علي(ع): الحاكم العادل وإمام الانسانية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطهرّكم تطهيراً}..

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.صدق الله العظيم.

 

في الثّالث عشر من شهر رجب الحرام ــ أي بعد أيّام ــ تطلّ علينا ذكرى الولادة المباركة لأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين، عليّ بن أبي طالب(ع).. هذه الولادة الّتي لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن تكون كبقيّة الولادات. فقد ولد عليّ(ع) في بيت الله الحرام في الكعبة المشرَّفة، والكعبة ليست كأي مكان آخر فهي أوّل بيت وضع للنّاس، وإليه تتوجّه أفئدة المؤمنين في صلاتهم وحجّهم.. ومسقط رأس علي لم يحصل لأحد من قبله، ولن يحصل لأحد من بعده. وقد قالها الشَّاعر:

أنت الـعلـيّ الّـذي فـوق الـعـلى رفـعــا

بـبـطـن مــكّـة وســـط الـبـيــت إذ وضــعا

 

وتزامنا مع أجواء الفرح التي تغمرنا اليوم والتي نشعر بها تضيء كياننا ووجداننا، وتضيء عقولنا وأرواحنا وترسم البسمة على الوجوه فتهلل فرحا، وتزيّن بيوتنا وشوارعنا ومع ذلك، ما أبعد اليوم عن أمس، فتزامنا مع هذه الذكرى يطالعنا مشهد إسلامي يزداد فيه التطبيق بعدا عن النظرية، وينقلب عليها ويجافيها.. مشهد يزداد فيه الابتعاد عن الجذور والاصول  بأشواط وأشواط ..

في هذه الذكرى نستحضر علياً وأهل البيت(ع) تجسيداً حقيقياً لكل ما أريد للإسلام أن يضفيه على الحياة كلها، في مجالاتها كافة من رأس هرم المسؤوليات الى ادناها… وهل في هذا القول مغالاة… تأملوا التاريخ بعد رحيل علي…

 منذ تجربة علي عليه السلام في الحكم تحديداً، لا نكاد نجد  أي إضاءات تذكر على صعيد تجربة الإسلاميين في الحكم، رغم  صغر عمر تلك التجربة، ورغم ما تخللها من جراح ومناكفات وتحديات،  لكنها كانت كافية لتؤسس وتبني وتمنهج، كانت مدرسة عظيمة، لا بد من الوقوف على مفاصلها واستعادتها اليوم وأكثر من أي وقت مضى..

 

أيّها الأحبّة:

في ذكرى ولادة الإمام(ع)، سنتوقّف عند شخصيّة عليّ الحاكم في أربعة نصوص نختارها من نصوصه(ع).

النّصّ الأوّل يظهر منهج الإمام(ع) في التّعامل مع الولاة الذين يعينهم في المدن الإسلاميَّة، هو درس لكلّ حاكم مسلم، درس لكل من يمتلك سلطة مهما كان حجمها ..

ففي رسالةً نقرؤها إلى واليه في البصرة، عثمان بن حنيف الأنصاري، يؤنّبه الامام فيها على بعض سلوكه، ما هو هذا السلوك؟ اسمعوا: 

"فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ،وغنيّهم مدعوّ". ماذا يعني هذا؟ ألا يعني أنه كان(ع) يتابع أدقّ تفاصيل سلوك الولاة، وكأنّه يقول لمن ولاه إنّ هذه المأدبة رشوة لك، لأنّ هذا الرّجل لو كان حريصاً على إطعام الطّعام لوجه الله، لدعا الفقراء قبل الأغنياء. "فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم"

 المهم، الامام علي وبعدما أنّب واليه وحط معه النقاط على الحروف راح يتحدَّث عن نفسه كإمام وحاكم وقدوة: ليقول: أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أُشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خُلِقت ليشغلني أكل الطيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها (أي أكل كلّ ما أمامها)".

 

ثم يقول: "إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك (أي مزالقِك)". "أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟.. هاهم رهائن القبور، ومضامين اللّحود".

هذه مدرسة علي في الحكم، هو درس في ممارسة السلطة وتحدي المال\ درس الموقع وخطر الفساد \ درس الحكم ومرض الكبر والعلو.

 

والنصّ الثاني من مدرسة علي يُظهر(ع) الحاكم الّنزيه الذي لا يحابي أحداً، ولا يميّز بين أحد وأحد، حتّى لو كان أخاً كعقيل في فقره، وفي إعاقته (كان كفيفاً)، وفي هذا نقرأ لأمير المؤمنين(ع): "والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق،(لم يعد عنده شيء) حتّى استماحني من بركم (قمحكم).. صاعاً وعاودني مؤكّداً، وكرّر عليّ القول مردّداً، فأصغيتُ إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني، وأتبع قياده، مفارقاً طريقتي.. فأحميت لـه حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها.. فضجّ ضجيج ذي دنف(ذي مرض)، من أَلَمِها، وكاد أن يحترق من ميسمها.. فقلت له: ثكلتك الثّواكل يا عقيل، أَتَئِنّ من حديدة أحماها إنسانها لِلَعِبِه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارُها لغضبه؟ أتَئِنّ من الأذى، ولا أئِنُّ من لظى".

 

بهذه الرّوح، كان عليّ(ع) يتعامل مع  مقدرات سلطته.. لا أسباب تخفيفية  تجعله يفضل هذا على ذاك ولا خطوط عسكرية ولا سندة ظهر للمقربين منه.. وما أكثر المسنودين هذه الايام.. مسنودون من أصحاب مواقع وسلطات قد لا يمررون لهم أموالاً نقدية لمرة واحدة فحسب  بل يسندونهم بتسهيلات وتدخلات ويغضون النظر عن مخالفات وتعديات، الامر مع هؤلاء لا يتوقف ان يعطيه قريبه او أخوه حفنة نقود بل يعطيه من سلطته سلطة ويجعله يضرب بسيفه وما أكثر الضحايا !.. هذا هو درس امير المومنين الى كل من يقول بحب علي او ينتسب اليه بشكل خاص، وهو درس بالمطلق في الحكم والحاكمية والحكام لكل الناس.. ولكل زمان ومكان.

 

اما اختيارنا الثالث من دروس مدرسة علي في الحكم، فقد جاء على لسان امرأة اسمها سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانيّة، قالت: "قدمت إلى أمير المؤمنين(ع) في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا، فجار علينا، (نشكو له ما صنع بنا)، فصادفته قائماً يصلّي، فلمّا رآني(ع)، انفتل من صلاته، ثم أقبل عليّ برحمة ورفق ورأفة وتعطّف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى، ثم قال: اللّهمّ أنت الشّاهد عليّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك. ثم أخذ قطعة جلد فكتب فيها:

بسم الله الرّحمن الرحيم:{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}.. فإذا قرأت كتابي هذا، فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسّلام.. ثم دفع الرّقعة إليّ، فجئت بالرّقعة إلى صاحبه، فانصرف عنّا معزولاً".

 

هذا هو علي:

حساسية مطلقة تجاه الظلم، وتجاه الشكوى وتجاه دمعة الفقير وجوع المحتاج.. الامام لم يعاتب واليه، او طلب اليه ان تسوّي الامر مع تلك العائلة، او أعد لتلك المرأة حقها الذي حرمتها إياه بل رأى الامام في سلوك هذا العامل او الموظف ما يجافي المعايير الاساسية التي لا يمكن التهاون بها ابدا.. فأخذ القرار بالصدم والحزم.. ليقطع الطريق امام التهاون والحلول الوسط والتبريرات والاعذار وغيرها.. عليّ لم يساوم، لم يلجأ لأنصاف الحلول. هناك أمور لا تُقبل تحت اي عذر، ومنها الجور والظلم مهما كان قليلا.. لأن الذي يجور في الصغيرة يجور في الكبيرة ..

 

أمَّا النصّ الرّابع، فهو وصيَّته لأحد ولاته إلى مصر، حين حدَّد له القواعد الّتي يجب أن يستند إليها في تعامله مع النَّاس الّذين تحت سلطته.. وهنا الامام توجه للاخلاق وللاسلوب وللكيفية وللوقائية إذ يقول لواليه: "فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللّحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضّعفاء من عدلك عليهم، فإنّ الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصّغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظّاهرة والمستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم.. صلّ الصّلاة لوقتها، ولا تؤخّر وقتها لاشتغالٍ بغيرها.. واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك".

 

أيّها الأحبّة:

هذه لمحات سريعة من تجربة حكم قصيرة زمنياً ولكنها غنية بالمواقف  التي يجب أن تكون أساسا لتجربة الإسلاميين في الحكم والإدارة ..

ولكن عندما نتأمل تجربة علي في الحكم فماذا نجد؟ الدرس الأهم والجوهري أن شخصية علي لم يطرأ عليها أدنى تغيير في شخصيته، وفي صفاته وفي تعامله مع الحياة ومع الناس قبل الحكم وبعده، علي الخليفة هو نفسه علي ما قبل الخلافة، لم يتبدّل، لم تغيّره الكرسي. هو ثبات وصمود وصد لا مثيل له.

   أما لماذا ؟  فببساطة لان الحكم لم يكن هدفاً لعليّ(ع)، هو حدَّد هدفه عندما قال لابن عباس وكان(ع) يخصف نعله:"ما قيمة هذه النّعل؟"،قال ابن عبَّاس: لا قيمة لها.. فقال(ع): "والله لَهيَ أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلاّ أن أُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً".

  وعندما كان يتوجّه إلى الله كان يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك".

 

  إن عظمة علي ايها الموالون لعلي  لا تنحصر في مواقف متميزة نختارها من حياته، بل إن عظمته عليه السلام تتمثل في أن شخصيته لم تتجزأ ولم تتبدل، فعلي الفارس في ساحة المعركة هو نفسه علي القاضي، وعلي الأب والزوج هو نفسه علي الحاكم والإمام والعالم والعابد، هو مثال واضح أن الأخلاق والقيم والدين لا يتجزأ  بعضها عن بعض بغض النظر عن المناصب والتحولات.. هنا يكمن جوهر علي في الحكم، وهذا هو مقتل الآخرين الذين تسقط تجربتهم بمجرد حصولهم على اللقب قبل ان يصلوا للمقدرات والصلاحيات والامكانات

 

    لقد أراد عليّ(ع) أن يقدّم لنا المثل والنّموذج، في قدرة الإسلام على أن يرتقي بالحياة إلى أعلى قيم الإنسانيّة والعدالة، وإذا كان هناك من تجارب فاشلة قدِّمت تحت عنوان الإسلام، فهي لم تفشل لعدم قدرة الإسلام على خوض تجربة الحكم الصّالح، بل لسوء التّطبيق، أو لسوء الفهم أو السّقوط  في أسر الهوى والسّلطة.

ولذلك، أن نخلص لعليّ(ع) هو أن نخلص للحقّ، أن نكون مع الحقّ حتّى لو كان على حسابنا.. أن نكون مع العدل حتّى لو خسرنا مرحليا.. أن يكون القويّ العزيز ضعيفاً ذليلاً عندنا حتى نأخذ منه الحقّ، وأن يكون الضّعيف الذّليل عندنا قويّاً عزيزاً حتى نأخذ له بحقّه.. أن نكون مع عليّ(ع)، أن نقول للدّنيا كما قال لها(ع): "يا دنيا إليك عني.. غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير".

 

أن نكون مع عليّ(ع)، يعني أن نجعل منهجه، وخطّه بوصلة وقدوة،  وأن نعينه بما قال: "أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد".

 

السّلام عليك يا أمير المؤمنين

السّلام عليك يا سيّد الوصيّين

السّلام عليك يا إمام المتّقين

السّلام عليك وعلى ضجيعيك آدم ونوح، وعلى جاريك هود وصالح.

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي‏‏   واخشعي إنّني ذكرت عليّاً

والحمدلله رب العالمين

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به أمير المؤمنين(ع) حين قال: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها خير ما تواصى العباد به، وخير عواقب الأمور عند الله… ألا وإنَّ هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها، وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الَّذي خلقتم له، ولا الّذي دعيتم إليه.

ألا وإنها ليست بباقية لكم، ولا تبقون عليها، وهي وإن غرتكم منها، فقد حذّرتكم شرها، فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها، وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها.. ألا وإنه لا يضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم".

أيها الأحبّة، هذه هي وصيّة علي(ع) لنا، أن تكون الآخرة كلّ سعينا، وأن لا تغرّنا الدنيا وتخدعنا بزخارفها ومباهجها. وعند ذلك، سنملك وضوح الرؤية، وسنسير على الخط الصحيح، وسنصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

والبداية من لبنان، حيث لا يزال اللبنانيون في انتظار ما ستؤول إليه المشاورات التي تجري على أكثر من صعيد داخلي وإقليمي ودولي، لانتخاب رئيس لهم، بعدما عجز المجلس النيابي عن تحقيق ما يصبون إليه، في انتخاب رئيس توافقي، يجمع كلمتهم، ويساهم في تحقيق آمالهم وطموحاتهم وأحلامهم.. وإن كنا نخشى أن لا تفضي تلك المشاورات إلى نتائج سريعة، وأن لا يتم الانتخاب قبل انتهاء المهلة الدستورية، نظراً إلى التعقيدات التي تعانيها الساحة الإقليمية والدولية في هذه المرحلة، فضلاً عن الساحة الداخلية.

ومن هنا، فإننا نجدّد الدّعوة لكلِّ الكتل النيابيّة، إلى ضرورة الخروج من حساباتهم الخاصة ورهاناتهم، لحساب الوطن واستقراره، والتلاقي فيما بينهم لاختيار رئيس يفرضونه على الخارج، ويؤكدون من خلاله أنهم قادرون على إدارة شؤون بلدهم، والإمساك بقراره بأيديهم، فلا يكررون فيه ما اعتدنا عليه، من انتظار كلمة سر تأتي من هنا أو هناك عند كل استحقاق.

وبانتظار حصول هذا الأمر، فإن كل القيادات والمسؤولين مدعوون إلى دراسة كل السبل الآيلة إلى تعزيز مناخات الاستقرار السياسي والأمني، من خلال العمل على إزالة هاجس الخوف لدى اللبنانيين من حصول الفراغ، والَّذي يخشون أن يفقدوا معه المكاسب الأمنية والاستقرار السياسي، ولو بالحد الأدنى، ما يسمح للعابثين بأمن هذا البلد الاصطياد في ماء الفراغ.

وإن كان ما يهوّن الخطب في ذلك، أن لا مصلحة لأحد في تعكير الأجواء الأمنية والسياسية، بعد أن تأمّن الاستقرار بفعل وجود قرار إقليمي ودولي، قضى بإبعاد لبنان ما أمكن عن توترات ما يجرى في محيطه.

وفي هذا الوقت، يبقى الملف الاجتماعي والمعيشي مفتوحاً على مصراعيه، بعد أن عجز المجلس النيابي عن إيجاد حلول ترضي العمال والمعلمين والفئات الفقيرة والطبقات المستضعفة، وتؤمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم المطلوب، فما يتم الحديث عنه من تحقيق لبعض المطالب، لا يسمن ولا يغني من جوع، وقد يذهب سدًى، نتيجة فرض ضرائب جديدة لن تقف عند حدود الأغنياء، بل ستصيب الفقراء من الناس، بشكل مباشر أو غير مباشر.

وهنا، نأمل، وفي ظل التحركات المطلبية، أن لا تسيء تحركات المعلمين إلى مصالح الطلاب في الامتحانات الرسمية، جراء مقاطعة هذه الامتحانات وعمليات التصحيح، ما يترك أثره في مستقبل الكثير من الطلاب والتحاقهم بجامعاتهم. ومن هنا، فإننا ندعو الدولة إلى الإسراع في تلبية المطالب الممكنة، والتي لا تؤثر في اقتصاد البلد، حرصاً على الجميع.

وفي إطار الحديث عن الواقع الاجتماعي، لا بد من أن نلتفت إلى أزمة تلوح في الأفق، وهي أزمة المياه، ونحن نأسف لأن نتحدث عن أزمة مياه قد تحدث في لبنان؛ بلد الثروة المائية، فيما الأمطار لا تزال تتساقط محدثة فيضانات في بعض القرى والبلدات.

وأمام هذه الأزمة، ندعو الدولة اللبنانية والبلديات إلى القيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها في هذا المجال، ودراسة السبل الآيلة إلى منع استفحال هذه الأزمة أو حدوثها، والحؤول دون تحميل المواطنين أعباء إضافية عبر شراء الماء، ولا سيما في ظل الكثافة السكانية الناجمة عن تصاعد أرقام النازحين السوريين، وقدوم المصطافين واللبنانيين من الخارج.

وفي المناسبة، فإننا ندعو المواطنين إلى التوازن في عملية صرف المياه وعدم الإسراف، واعتبار ذلك مسؤولية اجتماعية، وأيضاً مسؤولية شرعية، حيث الحكم الشرعي واضح في عدم جواز الإسراف، وقد ورد في الحديث: "لا تسرف ولو كنت على نهر جار". وهنا، نقولها لكل المؤمنين الذين يسرفون في الماء أثناء الوضوء أو الغسل أو الطهارة: إنكم وأنتم تسعون إلى طاعة الله، قد تقعون في محذور شرعي كبير، عندما تستهلكون من الماء أكثر من حاجاتكم ومما يطلبه الشرع منكم، علماً أنه لا يطلب الكثير في هذا المجال.

ونصل إلى سوريا، حيث لا يزال هذا البلد يعاني نزيف الدم والدمار الذي وصل إلى تدمير تاريخ البلد وتراثه العمراني، بكل ما يحمله من دلالات ثقافية وإنسانية، كما حصل أخيراً في حلب وغيرها، كما يعاني جراء السعي لاستقدام السلاح والمسلحين، والضغوط الدبلوماسية وأخرى غير الدبلوماسية، بدل الإسراع في إيجاد الحلول التي تعيد إلى هذا البلد استقراره، والذي مع الأسف يبدو بعيداً، في ظل احتدام الصراع الإقليمي والدولي في هذا البلد.

إننا ننظر بإيجابية إلى أجواء المصالحات، ولا سيما التي جرت أخيراً في حمص. ومهما كان الحديث عن أسبابها والمستفيد منها، فإننا نأمل أن تُعمّم أجواؤها على بقية المناطق، لإخراج سوريا من أزمتها، بعدما أصبح واضحاً لدى الجميع، أن الهدف من كل ما يجري هو تدمير سوريا، شعباً ودولة، وأن الخاسر في ظل ما يجري، هو قوة هذا البلد وحضوره…

ونصل إلى العراق، حيث ينتظر الكل نتائج الانتخابات، التي نأمل أن تفضي إلى تحقيق ما يصبو إليه العراقيون، في بناء دولة قوية، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كل الأطراف، وتساهم في تحقيق آمالهم وأحلامهم في توحيد البلد، وتأمين الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي للمواطنين، ومعالجة أزمة الفساد المستشري، ومواجهة الإرهاب الذي لا يريد للعراق أن يستقر، والوقوف في وجه كل محاولات إثارة الفتنة الطائفية والمذهبية.

إنَّ من حق الشعب العراقي على كتله السياسيَّة، دراسة سبل التوافق فيما بينها، بدل السعي إلى الاصطفافات المذهبية أو الطائفية، التي تبقي العراق في دائرة عدم الاستقرار، وتجعله ساحة صراع داخلي وخارجي.

أما فلسطين، فتستمر معاناة أهلها، ولا سيما الأسرى منهم، الذين تجاوزوا الآلاف، والذين يعانون ظروفاً صعبة، جعلت البعض يعلن إضرابه عن الطعام.. ومن هنا، فإننا نحيي وقفتهم هذه، وندعو الشعوب العربية والإسلامية إلى تحمل مسؤولياتها، وعدم ترك هذا الشعب لمصيره ومعاناته، ليقلع شوكه بيديه، فيما ندعو القيادات الفلسطينية إلى الإسراع في تنفيذ بنود المصالحة، لمعالجة القضايا الملحّة، ومنها هذه القضية الإنسانية.

وأخيراً، إننا في هذه الأيام؛ أيام الصِّحافة اللبنانية، وفي ذكرى الأقلام الَّتي سقطت في هذا الطريق، ولا تزال، وأمام ما يواجهه الإعلام اليوم من محاولات كمّ الأفواه، تحت أكثر من عنوان، نحيي رجال الصِّحافة، ممّن هم أصحاب الكلمة المسؤولة والواعية، في يوم عيدهم، وندعو إلى حماية حرية الصحافة، لكونها العنوان الأساسي في هذا البلد، وصمّام الأمان لبلوغ الحقيقة، حيث لا حقيقة بدون حرية.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 10 رجب 1435هـ الموافق : 9ايار 2014م
 

 

 

Leave A Reply