صلحُ الحديبيةِ وأثرُهُ في الدّعوةِ إلى الإسلامِ

السيد علي فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}[الفتح: 1-2].

في أوّل شهر ذي القعدة من السنة الثانية للهجرة، كان صلح الحديبية الذي عقده رسول الله (ص) مع قريش، وقد سمّي الصّلح باسم المكان الذي عقد فيه، وهو الحديبية الّتي تقع على حدود حرم مكَّة.

وقد كان لهذا الفتح أثر كبير عبَّر عنه الله بأنّه فتح مبين، كما ورد في الآية التي أشرنا إليها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.

الوعد بدخول مكّة

وكان ذلك بعدما رأى رسول الله (ص) في المنام وهو في المدينة، بأنه دخل مكَّة وحلق رأسه هناك، وأخذ مفتاح الكعبة بيده، وقد صدق الله رؤيا نبيّه بقوله: {لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح: 27].

بعد هذا الوعد، استنفر رسول الله (ص) أهل المدينة ومن حولها من أهل البوادي ليخرجوا معه إلى مكَّة لأداء العمرة فيها، فخرجوا معه رغم وجود قريش فيها، إيماناً بصدق الوعد الإلهيّ، فخرج معه ألف وخمسمائة وخمسون رجلاً وامرأة، أحرموا للعمرة في مكّة المكرَّمة. ولتأكيد خروجهم، ساقوا معهم الهدي، ولم يأخذوا معهم سوى سلاح الراكب الذي يأخذه كلّ مسافر.

وفي الطريق إلى مكَّة، علم رسول الله (ص) أنّ قريش قرَّرت عدم السماح له ولأصحابه بالدّخول إلى مكَّة، وأرسلت لذلك كتيبة بقيادة خالد بن الوليد لمنعه، فقرّر لذلك رسول الله (ص) أن يغيِّر طريقه إلى مكَّة، وسلك طريقاً وعراً حتّى لا يصطدم مع قريش، ولما وصل الحديبية، وقبل دخوله، أرسل مبعوثاً له إلى قريش هو عثمان بن عفّان، وقال له: “أخبرهم أنَّا لم نأت لقتال، وإنّما جئنا عماراً“.

لكنَّ قريشاً احتبست مبعوث رسول الله (ص) عندها، ولم تسمح له بالعودة، وقد شاع بين المسلمين أنّه قتل.

أمام ما حصل، دعا رسول الله (ص) المسلمين إلى البيعة، فبايعوه على مواجهة قريش إن هي اختارت المواجهة. وهنا، التفتوا إلى مدى احترام رسول الله (ص) لأصحابه، فهو دعاهم عندما خرجوا معه لأجل العمرة، ولم يأت بهم لقتال، ولكن مع تغيّر الظروف والاضطرار للمواجهة مع قريش، كان لا بدَّ من أن يبايعوه على ذلك، وقد تمت البيعة تحت شجرة هناك، ولذا سميت ببيعة الشّجرة أو بيعة الرّضوان، باعتبار ما نزل في الآية بعدها: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح: 18].

بنود الصّلح

وصلت أصداء البيعة إلى قريش، فأطلقت مبعوث رسول الله عثمان بن عفان، وكلَّفت سهيل بن عمرو بالتفاوض مع رسول الله (ص)، الّذي انتهى إلى صلح يتضمّن بنوداً عدة.

أوّلاً: تعهّد قريش بإيقاف الحرب على رسول الله والمسلمين عشر سنين، بحيث يكون المسلمون آمنين داخل مكّة وخارجها، ولهم كلّ الحريّة.

ثانياً: رجوع رسول الله (ص) وأصحابه عن دخول مكّة، على أن يعودوا إليها في العام القادم، فيقيموا فيها ثلاثة أيّام، بعد أن تُخليها لهم قريش، ليمارسوا حرّيتهم في أداء العمرة.

والبند الثّالث: تعهّد رسول الله (ص) لقريش بأنّ من أتى إليه مسلماً بغير إذن وليّه، ردّه الرّسول إلى قريش، ولكن من جاء قريشاً من المسلمين يريد ترك الإسلام، لم يردّوه إلى المدينة.

وقد أثار هذا البند جدلاً بين المسلمين، إلى حدّ أنّ أحد الصَّحابة قال بطريقة غير لائقة للرّسول: “لماذا نعطي الدنيّة في ديننا؟!”.

لكنّ رسول الله (ص) كان واثقاً بأنّ من يأخذ قراره بالإسلام عن إيمان لن يتراجع، وسيُشغل بال قريش إن هي حجزتهم عن الالتحاق برسول الله (ص)، وسيشكِّل ذلك مصدر قلق لها. أيضاً، وفي المقلب الآخر، عندما أعطى رسول الله (ص) لقريش الحقّ في عدم تسليم من يعود إليها مرتدّاً عن دينه، فلأنّه كان يدرك أن لا أحد سيلوذ بقريش بعد إسلامه عن إيمان.

وهذا بالفعل ما حصل، فقد تجمّع كلّ من كانت قريش تمنعهم من الالتحاق برسول الله (ص) على الطّريق بين مكّة والمدينة، وراحوا يقطعون قوافل قريش لإرغامها على السَّماح لهم بالالتحاق برسول الله (ص) في المدينة. لم تتحمَّل قريش الضّغوطات الكثيرة الّتي مارسها عليها أولئك المسلمون، لهذا نراها، وبعد مدَّة قصيرة، تستجدي رسول الله ليلغي هذا البند بعد أن تحوَّل إلى عبء عليها.

وبعد الانتهاء من مراسم الصّلح، أمر رسول الله أصحابه بنحر الهدي وحلق رؤوسهم ليفكّوا بذلك إحرامهم، وعادوا إلى المدينة بعد 19 يوماً من خروجهم منها ظافرين منتصرين.

آثار الصّلح ودروسه

لقد كان للصلح آثاره الكبيرة في الدعوة إلى الإسلام، فقد ساهمت الهدنة التي حصلت مع قريش في إيصال صوت الإسلام إلى العالم، فأرسل رسول الله (ص) رسائله إلى الملوك وزعماء القبائل، وفي دخول عدد كبير من المشركين في الإسلام، ومهَّدت الطريق للتفرغ لمواجهة اليهود الذين كانوا قد تحصّنوا في خيبر والانتصار عليهم.. وبعد ذلك، فتح مكّة، والذي جاء بعدما نقضت قريش هذا الصّلح، وكان لذلك فتحاً مبيناً.

في صلح الحديبيّة دروس كثيرة يجب أن نستلهمها ونتوقّف عندها، ولكنّنا في هذه العجالة، سنتعرّض لواحد منها، وهو احترام الإسلام للعهود والمواثيق حتّى لو كان ذلك مع قريش، ناقضة العهود، محيكة المؤامرات والدّسائس والفتن، فلم يخالف المسلمون عهدهم مع قريش حتى نقضته هي، فأصبحوا عند ذلك في حلٍّ منه.

فقد ذكرت السّيرة، أنّه ما إن انتهى رسول الله (ص) من توقيع العقد مع موفد قريش سهيل بن عمرو، حتى جاء أبو جندل، وهو ابن سهيل، فارّاً من أبيه للالتحاق برسول الله، وكانت القيود لا تزال في قدميه، بعدما حبسه أبوه في مكّة لمنعه من الالتحاق بالمسلمين، فلمَّا رآه والده، قال لرسول الله (ص): يا محمّد، هذا أوّل ما أقاضيك عليه، ردَّه إليّ، كما نصّت المعاهدة بيني وبينك، وهي لم يجفّ حبرها بعد. فأعاده رسول الله (ص)، وقال لأبي جندل: “يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإنَّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنَّا لا نغدر بهم”، حتى لو كانوا مشركين.

وبهذا، قدَّم رسول الله درساً عملياً في الوفاء بالعهد والالتزام بالمواثيق، فالمسلمون يوفون بعهدهم وعقودهم، لا يغدرون أو يغيّرون، وهم أمناء على ما يلتزمون به، سواء كانت هذه الالتزامات في إطار العلاقات الفردية أو الوظيفية أو التجارية أو الاجتماعية أو مع الدّولة.

وهذا ما نحتاجه في واقعنا، حيث بات الوفاء بالعهد هو منطق الضّعفاء، بينما الأقوياء لا يأبهون بالتزاماتهم.

جعلنا الله وإيّاكم ممن قال عنهم الله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج: 32]. وقال رسول الله: “لا دين لمن لا عهد له“.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نغتنم فرصة هذا الشّهر؛ شهر ذي القعدة. وهو من الأربعة الحرم الّتي يحرم فيها القتال، وقد سمي بذي القعدة لأنّه يقعد فيه عن القتال وعن الظّلم، وميزة أخرى له، أنه يضاعف فيه الثّواب لمن يعمل الحسنات، والعقاب لمن يعمل السيّئات.

وقد وردت في هذا الشّهر العديد من المناسبات التي لا بدَّ من إحيائها، ففي أوّل هذا الشّهر، كانت ولادة السيّدة فاطمة بنت الإمام الكاظم (ع)، والتي لقِّبت بالعديد من الألقاب، منها الطّاهرة والتقيّة، ولكنّ لقبها الأبرز، والّذي تذكر به، هو المعصومة. وجاء أنَّ الإمام الرّضا (ع) لقَّبها به، وقد كان لها مكانتها العلميّة، فكانت مقصداً لطالبي العلم.

وقد توفيت وهي في الطريق إلى زيارة أخيها الإمام الرّضا (ع) في خراسان، ودفنت حيث هي في قمّ المقدَّسة.

وفي الحادي عشر من هذا الشّهر، ولادة الإمام الرّضا (ع). وفي التّاسع والعشرين منه، وفاة الإمام محمد بن عليّ الجواد.

فلنغتنم فرصة هذا الشّهر، ليكون بالنّسبة إلينا شهر سلام وأمان وعفو وتسامح وعبادة، ولنتزوّد من معين هؤلاء الأطهار الأصفياء، لنأخذ من طهارتهم ومن صفائهم صفاءً، ومن مسؤوليّتهم مسؤوليّة، وبذلك نكون أقدر على مواجهة التحدّيات.

إذلالٌ.. وتعقيدٌ للحلّ

والبداية من لبنان الَّذي يبدو أنَّ مسلسل الإذلال الذي يعانيه اللّبنانيّون لن يتوقَّف، سواء في سعيهم لتحصيل الغذاء والدَّواء والاستشفاء والكهرباء، أو في انتظارهم الطَّويل على محطّات البنزين أو المحروقات، وهو لن يتوقَّف، بل سيتفاقم ويزداد مع قادم الأيّام، بعدما أصبح واضحاً أن لا حلول جادّة لكلّ هذه الأزمات، وإذا كان من حلول، فهي من قبيل المسكّنات.

فالإنسان في هذا البلد يبدو أنّه ترك لمصيره ليتدبّر أمره ويقلّع أشواكه بأظافره.

ومع كلّ هذا، يستمرّ التعقيد على صعيد تأليف الحكومة، رغم كلّ ما يشاع من أجواء إيجابيّة، والتي، مع الأسف، أصبحت جزءاً من اللّعبة السياسيّة والصّراع الدّائر بين المعنيّين بالتأليف، حيث لا يزال التصلّب والعناد والكيديّة سيّد الموقف على هذا الصعيد بين المعنيّين بتأليفها، ولا يبدي أيّ منهم استعداده للتّنازل للآخر، إمّا تثبيتاً لموقعه في المعادلة السياسيّة، أو على صعيد طائفته، أو منعاً لتأليفها ضمن الظّروف والمعطيات الحاليّة، وانتظاراً منه لظروف أخرى.

في هذا الجوّ، يسعى كلّ طرف لاستخدام الوسائل المتاحة لديه للضّغط على الطّرف الآخر، إمّا باستنفار الغرائز الطائفيّة والمذهبيّة ورفع الأسقف، أو في أسلوب قطع الطّرقات، ونخشى أن يكون ما يجري على الصّعيد المعيشي والحياتي، وما يعانيه اللّبنانيّون، جزءاً من عملية الضغط التي يمارسها هذا الفريق أو ذاك.

إننا أمام هذا الانسداد في الأفق على الصّعيد الحكومي، ندعو مجدَّداً كلّ القوى السياسيّة التي تدير البلد، والّتي هي في مواقع التّأثير فيه، إلى تحمّل مسؤوليّتها في إخراجه من الحال الّتي وصل إليها، والمعاناة التي يعيشها اللّبنانيّون، بعدما كانوا السبب فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، للعمل بكلّ جديّة على اجتراح حلول واقعيّة لأزماته، وعدم الاكتفاء برمي الكرات وتبادل الاتهامات وتسجيل النقاط أو توصيف الحال، وأن يُسخِّر كلّ منهم موقعه في الدّاخل، أو علاقاته الخارجيّة في هذا الإطار، وأن لا يفوّتوا أيّ فرصة لإنقاذ البلد من الانهيار الّذي وصل إليه، فهناك في هذا العالم من يريد لهذا البلد الخير بعيداً من المصالح والمنافع.

ونحن في هذا الإطار، نتوجه بالشّكر إلى العراق وحكومته على مبادرتهم بتقديم مليون طن من النفط الخام لمساعدة لبنان، ونأمل أن يكون للدّول الأخرى مبادرات مماثلة تساعد اللّبنانيّين على مواجهة أزماتهم الحادّة.

ونحن في الوقت نفسه، نجدّد دعوة اللّبنانيّين إلى تحمّل مسؤوليتهم في الضّغط على كلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، وإشعارهم بأنهم لن يغفروا لمن أوصلهم إلى هذه الحال، ونحن نأمل أن تثبت الانتخابات القادمة ذلك.

تمهيدٌ لرفعِ الدَّعم!

وفي مجال آخر، نتوقّف عند القرار الّذي صدر عن حاكم مصرف لبنان بإعطاء المودعين مبلغ أربعمائة دولار نقديّ وأربعمائةٍ بسعر اثتني عشرة ألف ليرة.

إنّنا نرى في ذلك خطوة إيجابيّة في الطّريق لتحصيل المودعين أموالهم، ولكنّنا في الوقت نفسه، نرى آثاره كارثية على المستوى الاقتصادي والماليّ، وإجحافاً بحقّ المودعين الذين من حقّهم أن يختاروا هم كيفيّة أخذ أموالهم، لا أن يفرض ذلك عليهم.. فاللّبنانيّون من حقّهم أن يسترجعوا أموالهم كاملة، وعلى من ائتمنهم اللّبنانيون على أموالهم أن يؤدّوا إليهم أماناتهم.

وهنا نخشى أن يكون هذا القرار مقدّمةً لإسكات اللّبنانيّين، وتمهيداً لرفع الدَّعم الذي سوف تكون له آثار كارثيّة على أغلبيّة المواطنين.

العدوُّ يتمادَى في القدس

وإلى فلسطين، حيث لا يزال العدوّ الصهيونيّ يتمادى في استفزازاته في القدس وملاحقة الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة والدّاخل الفلسطينيّ، وفي اقتحامه المسجد الأقصى.

إنّنا نتطلّع في مواجهة كلّ ذلك، إلى العمل لتعزيز الوحدة بين الشّعب الفلسطيني وفصائله وقواه الحيّة، وأن يبقى مصراً على المعادلة بأنّ الاعتداء على القدس والمسجد الأقصى هو اعتداء على كلّ أرض فلسطينيّة، وأن يتوسَّع ذلك ليشمل كلّ أرض عربيّة وإسلاميّة، وأن لا يخضع لكلّ السّاعين للإيقاع فيما بين مكوِّناته..

معاناةُ اليمنِ حلُّها سياسيّ

وأخيراً، نجدّد دعوتنا للعمل بكلّ جدّية على إنهاء معاناة الشعب اليمني، بوقف الغارات والحصار المطبق عليه، وإفساح المجال لكلّ المبادرات لكي تفتح الطّريق نحو حلّ سياسيّ نريده أن يؤدّي إلى توحيد اليمن وإمساكه بقراره الحرّ، لتعزيز حضوره على مستوى العالم العربي والإسلامي وقضاياه.