بسم الله الرحمن الرحيم
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
الخطبة الأولى
تذكر السّيرة، أنّ رسول الله لما انتهى من خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان، سأله أمير المؤمنين(ع) عن أيّ الأعمال أفضل في هذا الشّهر؟ فقال(ص): "أفضل الأعمال في هذا الشّهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ". وتضيف السّيرة أنّ رسول الله بكى، فقال له أمير المؤمنين(ع): "فداك أبي وأمّي ونفسي يا رسول الله، ما يُبكيك؟"، فقال له رسول الله: "أبكي لما يُستحلّ منك في هذا الشّهر، كأنّي بك وأنت تصلّي لربِّك، وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربةً على قرنك، فخضَّب منها لحيتك"، عندها ردّ أمير المؤمنين(ع)، فقال: "يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟"، فقال( ص): "نعم، في سلامة من دينك"، فيقول أمير المؤمنين(ع): "إذاً لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ".
لذلك، ما إن أهوى ابن ملجم بالسّيف على رأسه الشّريف، فجر يوم التّاسع عشر من شهر رمضان، وهو في محرابه يصلّي، حتّى انطلق من كيانه النّداء صادقاً: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة، فزت وربّ الكعبة".
إمام العدل
أيّها الأحبّة: عاش عليّ(ع)، وكان كلّ همّه أن يحقّق العدالة للنّاس، ولو على حساب نفسه وأقرب النّاس إليه. وذكرت لكم مرّةً، كيف طبّقها على أخيه عقيل، الّذي كان يرى نفسه أنّه أخ الحاكم والخليفة، وأنّه سيغتني، لذلك جاء طالباً من الإمام(ع) أن يزيد له مخصّصاته من بيت المال، لكنّ الإمام(ع) رفض أن يميّزه، لأنّ أيّ تمييز هو بمثابة سرقة المسلمين جميعاً، فالمال مالهم..
كان انحياز الإمام إلى العدل شديداً، قال يوماً لأحد ولاته: "وإنّي اقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خنْتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدّنّ عليك شدّةً تدعك قليل الوفر، ثقيل الظّهر، ضئيل الأمر، والسّلام".
كان عليّ(ع) يعرف جيّداً من أين تؤكل الكتف، ولو شاء الاهتداء إلى مصفى العسل ولباب القمح ونساج القزّ لفعل، لكنّه ترك ذلك عفّةً وزهداً وتمسّكاً بالعدالة، لذلك أشعل المتضرّرون من سياسته هذه نيران الحروب، وكانت الخاتمة هذه الفاجعة الّتي أظهرت مدى الانحدار الّذي أصاب الأمّة؛ إنّه انحدار فظيع، وإلا ما معنى أن تستحلّ شيبة أوّل النّاس إسلاماً، وفارس حروب المسلمين ومقدامها، من بدر وأحد والأحزاب، وباب مدينة علم رسول الله وأخيه ووزيره ووصيّه والمبلّغ عنه وخليفته من بعده؟!…
إجحاف بحقّ عليّ(ع)
أيّها الأحبّة: يقيّم البعض مرحلة حكم الإمام بأنّها مرحلة حروب داخليّة، فيما مرحلة الّذين سبقوه مرحلة فتوحات إسلاميّة وتوسّع واستقرار. وفي هذا الكلام إجحاف بحقّ عليّ، فالّذي نعم به المسلمون أيّام المراحل السّابقة من استقرار، ولا سيّما في فترة الخلافتين الأولى والثانية، كان الدور الأساس فيها لعليّ(ع)، فهو منذ البداية ساهم في ذلك، عندما أغمد سيفه، بالرّغم من أخذ حقّ الولاية منه وما جرى للسيّدة الزّهراء(ع)، ثم دعمه للخلفاء، وإبداء الرّأي والنّصح والمشورة في معاركهم مع الخارج، ويُشهد له كيف كان يحفظ الخلفاء ويحفظ لهم مواقعهم.
أمّا القول إنّ القلاقل ظهرت في عهد خلافته، فالسّبب أنّ أسلوب عليّ(ع) في الحكم، فضح ما كان قد بدأ يتعشّش في مجتمع المسلمين من طموحات وفساد وتوق إلى السّلطة وغير ذلك، فالأمور لم تكن وليدة لحظة استلام الإمام للحكم، إنّما كان هناك الكثير من التّراكمات الّتي اضطرّ الإمام(ع) أن يرثها ممن قبله، ويواجهها بنفسه.
لقد كان أمير المؤمنين(ع) حريصاً على أن يتفادى أيَّ فتنة أو نزف دم منذ وفاة رسول الله، لا لأنَّه لم يكن قادراً، أبداً، فهو من كان يزلزل الأرض تحت أقدام المشركين، بل لأنّه كان على قناعة بضرورة الحفاظ على وحدة المسلمين، وهو القائل حينها: "إنّ الله لما قبض نبيّه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس، فرأيت أنَّ الصّبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم".
وهو ما فعله أيضاً بعد أن تمت البيعة لغيره. وعندما قُتل عثمان، بويع بالخلافة وهو كاره لها، لم ينظر إليها كموقع، كامتياز، بل نظر إليها كمسؤولية ورسالة، مسؤوليّة أن يقيم حقّاً ويردّ باطلاً، وإلا فالمنصب عنده لا يساوي بالنّسبة إليه شسع نعل، كما عبّر بنفسه.
الإمام عليّ ـ أيّها الأحبّة ـ كان دقيقاً في موضوع الحرب بين المسلمين، لم يكن من السّهل عليه أن تسيل دماء من جسد الأمّة آنذاك، ولكن كان القتال بالنّسبة إليه كالكيّ الّذي هو آخر الدّواء، بعد أن استنفد جميع وسائل الحوار مع كلّ الّذين أعلنوا الحرب على خلافته. ومن يطّلع على خطابات الحوار بينه وبينهم، لا يجد فيها أيّ عنف أو تهديد أو قسوة، إنما حديث العقل الهادئ الّذي يريد أن يقنع الخصم ويلمّ الشّمل.
أطراف أربكوا حكم عليّ(ع)
أيّها الأحبّة، الّذين وقفوا في مواجهة أمير المؤمنين، كانوا في ثلاث اتّجاهات، وما كان يجمعهم، أنّهم كلّهم يريدون أن يحدثوا خللاً في نظام الأمّة، يريدون أن يربكوا الواقع لتفلت الأمور.
الاتّجاه الأوّل تمثّل بمن أسماهم الإمام النّاكثين، والّذين قاموا بما يشبه الانقلاب، وتمثّل ذلك بمشروع طلحة والزّبير الطّامحين للسّلطة وأخذ الخلافة، أو مشاركة عليّ بها، وهو ما جعلهما يخوضان مع عائشة وأهل البصرة معركة الجمل الّتي فرضت على الإمام، وما لبث أن انتصر فيها.
لن ندخل في تفاصيل هذه المعركة، ولكن أشير إلى أنّ هذه الحرب اتّسمت بالتّعقيد، ذلك أنّ طلحة والزّبير كانا من الصّحابة، ومن أقارب الإمام(ع)، ومن الّذين وقفوا معه في البداية.. وسُئل الإمام بهذا: أيعقل أنّهم على غير الحقّ؟ فقال يومها كلمته الّتي شكّلت خطّاً فكريّاً وسياسيّاً: "يعرف الرّجال بالحقّ، ولا يعرف الحقّ بالرّجال. اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله".
أمّا الاتجاه الثّاني، فكان خطر الانفصال، وعنوانه القاسطون، أي الّذين ابتعدوا عن منطق الحقّ والعدل واتّبعوا الباطل.
وعلى رأس هذا الخطّ معاوية، الّذي كان يطمح إلى الاستئثار بالشّام، وفي سبيل ذلك أثار الكثير من المشاكل، مستغلاً دم عثمان، لأنّ عثمان من بني أميّة، وكان يطالب الإمام عليّ تسليمه القتلة، علماً أنّ قتلة عثمان أنفسهم أخذوا مواقع فيما بعد لدى معاوية نفسه، وأمّا دم عثمان فما كان إلا حجّة.
ومع معاوية كانت معركة صفّين، وقد حاول الإمام(ع) الحوار معه، ولكنّ معاوية أصمّ أذنيه. وما حدث بعد ذلك معروف، إذ ظهرت تلك الشّرذمة الّتي حملت اسم الخوارج، خرجت على عليّ واتّهمته بالكفر.
أمّا الخوارج فمثّلوا الاتجاه الثّالث، وهم المارقون، أي الّذين خرجوا عن الدين، وقد أربك هؤلاء فترة حكم الإمام، وراحوا يزايدون عليه بالإسلام، وبأنّهم الأمناء على حكم الله، وهو ـ أي الإمام ـ الخارج عنه.. رفعوا شعارات ظاهرها حقّ، ولكن لا تفضي إلا إلى الباطل، كما وصّفها الإمام(ع): "كلمة حقّ يراد بها باطل".
الخوارج حوّلوا بوصلتهم نحو الإمام وقاتلوه، بدلاً من أن تكون تجاه الّذين نكثوا ومرقوا، وتجاه من يتربّص بالإسلام ويتهدّده. وقد حاورهم الإمام كثيراً، ولكنّ تعصبهم منعهم من أن يصغوا إليه. ولم يحاسبهم(ع) على رأيهم، بل حاسبهم على تحويل هذا الرّأي إلى مقدّس، بعد أن راحوا يكفّرون كلّ من يخالفه، ولم يقاتلهم إلا بعد أن تحوّلوا إلى عنصر فساد وإفساد، وتمادوا في فرض رأيهم على النّاس بالقوّة، وقتل كلّ من خالفهم الرأي، وهو ما فعلوه مع الصحابي خباب وزوجته والتّمثيل بجثتّيهما…
ويعتبر الخوارج أوّل من سنّ في السّاحة الإسلاميّة المنطق التّكفيريّ، ولكنّ الإمام بروعته وعلوّ قامته، لم يبادلهم تكفيرهم بتكفير، بل ظلّ يعطيهم من بيت مال المسلمين، وقال فيهم كلاماً منصفاً، وقد أعطى المعركة حدودها بتحقيق النّظام ومنع الفوضى، في الوقت الّذي أبقى موضوع التّكفير في دائرة الحوار، وقال لأهله: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه".
وصايا ودروس
أيّها الأحبّة: لقد كانت الأيّام الثّلاثة الّتي تلت جرح الإمام عليّ(ع) أيّام الوصايا والدّروس، ومنها ما وصّى به بني عبد المطّلب: "يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ بي إلا قاتلي".
حتّى في لحظات احتضاره، كان حرص أمير المؤمنين شديداً على دماء الأمّة، أن لا تنزف إلا في موقعها الصّحيح.
السّلام عليك يا أمير المؤمنين، السّلام عليك يا سيّد الوصيّين، السّلام عليك يا إمام المتّقين، أشهد يا مولاي أنّك أقمت الصّلاة، وآتيت الزّكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً حتّى أتاك اليقين، فجزاك الله عنّا وعن أمّتك خيراً كثيراً.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التَّقوى، لا بدَّ لنا من أن نعيش ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع)، وأن نستوصي بوصاياه، حيث توجَّه بوصيَّته الأولى إلى ولده الإمام الحسن(ع)، بعدما قُبِض على قاتله ابن ملجم، فقال: "ارفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه، وأحسن إليه، قال: يا أبتاه، قتلك وأنت تأمرني بالرّفق به؟ قال: نعم يا بنيّ، إنَّا أهل بيتٍ لا نزداد على الذّنب إلا كرماً وعفواً. بحقّي عليك، فأطعمه مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يداً". ثم توجَّه إلى ولديه، ومن خلالهما إلينا قائلاً: "أُوصِيكُمَا، وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي، بِتَقْوَى اللهِ، وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ، وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا(ص) يَقُولُ: "صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ".
"اللهَ اللهَ فِي الأيْتَامِ، فَـلاَ تُغِبُّواأَفْوَاهَهُمْ، وَلاَ يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ; مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ.
وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا.
وَاللهَ اللهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ… لاَ تَتْرُكُوا الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ. ثمّ قال:
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.
انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُبِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ(ص) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ"…
العراق: صراع المحاور
أيّها الأحبّة، بهذه الوصيَّة نستطيع أن نعالج الكثير مما نعاني منه في واقعنا الَّذي يضجّ بالفتن، حيث لا تزال البلاد العربيَّة على حالها، تعاني المزيد من العنف وعمليّات التّشظّي السّياسي والأمني، وهذا ما بتنا نجده واضحاً في العراق، حيث يزداد، وبشراسة، مسلسل التَّفجيرات الوحشيّة الَّتي تطاول المدنيّين في شوارعهم ونواديهم ومساجدهم، ولا تفرّق بين منطقةٍ وأخرى، ولا حتّى بين مذهبٍ وآخر، أو بين دين وآخر، والّتي يسعى العابثون بأمن هذا البلد إلى إعطائها بعداً مذهبيّاً وطائفيّاً لتأجيج الصّراع فيه.
ولكنَّ كلّ من يعي حقيقة ما يجري في السّاحة العراقيَّة، يعرف أنَّ ما يحدث ليس إلا جزءاً من صراع المحاور الإقليميَّة، الَّتي لا تريد لهذا البلد الاستقرار ولعب دور فاعل في المنطقة، ما يدعو كلّ مكوّنات الشعب العراقيّ إلى وعي ما يخطّط لبلدهم، والعمل على تدعيم الجبهة الداخليّة، وتقويتها، وتحصينها بالتّلاقي والحوار الجادّ والمسؤول، لمنع اللاعبين بمستقبل العراق والمصطادين بالماء العكِر من أن يجدوا أرضاً خصبة لهم فيه.
سوريا: أزمة الاستنزاف
وليس بعيداً من العراق ما يجري في سوريا، حيث تتصاعد حدّة الأزمة بمستوياتها الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والإنسانيّة، كما في مسألة النّازحين، في ظلِّ عدم إسراع الدّول الكبرى لتحقيق ما وعدت به من "جنيف 2"، ما بات يؤكّد أنَّ الخطّة المرسومة دوليّاً للأزمة السوريَّة، تستهدف إطالة أمدها إلى أكثر وقتٍ ممكن، لاستنزاف كلّ الأطراف المتواجدة على الأرض، وكلّ القوى الإقليميّة الَّتي تدعم هذا الفريق أو ذاك.
وإذا كان هناك من حلٍّ مستقبليٍّ، فهو عندما تنضج طبخة التّسوية الّتي تُعدّ للمنطقة، والّتي لن تكون إلا لحساب مصالح القوى الكبرى، ولن تكون مصلحة سوريا ولا العالم العربيّ على رأس أولويّاتها.
إنَّنا لا نملك أمام هذا المشهد النّازف والدامي في سوريا، إلا أن نعيد الدّعوة لكلّ الّذين لا يزالون يراهنون على الحلّ العسكري، إلى الخروج من رهاناتهم، واستبدال سلاح القتل والعنف، بسلاح الحوار والتّواصل، لتحقيق أماني الجميع، حيث لا خيار لحلّ الأزمة في هذا البلد إلا الحوار والتّلاقي.
مصر مهدَّدة بالفتنة
أمَّا مصر، فنخشى أن تكون قد دخلت في أتون فتنة لا تبقي ولا تذر، ولا سيَّما بعدما صار الميدان هو ساحة الصّراع فيها، وأصبحت لغة التّهديد والعنف هي السّائدة.
ومن هنا، فإنّنا نعيد التأكيد على كلّ مكوّنات الشَّعب المصري، الَّذي لم نعهده إلا محبّاً للسّلام والوئام والوحدة، الإسراع في الخروج من هذا النّفق الَّذي يراد لهذا البلد العربيّ والإسلاميّ الأساسيّ أن يقع فيه، من خلال حوار جادّ يراعي هواجس كلّ الأفرقاء فيه ومطالبهم، بعيداً من سياسة الاستئثار والإلغاء الّتي لم تؤدّ إلى الاستقرار السياسيّ سابقاً، وهي بالطبع لن تؤدّي إليه لاحقاً.
إنَّ المرحلة في مصر لا تحتاج إلى أصحاب الرّؤوس الحامية، ولا إلى عقولٍ متوتّرة، بقدر ما تحتاج إلى إطفائيّين، يمنعون دخول هذا البلد في مهبّ الصّراعات الإقليميّة والدوليّة…
وفي هذا الوقت، وعلى نار الفتن الّتي يراد لها أن تُغرق كلّ المنطقة، يأتي الحديث عن مفاوضات لن يكون الهدف منها سوى تلميع صورة الكيان الصّهيونيّ، وإعطائه المزيد من الوقت لتحقيق أهدافه في الإطباق على فلسطين، كلّ فلسطين، ولهذا نجده يتحدَّث عن مفاوضات، فيما يتابع خططه الاستيطانيَّة. ولذلك، نعيد التّأكيد على الفلسطينيّين، عدم خوض تجربة تفاوضيّة جديدة لن تكون في صالحهم، بل العمل على تقوية السّاحة الفلسطينيّة وتوحيدها، والانطلاق بها لمواجهة مشاريع العدوّ الصهيوني ومخطّطاته.
لبنان يشرَّع أمام العدوّ
أمَّا لبنان، فلا يزال يعاني انقساماً سياسيّاً حادّاً، والَّذي نخشى أن تزيد في حدّته قرارات الاتحاد الأوروبّي غير المنطقيّة وغير المبرّرة، في إدراج الجناح العسكريّ لحزب الله على لائحة الإرهاب، نظراً إلى تأثيراته في السّاحة اللّبنانيّة الدّاخليّة، فضلاً عن جعله هذا البلد مشرَّعاً أمام العدوّ الصّهيونيّ، الَّذي سيجد فرصةً لشنِّ الحرب على لبنان، تحت ذريعة مواجهته الإرهاب.
ومن هنا، ندعو الاتحاد الأوروبّي إلى إعادة النظر بهذا القرار وانعكاسه على الواقع اللّبنانيّ، وعلى العلاقة المميّزة الّتي لطالما جمعت أوروبّا بهذا البلد وبالعالم العربي، بحكم التّاريخ والقرب الجغرافي، والّتي تميّزت عن الدّور الأمريكيّ في مساندته المطلقة للكيان الصّهيونيّ.
إنّنا نريد لأوروبّا أن لا تبدو في هذه المرحلة وكأنها خضعت للكيان الصّهيونيّ، الّذي سارع إلى اعتبار ما حصل نصراً لدبلوماسيّته، على حدّ زعم مسؤوليه، ونحن ندعو اللّبنانيّين إلى وعي مخاطر توظيف هذا القرار لخدمة المصالح الخاصّة والحسابات الداخليّة لهذا الطّرف أو ذاك، ما قد يؤدِّي إلى زيادة الشَّرخ والانقسام، في الوقت الَّذي تحتاج هذه السَّاحة إلى رأب الصَّدع وتمتين الوحدة الوطنيَّة.
ونريد أن يكون هذا القرار حافزاً لتلاقي اللّبنانيّين، لدراسة كلّ السّبُل الّتي تقي هذا البلد من أن يصبح مشرَّعاً أكثر على الصّراعات الدوليَّة والإقليميَّة، والّتي تحميه من العدوّ الصّهيونيّ الذي لا يزال يرسل تهديداته اليوميَّة، ويواصل خروقاته الجويّة والبريّة والبحريّة، والّذي لا يكلّ عن الاستعداد لحربٍ مع هذا البلد، وقد يستفيد من هذا المناخ للقيام بمغامرةٍ ربما يرى أنَّه سيكون الرَّابح فيها، تعويضاً عن هزيمته الّتي نعيش الآن ذكراها.
ومن هنا، ندعو إلى الإسراع في حوار داخليّ يفتح الطريق أمام استراتيجيّة دفاعيّة تحمي البلد من مخاطر العدوّ الصّهيونيّ، والوصول إلى آليّات تؤمّن تشكيل حكومة جديدة، تجمع في داخلها كلّ المكوّنات الوطنيّة، وتمنع العابثين الّذين يخطّطون لضرب الاستقرار الدّاخليّ.
وأخيراً، فإنّنا في الوقت الّذي نهنّئ كلّ طلابنا النّاجحين في الشّهادات المتوسّطة والثّانويّة ونبارك لهم، ننبّه إلى مخاطر الأسلوب المتخلّف في التّعامل مع الأفراح كما الأحزان، والّذي كنّا نعتقد أنّه انتهى إلى غير رجعة، نظراً إلى تداعيات هذا الأسلوب على أمن النّاس وراحتهم وأعصابهم، ولا سيّما في ظلّ الجوّ المتوتّر الّذي يعيشه البلد، فليس هذا هو الأسلوب الصّحيح في التّعبير عن الفرح، فالتّعبير عن الفرح لا يتمّ بنزع الفرح من قلوب الآخرين وإيذائهم، فليكن الفرح بمزيد من الشّكر لله والدّعاء له بمتابعة مسيرة النّجاح.
وهنا، لا بدَّ من أن نعيد التّذكير بالحكم الشَّرعيّ الَّذي لا يجيز إطلاق النّار في الهواء، ولا إطلاق المفرقعات الّتي تؤدّي إلى إيذاء النّاس والإساءة إلى ممتلكاتهم وأرواحهم.
التاريخ: 18رمضان 1434 هـ الموافق: 26/07/2013 م
|
|
|