زين العابدين (ع): إمام البرِّ والجود

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]. صدق الله العظيم.

مرّت علينا في الخامس من شهر شعبان، ذكرى ولادة الإمام الرابع من أئمّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام عليّ بن الحسين (ع) زين العابدين وسيّد الساجدين.. هذا الإمام الذي أشارت ألقابه إلى مدى عبادته لله، والتي تمثّلت في صلاته وخشوعه وخضوعه ودعائه الّذي كان يفيض حبّاً لله وخشيةً منه.

حاملُ الجراب

وقد عرف هذا الإمام بالعفو والحلم وبالجود والعطاء، حيث أشارت سيرته إلى أنّه كان إذا جنَّ اللّيل وهدأت العيون، يخرج من بيته حاملاً الطّعام على ظهره ليوزّعه على الفقراء والمساكين من دون أن يعرفوه، وكانوا يستبشرون بقدومه، ويقولون عنه جاء حامل الجراب.

وقد تربى الإمام زين العابدين على يد أبيه الحسين (ع)، وشاركه في الإعداد للثَّورة على حكم يزيد، وعاش أقسى المعاناة في كربلاء، حين رأى بأمّ عينه استشهاد أبيه وأهل بيته وأصحابه، وكان شديد الرّغبة في القتال مع أبيه الحسين (ع) ومن معه، لولا المرض الذي ألمّ به وأقعده عنه.

وبعد معركة كربلاء، كان للإمام زين العابدين دوره في العمل على إبقاء جذوة الثّورة والأهداف الّتي لأجلها انطلق الحسين (ع) حاضرةً في النفوس والعقول، وقد عبَّر عن ذلك في الكوفة، وطوال مرحلة السّبي، وفي المدينة، فمنع يزيد من طمس معالمها وأهدافها، وأذكى نارها في النفوس والعقول في الكوفة، وبعد ذلك في المدينة.. وكان سنداً لكلّ الثّورات التي حصلت في المدينة، وبعد ذلك في الكوفة وفي أكثر من موقع.

ونحن اليوم، سنستفيد من هذه المناسبة المباركة، لنتوقّف عند بعض مواقف هذا الإمام (ع)، الّتي تظهر الصّورة التي يجب على المسلم أن يعكسها في الحياة.

سفرٌ وزاد

الموقف الأوّل: هو ما أشار إليه الزّهري، وهو أحد أصحاب الإمام زين العابدين (ع)، حين قال إنّه رأى الإمام في ليلة ممطرة شديدة البرودة، وهو يحمل على ظهره كيس دقيق (طحين)، فقال له مستغرباً: يا بن رسول الله، ما هذا ، فردّ عليه الإمام (ع): “أريدُ سفراً أعدُّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز”، فقال له الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، ثم توجَّه إلى الإمام قائلاً: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفّعك عن حمله، فقال (ع): “لكني لا أرفّع نفسي عمّا يُنجيني في سفري، ويُحسن ورودي على ما أرِد عليه. أسألك بحقّ الله، لما مضيت لحاجتك وتركتني” …

بعد أيّام، رأى الزهري الإمام زين العابدين (ع)، فقال له: يا بن رسول الله، لست أرى لذلك السّفر الذي ذكرته أثراً؟! قال: “بلى يا زهري، ليس ما ظننت، ولكنّه الموت، وله أستعدّ”. ثم قال: “إنما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل النّدى في الخير” .

لقد أراد الإمام (ع) من خلال موقفه، أن يبيّن بأنّ الطّريق لبلوغ الجنّة يكون بعد تجنّب الحرام، بمساعدة الفقراء والمساكين، ومدّ يد العون إليهم. وقد ورد في الحديث: “إنّ الصّدقة تطفئ غضب الرّبّ”، “الصّدقة جنّة من النّار”، “كلُّ امرئٍ في ظلّ صدقتِه حتَّى يُقضى بينَ النَّاسِ” …

قمّةُ التّواضع

موقف آخر له، فقد ورد عنه (ع) أنّه كان عندما يسافر في قافلة إلى أيّ مكان يقصده، كان يسافر مع أناس لا يعرفونه، وكان يشترط على من يتولى أمر القافلة أن يسمح له بخدمة من فيها من دون أجر.

وصودف في إحدى سفراته أن تعرّف إليه شخص من القافلة، فاستغرب هذا الشّخص أن يستخدم هؤلاء الإمام (ع)، فجاء إليهم وقال لهم: أتدرون من تستخدمون؟ قالوا له: واحد من أفراد القافلة، وهو من رغب في الخدمة، فقال لهم: إنّه الإمام زين العابدين ابن رسول الله (ص)، فجاؤوا إلى الإمام معتذرين عن ذلك.. وقالوا له: أردت أن تصلينا نار جهنّم، لو بدرت منا إساءة إليك من يد أو لسان، أما كنّا قد هلكنا إلى آخر الدَّهر؟ فقال لهم: لا عليكم، فأنا من اخترت، وليس أنتم، أن لا يعرفني أحد، حتى أكون في خدمة من في القافلة، فأنا إن سافرت مع قوم عرفوني فلن يدعوني أن أقوم بخدمتهم، وأنا أحبّ أن أكون خادماً للنّاس لا متميِّزاً عنهم، فسعادتي هي في خدمتي للنّاس ورفقاء الطّريق، فأنا لا أحبّ أن آخذ برسول الله (ص) ما لا أعطي مثله.

البِرُّ الأسمى

وموقف آخر للإمام (ع) مع أمّه، ونحن على مقربة من يوم الأمّ.. فقد كان الإمام زين العابدين (ع) كثير البرِّ بأمّه والحنوّ عليها والإحسان إليها، ولكن ما كان يثير استغراب كلّ من عايش الإمام (ع)، أنّه كان لا يأكل على المائدة التي تجلس اليها أمّه، فقيل له: لم ذلك، وأنت من نعلم أن لا أحد أبرّ بأمّك منك؟ قال: “إنّي أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتُها” .

الإمام مطلوبٌ بثمان

وأخيراً، قيل له يوماً: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ فلو كان الجواب لنا، لقلنا الحمد لله بصحة وعافية وبخير، لكنّ الإمام (ع) قال: “أصبحت مطلوباً بثمان: الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي (ص) بالسنّة، والعيال بالقوت، والنّفس بالشهوة، والشيطان باتّباعه، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالرّوح، والقبر بالجسد، فأنا بين هذه الخصال مطلوب”.

سعادة الإمام (ع)

أيّها الأحبة: هذه بعض ما ورد من مواقف الإمام زين العابدين (ع)، والتي أظهرت مدى إنسانيّته، فقد كان الإمام (ع) يرى سعادته عندما يُدخل السّرور على قلب فقير، أو يسدّ حاجة يتيم، أو يخدم إنساناً، أيّ إنسان، أو يساعد من يحتاج إليه، وعندما يكون بارّاً بوالديه، وقائماً بمسؤوليّاته تجاه ربّه وتجاه النّاس، وهو لم ير في انتمائه إلى رسول الله (ص) إلّا مسؤوليّة يجب عليه أن يؤدّيها، فقد كان لا يحبّ أن يأخذ برسول الله (ص) من تكريمٍ إلا ويعطي مثله.

وقد أشار إلى ذلك الفرزدق في مدحه له، عندما قال:

اللهُ فَضَّلَهُ قِدْماً وَشَرَّفَهُ جَرَى‌ بِذَاكَ لَهُ فِي‌ لَوْحِهِ القَلَمُ

كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا يُسْتَوْكَفَانِ وَلاَ يَعْرُوهُمَا عَدَمُ

سَهْلُ الخَلِيقَةِ لاَ تُخْشَى‌ بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ خَصْلَتَانِ: الحِلْمُ وَالكَرَمُ

مَا قَالَ: لاَ، قَطُّ إلَّا فِي‌ تَشَهُّدِهِ لَوْلاَ التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاَؤهُ نَعَمُ

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام زين العابدين (ع) لنا، عندما قال: “إنَّ أحبّكم إلى الله تعالى أحسنكم عملاً، وإنَّ أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم عند الله رغبةً، وإنّ أنجاكم من عذاب الله سبحانه أشدّكم خشيةً لله سبحانه، وإنَّ أقربكم من الله عزَّ شأنه أوسعكم خلقاً، وإنَّ أرضاكم عند الله جلَّ جلاله أسعاكم على عياله، وإنّ أكرمكم على الله عزّ وجلّ أتقاكم لله سبحانه وتعالى”.

فلنتوصّ بوصيّة هذا الإمام، فنكون الأحسن عملاً وعلماً وخلقاً وتقوى وسعياً لعون عيال الله، وبذلك نعبّر عن حقيقة إخلاصنا وولائنا له، ونكون أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

لبنان في أصعب مراحله

والبداية من لبنان الّذي يمرّ بمرحلة هي من أصعب المراحل في تاريخه على كلّ الصّعد؛ فعلى الصّعيد المعيشيّ، أدّى الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدّولار الأمريكي إلى عدم قدرة اللّبنانيّين على تأمين أبسط مقوِّمات حياتهم من الدّواء والغذاء والاستشفاء والسِّلع الضروريّة، وحتى بلغ الشّحّ حليب أطفالهم في بلدٍ يعتمد على تأمين 90% من احتياجاته من الخارج.

وهنا يتساءل اللّبنانيّون: ما السَّبب في هذا الارتفاع السَّريع؛ هل هو اقتصاديّ، أو هو الجشع لدى من يديرون الوضع الماليّ، أو أنّه يستخدم في إطار الصراع السياسيّ؟! لقد أثبت الانخفاض الذي حصل في سعر صرف الدّولار أنّ للبعد السياسيّ دوراً أساسيّاً في الارتفاع.

وما زاد الطّين بِلَّة على هذا المستوى، هو ارتفاع أسعار المحروقات بكلّ تداعياته، وهو المرشّح لأن يتضاعف أضعافاً في ظلّ الحديث عن رفع الدَّعم عنه في الأيّام القادمة.

أمّا على الصّعيد الأمني، فإنّنا نخشى مع الكثيرين من انفلات الشّارع بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، ومن تداعيات قطع الطّرقات، وما قد يتسبّب به من توتّرات بين المواطنين، والّتي قد تأخذ طابعاً طائفيّاً ومذهبيّاً، كما حصل في الأيّام الماضية.

من يتحمَّل المسؤوليّة؟!

أمَّا على الصَّعيد السياسيّ، فلا تزال الطبقة السياسيَّة على حالها من اللامبالاة لكلِّ ما يجري، وكأنّ النّاس ليسوا ناسها وهم ومن أودعوهم مواقعهم، فلا تتحرّك بمعالجة جادّة للأزمات التي تجري، بل تكتفي في ذلك بتقاذف المسؤوليّات وتبادل الاتّهامات، فكلٌّ يضع المسؤوليّة على الآخر من وصول البلد إلى ما وصل إليه، ولا أحد مسؤول، ويتمّ الاكتفاء بمسكّنات لا تسمن ولا تغني من جوع.

فيما القيادات المعنيّة بتشكيل الحكومة لا تزال حتّى الآن عند مواقفها وشروطها ورهاناتها، وليست على استعداد للتّراجع عن سقوفها السياسيّة وحساباتها الخاصّة ومصالحها الفئويّة الّتي تضمن تأليفها.

إننا نقول لكلّ المعنيّين: ألا يحرك كلّ ما يجري ضمائركم؟ ما النفع إن ربحتم وزارة أو أمسكتم بقرارها وسقط البلد؟ عودوا إلى وطنيّتكم وإلى الأديان التي تمثّلونها وإلى إنسانيّتكم، وفكّروا في من لا يجدون دواءً وطعاماً وشراباً، أو من يعيشون على العتمة لا يجدون ما يستضيئون به، أو الّذين لا يقدرون على الدّخول إلى المستشفى، أو أن يدفعوا أقساط المدرسة أو الجامعة لأبنائهم، أو لا يستطيعون أن يرسلوا إلى أبنائهم ما يؤمِّن حاجاتهم في استمرار تحصيلهم العلميّ في الخارج.

وإذا كان هناك منكم من لا يزال يفكّر في الخارج لاجتراح الحلول، فالخارج ليس جمعية خيرية، وهو لن يساعدكم إن لم تساعدوا أنفسكم، وأنتم قادرون على معالجة أزمات هذا البلد أو التّخفيف منها، ولستم عاجزين، لكنّ ذلك لن يحصل إن بقيتم تقدّمون مصالحكم وطموحاتكم على حساب مصالح البلد وإنسانه.

إنّ عليكم ألّا تراهنوا على أنّ الناس استكانت، فهي إن لم تخرج كما ينبغي إلى الشّارع أو السّاحات أو إلى مواقعكم، فهم يختزنون آلامهم ومعاناتهم، والتي ستنفجر يوماً ما، والويل لكم من صولة الجائع وصرخة الملهوف.

إنّنا نراهن على بصيص أمل بدأ يبدو، ونأمل أن لا يخبو سريعاً، بأن يكون من يمسكون بقرار تشكيل الحكومة اقتنعوا ووعوا أنَّ الاستمرار بالتعنّت وبقاء كلٍّ على موقفه، سيسقط الهيكل على رؤوس الجميع.. إنّنا نجدّد التّأكيد أنّ البلد لا يُحكم بالنبرات العالية، ولا بالأسقف المرتفعة، ولا بالغلبة والاستقواء، بل بالحوار.

هل يتأزّم الوضع الصّحيّ؟

ونتوقّف عند الموضوع الصحّي الذي ينبغي أن يبقى هاجس المواطنين، لتداعياته الخطيرة على حياتهم وصحّتهم، فنحن نخشى أن يؤدّي فتح البلد على مصراعيه دونما أيّ ضوابط، ومن دون الأخذ بأسباب الوقاية ومراقبة جادّة من الدولة، إلى تفاقم الأزمة الصحية، ما يتطلّب العودة إلى الإقفال مجدّداً، مما لا يتحمّله اللّبنانيّون.

كلّ التّقدير للأمّهات

وأخيراً، إنّنا في عيد الأمّ، نتوجَّه إلى كلّ أمّهاتنا اللّاتي يملأنْ حياتنا عطفاً وحبّاً وحناناً ورعايةً وتضحية، بالشّكر والتّقدير والامتنان على ما بذلن ويبذلن، ولن نستطيع أن نبادلهنّ جميلهنّ بجميل، مهما قدّمنا وفعلنا لهنّ. فهنيئاً لكلّ أمّ بما قدَّمت وتقدّم وستقدّم.. يكفيها أنّ الجنّة تحت قدميها، وهنيئاً لكلّ من قدّر هذا العطاء، وعمل على مكافأته بكلّ ما يملك، والويل لمن قصَّر في ذلك.