عليّ(ع): الإمام الذّائب في الله حبّاً

 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الاولى

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(البقرة: 207).

أصناف النّاس

في حديثٍ له، يفصّل الإمام عليّ(ع) أصناف النّاس في العبادة، فيقول(ع):

"إنَّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة".

بعدها يرفع الإمام عليّ(ع) يديه متوجّهاً إلى الله سبحانه ليعلن خياره: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".

من خلال هذا الحديث، يريد الإمام(ع) أن يبيِّن أصناف النّاس في التّعامل مع الله وعبادته؛  فهناك من النّاس من يعبدون الله رغبةً بالحصول على ما عند الله من نعيم الدّنيا وثواب الآخرة، وهؤلاء يعتبرهم الإمام(ع) تجاراً يريدون أن يربحوا الخير في الدّنيا، ويريدون لهم موقعاً في الآخرة حيث جنّة الله.

وهناك صنف آخر، وهم الّذين يعبدون الله ويطيعونه ويلتزمون أوامره خوفاً من عقابه وعذابه؛ هم يخشون وعيد الله لهم بالبلاء في الدّنيا وعذاب الآخرة، ولذلك يعيشون رقابة الله لهم، ويعبدونه ما دام هاجس الخوف ماثلاً أمامهم.

أمّا الصّنف الثالث، فهم الّذين يندفعون إلى عبادة ربهم لحبّهم له، لشكرهم لعطائه، ولإحساسهم بفضله، ليبادلوا إحسانه بإحسان، وتكريمه بتكريم، وفضله بفضل.

وهذه العبادة هي الّتي سماها الإمام عليّ(ع) عبادة الأحرار، وهي الّتي كانت خياره.

وهذا لا يعني اعتباره العلاقة بالله المبنيّة على الرّهبة والرّغبة خطأ، فالله هو من أعلن قبوله بهذه العلاقة على هذين الأساسين: ترغيب النّاس بتأدية العبادات والقيام بالأعمال الصَّالحة للحصول على الثَّواب وبلوغ الجنَّة، وتخويفهم من العقاب والنَّار إن هم خالفوا أوامره ونواهيه..

لكنَّ الإمام عليّاً(ع) أراد الرّقيّ بهذه العلاقة، لتكون علاقة أساسها الحبّ لله، بحيث يُطاع الله حتّى لو لم يكن هناك ثواب، ولا يُعصى حتّى لو لم يكن هناك عقاب. وهذا هو العشق لله، هو الذّوبان حباً وطاعة، هو الحياة بحبّ الله دون سواه، هو الغنى بعينه، هو الاستغناء عن كلّ ما عدا هذا الحبّ…

مدرسة الحبّ لله

لقد نهل عليّ(ع) ذلك من مدرسة رسول الله(ص)، عندما قيل له: "لم تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: ألا أكون عبداً شكوراً".

هي إذاً مدرسة الحبّ لله، هذا الحبّ الّذي يقف خلف كلّ تلك الحركة الجهاديّة والرّساليّة والقياديّة، هو الحبّ الّذي يُغني الحياة ولا يعطّلها كما قد يفهم البعض خطأً، حيث يظنّ البعض أنّ الحبّ لله يعني أن تذهب بعيداً وتتفرّغ لعبادته من دون أيّ انشغالات، إنّ حبّ عليّ لله هو الخزّان الّذي عاش(ع) عليه في كلّ مفاصل حياته.

ولقد كان حبّ عليّ لله حاضراً في ما أورده الله في القرآن الكريم عنه وعن الزّهراء(ع): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً }(الإنسان: 8-9).

وحبّ عليّ لله هو الحاضر في قرار رسول الله(ص) يوم خيبر، بعد أن عجز كلّ الرّجال الّذين أرسلهم عن فتح الباب، فقال: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجُلاً يحبّ الله ورسوله، ويُحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه‏".

وحبّ عليّ لله كان حاضراً في معركة الخندق، عندما راح المسلمون ينادون عليّاً أن يقتل عمرو بن ودّ العامري قبل أن ينقضّ عليه، فيما تنحّى الإمام جانباً قبل قتله، ولما سئل: لِمَ فعلت ذلك؟ قال(ع): "عندما جلست على صدره، تفل في وجهي، فخفت إن قتلته على مثل هذه الحال، أن أقتله ثأراً لنفسي، فتنحّيت حتّى برد غضبي، ليكون قتلي له حبّاً لله خالصاً".

السّبيل لعبادة الأحرار

أيّها الأحبّة: كم نحن بحاجة إلى أن نسمو بعلاقتنا بالله كما سما أمير المؤمنين بها. ولكن قد يقول قائل: أين نحن من أمير المؤمنين؟ وهل من سبيل لعبادة الأحرار هذه؟

نعم، الأمر متوفّر، ولكنّه يحتاج إلى بذل مجهود متواصل وكبير، وأوّل المجهود هو أن نستحضر هذا الحبّ في قلوبنا، ننضجه في نفوسنا، حتّى لا يُطمس وتطغى عليه مشاعر أخرى، علينا دائماً أن نتفقّده بالرّعاية، ونتحسّسه، ونحاسب أنفسنا حوله.

وبعد ذلك نعلن هذا الحبّ، ونعبّر لله عنه، نعبّر له بطريقتين:

بالعبادة والذّكر والدّعاء ولقاءنا به عبر الصّلاة؛ أن نأتي إلى الصّلاة للقاء من نحبّ، وأن نعطي هذا اللّقاء وقته، وأن نتحضّر له ونستعدّ، لا أن يكون همنا إسقاط الفريضة، حتّى وإن كان هذا أمراً مقبولاً، والله من حبّه لنا يقبله، ولكن يجب أن لا نرضى بهذا إن كنّا نريد عبادة الأحرار.

أمير المؤمنين الّذي نتولاه، كانت أوقات لقياه بالله في صلاته من أروع اللّحظات، فهو من ذكرت سيرته أنّه حرص على وقت الصّلاة وصلاة اللّيل حتّى في أشدّ اللّيالي حراجةً؛ ليلة الهرير في معركة صفّين. فحين افتقده أصحابه رأوه يصلّي، وعندما قيل له: أهذا وقت صلاة؟ قال: "وعلام نقاتلهم؟"، وولده الحسين أيضاً صلّى هو وأصحابه وأهل بيته في أشدّ الأوقات حراجةً، يوم عاشوراء.

هكذا علّمونا، أنّ اللّقاء مع الله لا يؤجّل مهما كانت الظّروف، بل على العكس، كلّما اشتدّت الظّروف، يلوذ الإنسان بمن يحبّ أكثر… ولكنّنا، للأسف، نلاحظ أنّ أول شي يُضحَّى به هو الصّلاة، وأحياناً لأمور غير مهمّة أبداً… فليكن لقاؤنا مع الله هو محور تحرّكنا في حياتنا…

والطّريق الثّاني لنعبّر عن حبّنا لله، هو أن نجيّر هذا الحبّ. كيف؟ أن نحب في الله، أن نعطي في سبيل الله، أن أعفو عن خطأ فلان معي حبّاً لله… وهكذا يكون حبّ الله هو الخزّان والوقود الّذي يؤمّن لي الدافعيّة لنشر الحبّ لمن حولي، وبذلك تسمو الحياة كلّها وتصبح أكثر إشراقاً لي ولمن حولي.

كم نحن بحاجة إلى أن يتجلّى حبّ الله فينا وبيننا، نحتاج إلى من يقول إنّ حبّ الله يجمعنا، أن يقول كلّنا خلق الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.

وليد الكعبة المشرَّفة

أيّها الأحبّة: لقد مرّت علينا في الثّالث عشر من شهر رجب الحرام، ذكرى الولادة العطرة لمن أحبّ الله كلّ هذا الحبّ، لمن شاء الله سبحانه أن تكون ولادته في أقدس بقعة في الأرض، في المسجد الحرام، مهوى أفئدة المؤمنين، ومحطّ رحال الطّائفين والعاكفين والقائمين الركّع السّجود.

فعليّ بن أبي طالب وحده هو من سيحمل اللّقب، وأيّ لقب هو؛ وليد الكعبة المشرّفة.

وإليه يشير الشّاعر:

أنت العليّ الّذي فوق العُلا رُفِعا ببطن مكّة وسط البيت إذ وُضعا

لقد حمّل هذا التّكريم عليّاً المسؤوليّة تجاه من كرّمه، لذلك انطلق في الحياة يبادل الله حبّاً بحبّ، لم يسجد لغيره، ولذلك يقال عنه: كرّم الله وجهه، لأنّ الله كرّمه عن السّجود للأصنام. وكان(ع) أعبد النّاس بعد رسول الله(ص) وأكثرهم صلاةً وصوماً وذكراً ودعاءً واستغفاراً، وأكثرهم علماً وجهاداً وتضحية وبذلاً وعطاءً وعدلاً وحبّاً في الله وفي سبيل الله.

إنّ حبّ عليّ لله وصل إلى درجة أن يكون خوفه يوم القيامة ليس في أن يسكن النّار أو يُحرم الجنّة، بل في كيف يفارق الله، ففي دعاء كميل، يقف عليّ بين يدي الله ليقول: "فهبني يا إلهي وَسَيِّدِي ومَوْلايَ ورَبّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أمْ كَيْفَ أسْكُنُ فِي النّارِ ورَجائي عَفْوُكَ؟! فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدي ومَوْلايَ، اُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَني ناطِقاً، لأضِجَّنَّ إلَيْكَ بَيْنَ أهْلِها ضَجيجَ الآمِلينَ، ولأصْرُخَنَّ إلَيْكَ صُراخَ الْمَسْتَصْرِخينَ، ولأبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ، ولأنادِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ، يا غايَةَ آمالِ الْعارِفينَ، يا غِياثَ الْمُسْتَغيثينَ، يا حَبيبَ قُلُوبِ الصّادِقينَ، ويا إِلهَ الْعالَمينَ".

والسّلام على أمير المؤمنين يوم ولد ويوم انتقل إلى رحاب ربّه ويوم يبعث حيّاً.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، "فتقوى الله ـ كما قال الإمام عليّ(ع) ـ مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة، بها ينجح الطّالب، وينجو الهارب، وتنال الرّغائب".

ومن التّقوى الاقتداء بموقف سودة بنت عمارة الهمدانيّة، الّتي وقفت بكلّ جرأة وعنفوان  أمام معاوية قائلة له: "إنَّ الله سائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقّنا، وما زال يقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك، ويبطش بقوّة سلطانك؛ هذا بسر بن أرطأة، قدم علينا، فقتل رجالنا ونهب أموالنا، فإن عزلته عنّا شكرناك، وإلا كفَّرناك. فغضب معاوية وقال: إيّاي تهدّدين يا سودة بقومك، من أنت حتى تفعلي ذلك؟ فأطرقت سودة باكية، ثم أنشدت تقول:

صلّى الإله على جسم تضمّنه   * *  قبر فأصبح فيه الحقّ مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلاً * * فصار به الحقّ والإيمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع). والله يا معاوية، لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يصلّي، فلمّا رآني، انفتل من صلاته، ثم أقبل عليّ برحمة ورفق ورأفة وتعطّف، وقال لي: ألك حاجة؟! قلت نعم، وأخبرته الخبر، فبكى، ثم توجّه إلى ربّه قائلاً: اللّهمّ أنت الشّاهد عليّ وعليهم، وإنّي لم آمرهم بظلم خلقك.

ثم قام عليّ(ع) وأخرج قطعة جلد، فكتب فيها: "بسم الله الرّحمن الرّحيم، قد جاءتكم بيّنة من ربّكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. فإذا قرأت كتابي هذا، فاحتفظ بما في يديك من عملنا، حتّى يقدم عليك من يقبضه منك، والسّلام". ثم دفع الرّقعة إليّ، فجئت بها إلى صاحبها، فانصرف عنّا معزولاً.

هذا هو عليّ(ع) في عدله، كان لا ينام وهناك إنسان يُظلَم ويُعاني ويُضطَهد، وهو الّذي كان يقول: القويّ العزيز عندي ضعيف حتّى آخذ منه الحقّ، والضّعيف الذّليل عندي قويّ عزيز حتّى آخذ له الحقّ.. "وأيم الله، لأنصفنَّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظّالم بخزامته، حتى أورده منهل الحقّ، وإن كان كارهاً".

أيّها الأحبّة، إنَّ الإخلاص لعليّ يتحقّق عندما نرفع صوت الحقّ والعدل في وجه كلّ الّذين يستبيحون كرامات النّاس وأمنهم وحياتهم ومقدّراتهم، فلا يُظلم ولا نقبل أن يُظلم إنسان بيننا، وبذلك نواجه مسؤوليّاتنا، وخصوصاً في مواجهة الكيان الصهيونيّ الّذي يواصل زيادة منسوب القوَّة لديه، وتعزيز قدراته العسكريّة، وهو يستعدّ لمغامرات قد يقدم عليها عندما يرى الفرصة سانحة له.

في هذا الوقت، لا تزال الفتن تعصف بهذا العالم العربيّ والإسلاميّ، لتأكل أخضره ويابسه، ولا سيَّما في البلدان الّتي يخشى العدوّ الصّهيونيّ أن تشكّل توازناً استراتيجيّاً معه، وتقف في وجه طموحاته التوسعيَّة في فلسطين والمنطقة.

العراق: تفجيرات الفتنة

ففي العراق، لا تزال التّفجيرات الوحشيَّة المتنقّلة تعبث بأكثر من منطقة عراقيَّة، لتصيب مسجداً هنا أو حسينيّة هناك، ليستكمل من خلالها مشهد الفتنة المذهبيّة الّتي يراد للعراقيّين أن يكونوا وقودها، ليبقى العراق في دائرة الاهتزاز الأمنيّ لحسابات إقليميّة ودوليّة.

إنّنا في الوقت الّذي ندين هذه الأعمال الإجراميَّة من أيّة جهة كانت، نحيّي كلّ الأصوات الّتي انطلقت أخيراً لمواجهة دعوات الفتنة، والعبث بالوحدة الوطنيّة، والّتي أعلنت عن إقامة صلاة جمعة واحدة في بغداد أو غيرها، كما ندعو القيادات العراقيّة مجدّداً إلى الإسراع في معالجة كلّ الثّغرات الأمنيَّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتلبية المطالب المحقّة للعراقيّين، بحيث يشعر الجميع، سنّة وشيعة ومسيحيّين، وصابئة وعرباً وأكراداً في العراق، أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.

سوريا: استنزاف القّوة

ونصل إلى سوريا، حيث لا يزال هذا البلد على حاله في الاستنزاف الداخليّ لكلّ قواه وقدراته، ممن لا يريدون له أن يكون قويّاً، ليقف حجر عثرة أمام المشاريع الاستكباريَّة. ونحن في الوقت الَّذي نأمل أن تنطلق مسيرة الحوار في سوريا، ندعو الجميع إلى أن يكونوا واعين لسياسات الدّول الكبرى الّتي لن تأتي بالحلول لحساب أحلام الشّعوب وتوقها إلى العزّة والحريّة والعيش الكريم، بل لحساب مصالحها، ولا سيّما أمن الكيان الصّهيونيّ وإبقاءه الأقوى في المنطقة.

ومن هنا، فإنّنا نعيد التأكيد على كلّ مكوّنات هذا الشعب، بضرورة الإسراع في التّلاقي والحوار، لجعل الحلّ سورياً، فلا يترك بيد الآخرين الّذين لن يستعجلوا الحلول إلا بعدما يطمئنّوا إلى أنّ الجميع أثخنوا بالجراح، وهم على استعداد ليسلّموا لشروطهم.

لبنان: أين حساب الوطن؟!

ونصل إلى لبنان، حيث لا يزال هذا البلد يعاني من عدم رغبة الكثيرين من أصحاب القرار في إيجاد الحلول لكلّ القضايا المطروحة، فلا القانون الانتخابيّ العصريّ والجامع أنجز، ولا شُكّلت الحكومة العتيدة الّتي تساهم في معالجة المشاكل المستعصية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتربويّة، فضلاً عن الأمنيّة، ليبقى هذا البلد في دائرة الفراغ الّذي قد يلتقي مع فراغ آخر في مواقع أخرى، حيث الكلّ مشغول بما يجري حوله وينتظر انجلاء الصّورة ليبني على الأمر مقتضاه. 

وهنا نعيد القول لكلّ السياسيّين: كفى هذا البلد انتظاراً، لقد انتظرنا طويلاً التطوّرات هنا أو هناك، ولم نجنِ إلا الويلات والدّمار، فلنجرّب ولو لمرّة واحدة أن نأخذ قرارنا بيدنا ببناء وطن على أساس الشراكة الحقيقيّة والتّعاون، وعلى الجميع أن يقدّروا خطورة المرحلة، والتّداعيات الحاضرة والمستقبليّة، ولا سيَّما بعد انغماس اللّبنانيّين في الملفّ السوريّ، والّذي باتت تردّداته واضحة في الدّاخل اللّبنانيّ، وفي المعارك العبثيّة المستمرّة في جبل محسن وباب التبّانة الّتي سقط فيها عشرات الضّحايا، وفي أكثر من منطقة، حتّى وصلت شظاياها إلى الجيش اللّبنانيّ، صمّام الأمن الأساسيّ في هذا البلد.

إنّنا أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى الإسراع في الخروج من حساباتهم الخاصّة ورهاناتهم الذاتيّة إلى حسابات الوطن، والابتعاد عمّا يساهم في إشعال الفتنة. فحذار حذار من الفتنة الّتي بدأت تطلّ برأسها بعدما توافرت الكثير من عناصرها. وإنّنا في أيّام التحرير المجيدة، ندعو اللّبنانيّين جميعاً إلى العودة بذاكرتهم إلى السّنوات الخوالي، حين استطاعوا من خلال وحدتهم أن يهزموا أعتى قوّة في المنطقة، وأن يدفعوها لتجرّ أذيال الخيبة والخسران وتخرج ذليلة، ولأوّل مرّة من بلد عربيّ، من دون أن تحصل على أيّ مكسب سياسيّ وأمنيّ، حتّى إنها وصلت إلى حدِّ طالبت فيه بتنفيذ القرار 425، وهي الّتي كانت قد ضربت به عرض الحائط، كما كلّ القرارات الدوليّة.

لقد استطاع هذا البلد من خلال مقاومته ووحدة أبنائه وتعاونهم، أن يقدّم نموذجاً في القوّة عندما أسقط عنفوان هذا العدوّ، على الرّغم من الإمكانات المتواضعة، فلا تشوّهوا هذه الصّورة من خلال الخطاب السياسيّ المتشنّج والمتنافر والمتقاتل. وهنا، ندعو الجميع إلى أن يتجاوزوا كلّ الحساسيّات الموجودة، وإخراج المقاومة من دائرة التّراشق، فهي وديعة الوطن ووديعة الشّهداء إلى حين دحْر العدوّ وبناء الجيش الوطنيّ، فلا تُستدرج هذه المقاومة إلى معارك الدّاخل، ولا يصوَّب عليها، حيث يكفيها تصويب العدوّ الصّهيونيّ وما يخطّط لها في الخارج.

وإنّنا في هذه المناسبة، ندعو المقاومة المتلاحمة مع الجيش وكلّ الوطن، إلى إبقاء جهوزيّتها في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ، الّذي لن يقبل بهزيمته، وهو يتحدّث، بمناسبة وبدون مناسبة، عن الاستعداد للثّأر لهزيمته العام 2000، وفشله العام 2006.

إنّنا في يوم التّحرير، نعيد التّهنئة لكلّ المقاومين، مستذكرين جهادهم والشّهداء، وصمود أهلنا من جبل عامل والبقاع الغربيّ وكلّ الوطن، ونقول لهم: قدرنا أن تبقى يدنا على الزّناد في مواجهة هذا العدوّ، فلنواصل الطّريق، لكي يبقى لبنان قويّاً وأنموذجاً لكلّ الأحرار في العالم.

 

 

التاريخ: 14 رجب 1434 هـ  الموافق: 24/05/2013 م

 

 

Leave A Reply