هذه المسألة، رغم كون المشهور هو دفنها في الشّام، ولكن ما نحبّ أن نؤكّده، هو الجامع بين كلّ هذه الأمكنة، ففي كلّ هذه الأمكنة، وبتنوّع مواقعها، نجد الحبّ والتّعظيم والتّقديس، فالكلّ يفد إليها ليزورها ويتبرّك بمقامها، ويطلب حوائجه من الله عندها، ولينذر النّذور لها، على تنوّع مذاهب الزّائرين، وفي ذلك تعبير عن الأثر الكبير الّذي تركته في نفوس المسلمين جميعاً، فهي لم تحمل في حركتها شعاراً مذهبيّاً أو خاصّاً، وكما وقف الحسين(ع)، وقفت هي في وجه الظّالم والطّاغية وكلّ من يعيث بالأمّة فساداً، أيّاً كان مذهبه. وهذه الصّورة هي الّتي تميّز بها أهل البيت(ع)، فهم كانوا دعاة وحدة وتواصل ومدّ جسور.

لذلك نقولها لكلّ المسلمين: تعالوا، ومن موقع حبّنا وتقديسنا للسيّدة زينب(ع)، لنقف معاً كما وقفت في مواجهة الظّالمين والطّغاة والمستكبرين، في مواجهة صانعي الفتن الّذين يريدون تفريق جمعنا وتفتيت وحدتنا, فليكن حبّنا لآل البيت هو الجامع، هو ما نلتقي حوله، بعيداً عن كلّ حساسيّة، وبعيداً عن كلّ عصبيّة.

أيّها الأحبة: في يوم الولادة المباركة للسيّدة زينب، نتوجّه بقلوبنا إلى حيث هي، في الشّام أو مصر أو المدينة، أو في أيّ مكان ورد أنّها دُفنت فيه، لنقول لها، وقلوبنا تمتلئ حرقةً وألماً وشوقاً لزيارة مقامها: السّلام عليك يوم ولدت ويوم انتقلت إلى رحاب ربّك ويوم تبعثين حيّة. عليك منّا سلام الله أبداً ما بقينا وبقي اللّيل والنّهار.

 والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، الّتي هي الملاذ والملجأ في الدّنيا والآخرة، وهذا ما أشار إليه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ* كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ* لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الدّخان: 51-57]…

ولكي نبلغ التَّقوى، علينا أن نقتدي بإمام المتَّقين، حيث ينقل عنه أحد أصحابه، يقول: رأيت عليّاً وقد اعتزل في مكانٍ خفيّ، وسمعته، وهو لا يشعر بمكاني، يناجي ربّه: "إلهي، أفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي. آهٍ ، إن أنا قرأت في الصّحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ، لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، ولا يرحمه الملأ، آهٍ من نارٍ تنضج الأكباد والكلى، آهٍ من نارٍ نزّاعةٍ للشَّوى، آهٍ من غمرةٍ من ملهبات لظى".. ثم أمعن في البكاء…

هذا هو عليّ يتأوَّه، وهو مَن هو من رسول الله(ص) وعند الله. فأين نحن من خشية الله العزيز الجبَّار، أين نحن من خشية موقف الحساب بين يديه تعالى، حيث الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟!

هذا ما نحتاج أن نستحضره، أن لا ننساه، أن يبقى ماثلاً أمامنا، كي ننضبط، فلا نتكلَّم إلا بحساب، ولا نأخذ المواقف إلا بحساب، ولا نؤيِّد أو نرفض إلا بحساب. إنّ كلّ ما نعانيه على المستوى الخاصّ والعام، هو نتاج ابتعاد الله عن ساحاتنا وحساباتنا، فلا حدود نتقيّد بها، ولا مبادئ تحكمنا.

فلنعد، أيّها الأحبّة، إلى الالتزام بالنّداء الإلهيّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].

فلسطين تحتاج سلاح العرب

فالحياة تحتاج إلى جهودنا وأدائنا لمسؤوليّاتنا. والبداية من فلسطين، حيث لا يزال العدوّ الصّهيونيّ يتابع ممارساته العدوانيّة في مواجهة الشعب الفلسطيني، والّتي تمثّلت أخيراً في اقتحاماته المتكرّرة للمسجد الأقصى، والتعرّض للمصلّين فيه ولحماته، بهدف تقسيمه وفق أجندة طُرحت أخيراً في الكنيست، في الوقت الّذي تستمرّ معاناة آلاف الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال، وهم يخوضون معركة الأمعاء الخاوية، وعلى رأسهم الأسير سامر العيساوي، المستمرّ في إضرابه عن الطّعام منذ 235 يوماً، في مواجهة الاحتلال الّذي يعمل على كسر إرادتهم وتحطيم صمودهم، لدفعهم إلى تقديم التّنازلات لحساب احتلاله وعدوانه.

إنّنا أمام كلّ هذه المعاناة، نعيد التّأكيد على كلّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة، بالوقوف مع هذا الشّعب وشدّ أزره، وتثبيت صمود إنسانه بكلّ الوسائل المتاحة، ومنع العدوّ الصّهيونيّ من الاستفراد به، وخصوصاً في هذه المرحلة.

ونقول لكلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة، والجامعة العربيّة، الّتي تتحدّث عن تسليح هذه المعارضة في هذا البلد العربيّ أو ذاك، في مواجهات الدّاخل، على أساس منع الاضطهاد والظّلم، أن يكون لها الهمّة نفسها في الدّعوة إلى تقوية الشّعب الفلسطينيّ، لمواجهة الظّلم الّذي يتعرّض له هذا الشّعب، وأيّ ظلم هو أقسى من ظلم الاحتلال الصّهيونيّ وممارساته القمعيّة، وليس آخرها ما رأيناه من منع إجراء عقد زفاف بين شابّ من رام الله، وفتاة من فلسطينيي العام 48، منعاً للتّواصل بين فلسطينيّي 48 والضفّة الغربيّة.

سوريا رهينة الاستنزاف

أمّا سوريا، الّتي تُعقد باسمها الاجتماعات في الاتحاد الأوروبّي وغيره، فيُراد لها أن تبقى رهينة الاستنزاف الدّمويّ الدّاخليّ إلى أبعد مدى، وليس أدلّ على ذلك من إجابة أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبّي عن سؤال لأحد الصحافيّين الّذي سأله: هل تتوقّع أن يستمرّ الوضع على هذه الحال لسنوات؟ فقال: "لا نرى وسيلة حقيقيّة للخروج من مثل هذا الانسداد السياسيّ، لذلك لا أزال متشائماً جداً، وأنا خائف من حرب أهليّة طويلة جدّاً".

ومن هنا، نجد عملاً دؤوباً من كلّ المحاور الدّوليّة، لتسخين الجبهة الداخليّة في سوريا، من خلال الحديث عن رفع حظر السّلاح على سوريا، بدلاً من ممارسة هذا الطّرف الدّوليّ أو ذاك شيئاً من الضّغط لكي يجلس السوريّون جنباً إلى جنب على طاولة حوار، ونحن لا نستبعد أن تكون اللّعبة الأمريكيّة المزدوجة قد بدأت تأخذ طريقها إلى الواقع، بين حديث التّفاوض والتّسليح، والحديث عن الحوار.

إنّ هذا الواقع ينبغي أن يكون دافعاً للسوريّين الّذين هم وقود هذه المعركة، للخروج من دائرة الفعل وردّ الفعل، والتّفكير في السّبل الّتي تعيد الحوار إلى هذا البلد، بعيداً من الشّروط والشّروط المضادّة، فبقاء سوريا قويّةً وموحّدةً وحاضرة في هذا العالم، ينبغي أن يكون فوق كلّ اعتبار، وأن لا يستمرّ هذا البلد أسير التّجاذبات الدّوليّة الكبرى الّتي لم تفكّر يوماً في مصلحة هذا العالم العربيّ والإسلاميّ، إلا بمقدار مصالحها ومصلحة الكيان الصّهيونيّ.

وعلى الدّول العربيّة، ولا سيّما كلّ المؤثّرين في السّاحة، أن يكونوا واعين للّعبة الدّوليّة الّتي تريد استنزاف كلّ المواقع، ماديّاً واقتصاديّاً، كما تريد استنزاف سوريا والبلاد المجاورة، وأن لا يزجّوا أنفسهم في الصّراع الدّائر في سوريا، حتّى لا يكون ذلك  مادّة استنزاف لمواقع القوّة العربيّة، وللحؤول دون انعكاس ذلك على السّاحة الدّاخليّة في لبنان وغيره، وعلى العلاقة مع مكوّنات الشّعب السّوريّ، فضلاً عن التّداعيات في العلاقة مع الدّول العربيّة وغيرها.

استهداف وحدة العراق

أمّا العراق، فلا يكاد مسلسل التّفجيرات يتوقّف فيه حتّى يعود إلى سابق عهده، ضمن حلقات دمويّة متنقّلة تطاول معظم المدن العراقيّة، وتسعى إلى زيادة التوتّر السياسيّ والأمنيّ، وإضفاء المزيد من الحساسيّات المذهبيّة عليه، حتّى يبقى العراق في دائرة الاهتزاز المحلّيّ الّذي يطلّ على أكثر من اهتزاز إقليميّ، وعلى ملفّات مشتعلة متنقّلة.

إنّنا في الوقت الّذي نؤكّد على الشّعب العراقيّ الحفاظ على وحدته، والتنبّه للأهداف المشبوهة الّتي تقف وراء هذه التّفجيرات الوحشيّة، ندعو علماء المسلمين من السنّة والشّيعة، إلى إطلاق الموقف الشّرعيّ الواضح من هذه الأعمال الإجراميّة، حتّى لا تأخذ بُعداً طائفيّاً ومذهبيّاً، وتوضع في دائرة الاحتقان الّذي تعيشه السّاحة العراقيّة، ولكي يفوّتوا الفرصة على كلّ المصطادين في الماء العكِر.

لبنان: معالجة الأزمات

ونصل إلى لبنان، حيث الهاجس الأمنيّ بات مصدر قلق، سواء فيما يتعلّق بتداعيات ما يجري في الدّاخل السوريّ، أو بالحوادث الأمنيّة المتكرّرة، أو بالخطاب المذهبي المتوتّر، أو بالحديث عن وجود طرف هنا باتت له قواعده في لبنان، أو عن طرف هناك له برنامجه وأهدافه، أو بالغارات الوهميّة الّتي قام بها الكيان الصّهيونيّ ولا يزال، في الوقت الّذي لا يزال الواقع الاجتماعيّ ضاغطاً في ظلّ عدم استجابة الدّولة لمطالب العمّال والموظّفين والفئات المحرومة.

إنّنا أمام ذلك كلّه، ندعو الحكومة وكلّ القيادات الفاعلة والمؤثّرة في هذا البلد، إلى العمل لدراسة كلّ الوسائل الّتي تساهم في معالجة الهواجس والمشاكل الأمنيّة، وإيجاد حلولٍ لكلّ الأزمات الأمنيّة المتنقّلة، والإسراع في معالجة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبتّ موضوع سلسلة الرّتب والرّواتب، وإيجاد حلول سريعة لتمويلها، ولا سيّما بعد حديث أكثر من طرف سياسيّ فاعل في الحكومة بتبنّيها وتوفير التّمويل اللازم لها…

ونحن في الوقت الّذي نحيّي كلّ الأصوات الّتي تدعو إلى نبذ الخطاب المذهبي والطّائفي، نعيد التّأكيد على كلّ الّذين يتحدّثون بمنطق الفتنة، أن يعوا مخاطره على السّلم الأهليّ وعلى الأمن الدّاخليّ، فالكلمة مسؤوليّة، والتحرّك مسؤوليّة، وإذا كان هناك من غبن يراه البعض بحقّ هذا المذهب أو ذاك، فليست وسيلة حلّه التحرّك في ساحة قد يسعى الكثيرون من خلالها للاصطياد في الماء العكِر، وتحريك الفتنة هنا وهناك.

وعلينا أن لا ننسى وسط كلّ هذا الجوّ، خطر الكيان الصّهيونيّ، وتدعيم كلّ عناصر القوّة في هذا البلد، بدلاً من استدراجها في صراعات الدّاخل، سواء منها الجيش أو المقاومة.

وأخيراً، وبعد انتخاب الكرادلة المسيحيّين لبابا جديد لهم، نعيد الدّعوة إلى ضرورة بناء علاقة مسيحيّة إسلاميّة، تُؤسَّس على الاحترام المتبادل، لينطلق من خلالها الجميع، مسلمين ومسيحيّين، كفريق واحد في مواجهة الظّلم الّذي يعصف بهذا العالم؛ ظلم الاحتلال، والظّلم للشّعوب في مقدّراتها، وطغيان الدّول الكبرى في تعاملها مع الدّول الصّغرى، وأيضاً معالجة المشاكل الأخلاقيّة والماديّة المستشرية الّتي تعصف بهذا العالم، حيث لا خلاص له إلا من خلال تعاون الأديان الّتي أرادها الله صمّام أمان للإنسان، لبلوغ السّلام، ولتحقيق العدالة في الحياة.

التاريخ: 3 جمادى الأولى 1434 هـ  الموافق: 15/03/2013 م

Leave A Reply