سيل الحق وزبد الباطل

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز

{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}

   

 ما اختلف اثنان أو جماعتان، في أي عصر حول قضية ما، أو أمر مادي أو غير مادي، إلا وكان جوهر هذا الخلاف أو الصراع إدعاء كل طرف أنه هو صاحب الحق، ومن يُمثّل جانب الحق، وأن الطرف الآخر مُعتدٍ وأنه على باطل.

 والمتأمل في صراعات العصر، يجد من النماذج ما لا عدّ له ولا حصر، ويصدق هذا على أي فترة من عمر البشرية. فما هو الحق، وهل من معيار أو ميزان يُعيننا على تمييز الحق مما هو غير الحق؟

 

تقول اللغة إن الحق هو الأمر الثابت والمؤكد، فالحق يحكي عن واقع الامور وحقائق الأشياء. الحق هو نقيض الباطل، وينافي النفاق، وهو خلاف الظلم والفسق والفساد والطغيان وكل ما يُحدث خللا في حركة الحياة، فالعدل حق، والصدق حق، والإحسان حق، والتواضع، والأمانة والأخوة وكل ما هو من عند الله سبحانه حق، لأنه مصدر القيم الخيرة والبنّاءة والراسخة والمثمرة، خلافاً لقيم الباطل التي هي معول هدم وتخريب.

 

والقرآن الكريم أطلق الحق على أكثر من معنى سنمر عليها سريعاً:

– على الذات الالهية المقدسة لكونه الحقيقة التي لا شك فيها ولكونه مصدر الخير والنفع للانسان والوجود: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}

 

– ويطلق القرآن مصطلح الحق على الإسلام كدين للهداية وصناعة الحياة الخيّرة:

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

 

– ويطلقه ايضا على الصواب والهداية:

{… قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

{…لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

 

– ويطلق الحق على الصدق والوضوح:

{إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

 

– وعلى العدل والإنصاف والمساواة:

{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}

 

– وعلى اليقين أيضاً:

{‏وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً‏‏‏‏}.

 

– وعلى الواجب المفروض:

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}.

 

-وعلى الحكمة والقدرة والعلم في الخلق:

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}

 

ومن خلال ما استعرضنا يتبيّن لنا لماذا سمى الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بالفُرْقان، فهو الكتاب الذي يفرق، أي يُميّز الحق من الباطل، والهداية من الضلال، والمولى يضع هذه الحقائق أمام الإنسان ويخيّره: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}.

 

 وهذا انما يعني أن اتِّباع الحق خيارٌ، وليس فرضاً وجبراً وقهراً، وأن مسيرة الحياة يحكمها خياران: خيار الحق المتفرّع من خط الإيمان وخيار الباطل الذي يجسد الكفر والشرك واتباع الشيطان وأهواء النفس.  

 

أيها الاحبة :

 لقد اقتضت سنن الله سبحانه وتعالى أن يستمر صراع الحق مع الباطل ما دام ميدان الإبتلاء مفتوحاً. وقد يحقق الباطل انتصارات هنا وهناك، لكن القرآن الكريم يحدثنا عن وعد قاطع من الله سبحانه بهزيمة الباطل أمام الحق: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.

{ ….وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}

 

 لكن نصر الحق لا ينزل على أهل الحق بسلة من السماء. فللنصر شروط، فهو يحتاج إلى رافعة، ودعم، وجنود مؤمنين بأحقيّة قضيتهم.

قد يربح الباطل جولة أو جولات والسبب غفلة أصحاب الحق وأهل الحق عن حقّهم، أو لضعفهم وتفرَق كلمتهم، أو لأنهم تخلوا عن تكاليفهم.

يقول الإمام علي(ع): «حين سكت أهل الحق عن الباطل توهَّم أهل الباطل أنهم على حق» … كي ينتصر الحق ليس بحاجة إلى كثير من التنظير، وإلى كثير من ناقدين يتربعون على منابر الفضائيات، ليقولوا ما يجب وما لا يجب كي ينتصر الحق.

 

لقد قص القرآن الكريم الكثير من قصص انتصار الحق على الباطل بالصبر والثبات على الحق، منها أول نصر حققه المسلمون على مشركي قريش في يوم الفرقان:

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

ومنها انتصار موسى على سحرة فرعون:

{وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

 مثل هذا النصر الذي كانه ينزله الله سبحانه على أهل الحق، كان وعداً والله تعالى لا يخلف وعده مع المؤمنين الصادقين الثابتين على الحق:

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}.

 

والباطل ايها الاحبة  ايها الاخوة والاخوات مهما ساد وتمكّن من قواعد في الأرض فإنه يحمل بذور فنائه في جميع منظوماته التي يؤسسها. وقد يبدو ظاهرياً، خصوصاً لمن هم في خدمته، أن أركان الباطل راسخة وثابتة، ولا يُمكن زعزعتها، إلا أن سنة الله لا تبديل لها:

{ … إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

 

وفي الوقت نفسه فإن علو الباطل، والفترة التي يسود فيها، تكون امتحاناً وإبتلاء لأهل الحق، لإن الباطل لا يُعدم أن يجد أنصاراً يعملون في خدمته، حتى داخل أهل الحق، فيُجرب معهم أسلحة المال أو القوة أو الإرهاب أو أساليب ومغريات أخرى فيسقط الكثير من الناس من جادة الحق الى مهاوي الباطل.. مرات عن وعي وإرادة، ومرات عن جهل وغفلة وعدم وضوح رؤية وغياب البناء الذاتي.

 

لذا على كل فرد أن يعد نفسه ويستعد دوماً من أجل ان يضطلع بمسؤولية هي على رأس الصفات التي تجعل منه انسانا.. ان الوقوف الى جانب الحق هو ليس خياراً في فضاء الانسانية بل هو شرط لازم ..هو واجب..وهو ما يحقق غنى إنسانيته  ويبعد عنه الفقر… هذا الفقر الانساني المدقع الذي بات سمة الحياة في هذا العصر

 

لذا من هذا الباب لا يجوز التذرع بأي حجة للوقوف على الحياد عند تشخيص الحق من الباطل:

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

وفي حديث للرسول(ص): «الحق ثقيل مرٌّ والباطل ضعيف حلو».

 

 أيها الاحبة إن الحق واضح، والإنسان قادر على تمييزه من الباطل بالفطرة، والله أوضح طرقه، وسبله وأعطى الإنسان ما يمكنه من معرفته (عقل، رسالات سماوية وانبياء). إذاً لماذا يضل الكثيرون، وينحرفون عند جادة الحق.

 

يجيب الإمام علي(ع) محدداً لنا ما يصدّ الإنسان عن الحق واتباع الحق ونصرة الحق فيقول: «أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتباع الهوى وطول الأمل. فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسى الآخرة».

 

فمتى جعل الإنسان مصالحه ومنفعته وأهواءه وملذاته هي البوصلة، فإنه يسلك مختاراً سبل الباطل، ويبيع الحق، والعدل، والأخلاق والإيمان مختاراً طائعاً. هكذا إنسان فإن الحق أثقل ما يكون عليه حتى ولو كانت كلمة ينطق بها في موقف. الميزان عنده المصلحة والمنفعة.

 

أما الصادعون بقول الحق، والممسكون بحبل الحق، فهم العاملون بوصية إمام الحق(ع): «اصبر على مرارة الحق وإياك أن تخدع لحلاوة الباطل». هؤلاء يتمسكون بقول الحق، والعمل بالحق في الرضا والغضب عملاً بقول رسول الله(ص): «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم. قيل: يا رسول الله من هم؟ فقال: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، ويبذلونه إذا سُئِلوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم».

 

 أيها الاحبة

ان موضوع الحق متشعب ومتشابك ويحتاج ان نخصص له اكثر من خطبة وسنتابع ذلك ان شاء الله ..

وأخيراً لا يسعنا  ونحن في محضر بيت الله بيت الحق..إلا ان نعلن ولاءنا للحق ان نكون معه نسعى لمعرفته ونتثبت منه ندور معه كيفما دار  ونتحمل لأجله..

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه..

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه وما قصرنا عنه فبلغناه  

اللهم ثبتنا ما أحييتنا على طريق الحق ولو قل سالكوه..

انك سميع مجيب

والحمدلله رب العالمين

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي خير زادٍ ومعيّن لنا {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ}. وحتى نبلغ التّقوى، لا بدّ من أن نزن الأمور بميزان الحقّ، وأن لا نقول إلا الصّدق والعدل والصّواب والهدى، حتى لو كان ذلك على حسابنا أو على حساب من نحبّ، وأن لا يدخل في كلامنا أو تقييمنا هوى أو عصبيّة، فقد قرن رسول الله(ص) بين التّقوى وقول الحقّ، بل اعتبره أعلى درجات التّقوى، حين قال(ص): "أتقى الناس من قال الحقّ، فيما له وعليه".. فإنّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ ـ وإن ضرّك ـ على الباطل وإن نفعك..

 

أيّها الأحبّة، ليكن صوت الحقّ أعلى من كلّ الأصوات، حتى نسْلَمَ، فلن يسلم واقعنا بغير الحقّ، وإن خُيِّل إلينا غير ذلك، ولن يكون الله عوناً أو سنداً للكاذبين، أو المنافقين، أو المتلوّنين، أو الظّالمين والسّائرين على غير هدى، بل إنّه توعّد هؤلاء بأن منطقهم زاهق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.

بالحقّ الثابت واجهنا تحدّيات الماضي، وبه نواجه تحدّيات المستقبل..

 

لبنان

والبداية من لبنان، الّذي لا تقف معاناته عند حدود الفراغ الرئاسيّ، وتعطيل عمل مجلس النّواب، وعدم انتظام عمل الحكومة، والبرودة في التعامل مع ملفّ النفايات، رغم الحديث عن حلول مرتقبة، بل إنها باتت تطاول مواقع القوّة فيه، فبعد القرار الظّالم الّذي تعرّضت له المقاومة في لبنان ولا تزال، في محاولة لشطب كلّ تاريخها، من خلال اتهامها بالإرهاب، وهي التي شكّلت ولا تزال تشكّل عنواناً من عناوين القوة، لا للبنان فقط، بل لكلّ العالم العربيّ، في مواجهة غطرسة العدوّ الصّهيونيّ واستباحته للأرض والإنسان، بحيث أسقطت مشاريعه العدوانيّة وأحلامه التوسّعيّة.. بعد هذا القرار، شهدنا قرارات تستهدف الجيش اللبناني بطريقة وبأخرى، بمنع المساعدات عنه؛ هذه المساعدات الّتي تمكّنه من مواجهة التّحدّي الّذي يتهدّد لبنان في الدّاخل والخارج، بحجّة أنّه لا يملك قراره، مما يؤثّر في وحدته ومعنوياته، إضافةً إلى ما يحمله ذلك من إيحاءات طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة، تسيء إلى الجيش وإلى لبنان..

 

إننا أمام ذلك، وفي الوقت الّذي ندعو كلّ القوى السياسيّة إلى تحمّل مسؤوليّاتها في العمل السّريع لتحريك كلّ الملفّات، نرى أن الأولويّة في العمل لحفظ وحدة البلد وكلّ مواقع القوّة فيه، فاستهداف المقاومة لا يعني المقاومة وحدها، بقدر ما يعني كلّ اللبنانيين الّذين عليهم جميعاً أن يقفوا صفّاً واحداً لحفظها، وإذا كان لدى بعض اللبنانيين وجهات نظر مختلفة، فإنّ الحوار الجاري هو السّبيل لحلّها، والوصول إلى رؤية موحّدة لحماية لبنان.

 

والأمر نفسه في استهداف الجيش اللبناني، حيث لا بدّ من موقف موحّد في الردّ على الّذين يسيئون إليه أو يهدّدون وحدته ودوره، ولا ينبغي أن تدخل في ذلك أيّ اعتبارات، وهنا لا بدّ من أن ننوّه بالعملية الأخيرة للجيش اللبنانيّ، والتي أكّدت جهوزيّته وحضوره واستعداداته، رغم عدم توفّر الإمكانات المطلوبة والقدرات الكافية.

 

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن نثمّن كل المواقف الوطنيّة الّتي دعمت الجيش، ورفضت وصف المقاومة بالإرهاب في المحافل العربيّة، وأصرّت على إبقاء الحوار الداخليّ وعدم العبث فيه تحت أي اعتبار.

 

وهنا، نعيد التّأكيد على ما قلناه سابقاً، بأنّه من الطّبيعيّ أن يكون لكلّ فريق سياسيّ علاقاته الخارجية، ولكن المطلوب من كل هذه القوى أن تجعل هذه العلاقات لحساب البلد وقوته، لا على حسابه، وألا تصبح هذه العلاقات خيانة للوطن.

 

ذكرى مجزرة بئر العبد

في هذا الوقت، يستعيد اللبنانيون مجزرة بئر العبد، التي كانت تستهدف رمزاً من رموز هذا الوطن، كما هو رمز على مستوى العالم، حين وقف ليواجه السّياسة الصّهيونيّة والاستكباريّة التي كانت تستهدف لبنان، ومن خلاله المنطقة العربية، حيث شكّل هذا الصوت إزعاجاً لكلّ هذه السياسات، فكان القرار بأن يرحل، ولو كلّف ذلك العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا آنذاك.. ولكن شاءت مشيئة الله أن يبقى هذا الصوت وتستمر مسيرته.

 

لقد كنا ولا نزال نعيد التذكير بهذه المجزرة، وندعو إلى عدم نسيانها، لا لنخلّد مناسبةً أو نشير إلى شخص نحبه ونقدّره، بل لأننا نريدها مناسبة للوعي، حتى تعي الأمة من ساهم في نهضتها ووعيها، وأخرجها من ركودها إلى فضاء الحرية والعزة، وحتى تعي أيضاً صنّاع الجريمة في عالمنا وفي تاريخنا. ولذلك، علينا أن نشير إليهم، حتى لا نسمح لهم بأن يعبثوا في الحاضر ويكرروا جرائمهم.

 

سوريا

وبالانتقال إلى سوريا، فإننا نأمل أن تتابع الخطوات الآيلة إلى تثبيت الهدنة بإجراءات عملية ومصالحات أمنية، تمهيداً لبلوغ حل سياسيّ ينهي جذور هذه الأزمة، ويعيد إلى سوريا أمنها واستقرارها ووحدتها.

وهنا ندعو كلّ الدّول المؤثّرة في الداخل السّوري إلى لعب دور إيجابي، وعدم وضع العصيّ في دواليب الحل..

 

العراق

وإلى العراق، الَّذي لم تقف حدود معاناته على الإرهاب الّذي لا يزال يحتلّ مساحات من أرضه ويستهدف أمنه الداخلي، بل إنه يواجه انقساماً داخلياً يعصف بقواه السياسية، ويمنع تحريك العجلة السياسية لإيجاد الحلول للمشكلات المستعصية في هذا البلد.

إنّنا أمام هذا الواقع، نهيب بكلّ القوى السياسية الخروج من حساباتها ومحاصصاتها، لحساب استقرار العراق ومعالجة أزماته الكبيرة والمستعصية.

 

اليمن

ونصل إلى اليمن، الّذي نأمل أن يساهم الحوار الجاري في الرياض في إخراج هذا البلد من معاناته، وإيقاف العدوان المستمرّ عليه، والّذي تسبّب بمآسٍ كبيرة بات العالم يشعر بفداحتها، وبعد أن أصبح واضحاً أن لا جدوى من الحلّ العسكريّ الذي لا ينتج سوى المزيد من الدّم والدّمار والخراب.

 

يوم المرأة العالمي ويوم المعلّم

وأخيراً، مرّت علينا في الأسبوع الماضي مناسبتان عزيزتان، أولهما يوم المرأة العالمي، حيث نستعيد هذه المناسبة لنتوجّه بالتقدير إلى كلّ امرأة امتلكت الوعي، وخرجت لتشارك الرجل في بناء الحياة في الميادين الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ولم تنسَ دورها الأساسيّ في بناء جيلٍ واعٍ.. ونحن في هذه المناسبة، ندعو إلى تعزيز دورها وحمايتها، من خلال تمكينها من كلّ القدرات الّتي تساعدها على أداء هذا الدّور، وعدم جعلها أسيرة الاهتمام بشكلها وجمالها.

 

وهنا نؤكّد ضرورة إعادة النظر بكلّ القوانين المجحفة بحقّ المرأة، وعدم اعتماد سياسة التّمييز الّتي جاء الإسلام ليلغيها.

 

وفي التّاسع من آذار كان يوم المعلّم، حيث نتوجّه بالتهنئة إلى كلّ معلم ينوِّر العقول من الجهل والتخلّف، وينقّي القلوب من الحقد والكراهية، ويحثّ على العلم والتعلّم، فالأمّة الواعية هي التي تقدّر معلّميها وتحرص على تعزيزهم وتكريمهم، وقد كرّم الله المعلّم حين جعل نفسه معلّماً عندما قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}، وجعل عنوان رسالته الخاتمة للبشر: {اقْرَأْ}.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : 2 جمادى الثانية 1437هـ الموافق : 11 اذار 2016م

 

 

 

Leave A Reply