غزوةُ بني قريظة: غدرُ اليهودِ.. ودروسٌ مستفادةٌ

العلامة السيد علي فضل الله خطبة العيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله تعالى في كتابه العزيز:} وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}[الأحزاب: 26 -27]. صدق الله العظيم.

أسبابُ الغزوةِ

نلتقي في الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام بذكرى غزوة بني قريظة، هذه الغزوة الّتي حصلت في العام الخامس للهجرة مباشرةً بعد انتصار المسلمين في معركة الأحزاب.

ويعود السبب في قيام رسول الله (ص) بهذه الغزوة، إلى نقض يهود بني قريظة الّذين كانوا يعيشون في قلب المدينة، عهدَهم مع رسول الله (ص)، وكان هذا العهدُ يهدف إلى تنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود المتواجدين فيها، وكان من بنوده أنّ لليهود في المدينة ما للمسلمين من حقوق المواطنين، وأنّ لهم كلّ الحريّة في التّعبير عن دينهم وما يؤمنون به، على أن لا يساندوا عليهم عدوّاً، وأن يكونوا سنداً لهم إن تعرَّضت المدينة لأيّ اعتداء. وبنو قريظة لم يكتفوا بخذلان المسلمين عندما تعرَّضت المدينة للاعتداء من قريش والأحزاب التي تحالفت معها في معركة الخندق، بل تآمروا معهم، وأبدوا استعداداً لفتح الطّريق لهم للدّخول إلى قلب المدينة، مستفيدين من موقعهم الاستراتيجي فيها.

وقد كان لهذه الخيانة تأثير كبير في معنويات المسلمين وقدرتهم على التفرّغ والتّخطيط لمواجهة عشرة آلاف فارس من قريش والأحزاب التي تحالفت معها.

فكان قرار رسول الله (ص) حاسماً في ضرورة اقتلاع حصونهم من داخل المدينة، فبقاؤهم فيها هو شوكة دائمة في خاصرة المسلمين.. ولذلك، ما إن انتهى رسول الله (ص) من معركة الخندق، حتى أمر بأن ينادَى في الناس بالسّير إلى حصون بني قريظة، فلبّى المسلمون نداء رسول الله (ص).. وكانت خطته ألَّا تهاجم حصون بني قريظة، والاكتفاء بمحاصرتهم حتى ينزلوا على حكمه (ص) وقراره فيهم، على الرّغم من أنّه كان قادراً على حسم المعركة عسكرياً بسهولة والدخول إلى حصونهم، ولكنه كان يرى في ذلك خطراً على النساء والأطفال من بني قريظة الذين لا ذنب لهم.

وبعد انقضاء خمسة وعشرين يوماً على الحصار، اقتنع بنو قريظة بأن لا خيار لهم إلّا بأن يخضعوا لحكم رسول الله (ص)، فبعثوا إليه قائلين: لقد نزلنا على حكمك وإنّنا خارجون، فنزل بنو قريظة من حصونهم، حيث جرى حبس المقاتلين – فقط – فيما نقل النّساء والأطفال إلى مكان آخر.

عندها جاء رجال من الأوس، وهم من الأنصار في المدينة، وكانوا حلفاء بني قريظة في الجاهليّة، يعرضون على رسول الله (ص) أن يعامل يهود بني قريظة بمثل ما عامل به يهود بني قينقاع حلفاء الخزرج (وهم من الأنصار أيضاً)، عندما سمح لهم بأن يخرجوا مع نسائهم وأطفالهم وما حملت الإبل إلى خارج المدينة سالمين.. لكنّ رسول الله (ص) ما كان يريد ذلك بعد الخيانة المرّة التي جرت منهم، فهم بتآمرهم كانوا يريدون اجتثاث الإسلام من المدينة.. لكنه لما رأى إصرارهم، قال لهم: يا معشر الأوس، أترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى يا رسول الله..

وتمّ التوافق على أن يكون زعيم الأوس سعد بن معاذ هو الحكم، وكان آنذاك جريحاً من معركة الخندق، فأرسل رسول الله في طلبه، فجاءه رغم جراحه. فحكم فيهم بعد تدبّر ودراسة بما كان يراه رسول الله (ص)، بأن يعاقَب من شارك في الخيانة وكان له دور فيها.

وانتهت الواقعة بإزالة حصون بني قريظة، وهو ما أدّى إلى استقرار الأمن داخل المدينة، وفي ذلك نزلت الآية: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً}.

دروسٌ مستفادةٌ

ونحن اليوم سنتوقّف عند بعض دروس هذه الغزوة، ومنها:

الدرس الأوّل: أظهرت نتائج هذه الغزوة أنّ السبب فيها هو خيانة اليهودِ العهدَ، فرسول الله (ص) ما كان ليقاتل اليهود لدينهم، بل لغدرهم، فقد كانوا يعيشون مع المسلمين بسلام وأمان، وهذا ما عبَّر عنه زعيمهم، عندما جاء إليه زعيم بني نضير حيي بن أخطب ليقنعه بنقض عهده مع رسول الله، وأن يتحالف مع قريش، قال له: ” يا حيي، فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلّا صدقاً ووفاءً”، وإن كان بعد ذلك تآمر معهم.

وفي ذلك الردّ على من يقول إنّ الإسلام لا يتعايش مع الأديان الأخرى، فالمسلمون تعايشوا مع اليهود في المدينة، ولولا ما حصل منهم، لبقي هذا التعايش، وهذا قوله سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8].

الدرس الثاني: ضرورة التثبّت من الأخبار، فقد ورد في الحديث عن هذه الغزوة، أنّ رسول الله (ص) لما نمي إليه أنّ بني قريظة نقضوا العهد، لم يستعجل الحكم، بل أرسل لذلك أربعة من أصحابه (ولم يكتف بواحد) ليتأكّدوا من مدى صحة هذا الخبر، ودعاهم أن يرجعوا بالخبر اليقين، بأن يسمعوا ذلك من زعماء بني قريظة. فلما سمعوا منهم مباشرةً أن لا عهد بينهم وبين رسول الله (ص)، جاؤوا إلى رسول الله (ص) بالخبر.

وهذا يدعونا إلى التأسّي برسول الله (ص)، بالتثبّت من أيّ خبر يردنا، بأن لا نتسرّع في أخذه والبناء عليه إلّا بعد الرجوع إلى مصادره، بحيث نتأكّد من صدقه، حتى لا نقع في شرك من يثيرون الأقاويل والأخبار الملفّقة أو من ليسوا دقيقين في النّقل…كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].

الدّرس الثّالث: هو درس التّوبة، حيث تذكر السيرة أنّ يهود بني قريظة طلبوا من رسول الله (ص) أن يستشيروا أبا لُبَابَة عندما عرض عليهم النّزول على حكمه، وكان أبو لُبَابَة حليفاً لهم قبل دخول الإسلام إلى المدينة. فوافق رسول الله (ص) على طلبهم، وأرسله إليهم، فسألوه ماذا يفعلون؛ هل ينزلون عَلَى حُكمِ محمّد كما طلب منهم؟ فنهاهم عن ذلك، وحذَّرهم من القبول بعرضه.

لكنّ أبا لبابة ما إن خرج من عندهم، حتى أدرك الخطأ الذي فعله، لذا انطلق بعدها هائماً على وجهه في المدينة، حتى أتى مسجد رسول الله (ص)، وهناك ربط نفسه بعمود إلى جانب منبر رسول الله (ص)، وآلى على نفسه مقسماً أن لا يذوق طعاماً أو شراباً حتى يتوب الله عليه.

وبقي على هذه الحال، تأتيه كلّ يوم زوجته لتفكّ رباطه حتى يصلّي ثم تعيده إليه، حتى نزلت الآية على رسول الله (ص): {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التّوبة: 102].. تبشّر بتوبة الله عليه.

وهذا ما ينبغي أن يعيه كلّ الذين يدخلون في عهود ومعاهدات مع من لا يؤمَن شرّهم، ونحن نرى النّماذج ماثلةً أمامنا على السّاحة العالميّة والإسلاميّة مع الدول التي أبرمت معاهدات سلام مع الكيان الصّهيوني.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة السيّد (رض) الّذي أوصى بها كلّ محبّيه، عندما قال: “كونوا المسؤولين في الحياة، فالله لم يخلق الحياة عبثاً ولهواً، ولا هي مناسبة لبلوغ اللذّات أو تحصيل الشّهوات، بل هو أرادنا أن نغنيها بالحقّ بإقامة العدل، ورفض الظّلم ومواجهة كلّ ألوان الفساد، وفي خدمة النّاس”.

وبذلك فقط تعودون إلى الله يوم يأتي النّداء {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون}[الصّافات: 24].. وليقدِّم كلٌّ حسابه. فلنستوصِ بوصية السيّد (رض)، وبذلك نكون أوفياء لرسالته، وأقدر على مواجهة التحدّيات.

مَنْ ينقذُ لبنانَ؟!

والبداية من لبنان، حيث تتفاقم معاناة اللّبنانيّين على الصّعيدين المعيشي والحياتي، وفي الحصول على أبسط مقوِّمات حياتهم من الوقود والدواء والاستشفاء والغذاء والكهرباء والماء والطّبابة، والّذي بات من الواضح أنّ كلّ ذلك يأتي بفعل السياسات الخاطئة في إدارة الشّأن الماليّ والنقديّ من قبل المصرف المركزيّ والمصارف، وجشع الشّركات والتجّار الكبار، وحتى الصّغار، ومن بيدهم تأمين أمر الكهرباء والماء واستمرار التّهريب للسّلع والموادّ الغذائيّة.

فيما الدولة غائبة، وقد أدارت ظهرها لمواطنيها، وإذا كان هناك من علاجات، فهي لا تزال تقتصر على بعدها الأمني لمنع أيّ تداعيات قد يؤدّي إليها تفاقم الوضع المعيشيّ، وهو لن يكون حلاً، بل قد يزيد الأمور تفاقماً إن لم تواكب بمعالجة أسبابها.

وهي تقتصر في ذلك على بعض المسكّنات والحلول المؤقّتة للشّأن الماليّ أو النقديّ، أو للأزمات التي يعانيها اللّبنانيّون، وغايتها في ذلك منع الانفجار، وهي دائماً من جيوب اللّبنانيّين ومقدّراتهم.

أمّا الحكومة، والتي ينتظرها اللّبنانيّون والعالم الخارجي الذي يريد مساعدة لبنان، فهي تبقى أسيرة الفساد والمصالح الخاصّة والرّغبة بالإقصاء، وعند الشّروط والشروط المضادّة، من دون أن يبدي أيّ من الأطراف استعداداً للتنّازل، وإن صوِّرت بأنها لمصلحة هذه الطائفة أو تلك، أو هذا الموقع أو ذاك، وهو ما أدّى إلى فرملة مبادرات الداخل، فيما يكتفي الخارج بالتحسّر على واقع اللّبنانيّين وإبداء النصح لهم، أو بالصلاة والدعاء، من دون أن يقوم بأيّ خطوة باتجاه الحلّ، وكأنه ينتظر نضوج ثمرة البلد لحساب واقع يريده.

إننا أمام كلّ هذا الانسداد في الأفق الذي بات اللّبنانيون يعيشونه، نجدّد تحذيرنا لكلّ الذين يديرون الواقع السياسيّ، ولا يقدّمون التنازلات الضروريّة، من خطورة أن تؤدّي حالة المراوحة التي نعيشها إلى جعل الساحة اللّبنانيّة مسرحاً للفوضى والانفلات الأمني والتوتّرات التي كان مظهرها الأخطر ما حصل في طرابلس.

المجرمون بحقِّ الوطنِ

لذلك نقول لكلّ من لا يزال يصرّ على تعقيد الحلول، وإبقاء البلد مشرَّعاً على الأزمات، إنّك مجرم بحقّ الوطن وإنسانه، ولا بدّ من أن تُعامَل معاملة المجرمين.

إنَّ من المؤسف أن يتمّ التعامل مع هذه المرحلة كأنها مرحلة انتخابات، ولهذا يستنفر كلّ طرف عداواته والغرائز المذهبية والطائفية وإثارة الهواجس، أو بالأعطيات وبالوعود بها، فيما المفروض أن تكون مرحلة إنقاذ لبلد يتداعى ويكاد ينهار.

إننا نقول لكلّ هؤلاء، إن اللعب على الغرائز الطائفية والمذهبية وإثارة الهواجس واستحضار العداوات لجلب الجمهور لم يعد يجدي نفعاً، وإذا كان هناك من لا يزال يفكّر بأنّه بالأعطيات والوعود المعسولة سيكسب رضى النّاس، فإننا نقول له: الناس لا تباع ولا تشترى، وخصوصاً عندما يكون ذلك من جيوبها كما يحصل.

في هذا الوقت، نجدّد دعوتنا للّبنانيّين إلى التكاتف والتعاضد، وأن يرحم بعضهم بعضاً، لا أن ينهب بعضنا بعضاً، ويستغلّ بعضنا بعضاً، كونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسّهر.. بأن يرحم التاجر المشتري، وربّ العمل العامل، وصاحب المدرسة طلّابه، وصاحب الخدمة من يحتاج الخدمة، حتى يمكننا تجاوز هذا الواقع بأقلّ قدر من الخسائر.

ذكرى رحيلِ السيّدِ (رض)

وأخيراً، نلتقي بعد أيام بالذّكرى الحادية عشرة لرحيل السيد (رض)، هذه الذّكرى التي تعيدنا إلى كلّ الآفاق الرّحبة التي عاشها في حياته على مستوى الفقه والفكر والسياسة، وفي عمله الدؤوب وخدمة الناس، والتي جعلته مهوى أفئدة العلماء والفقهاء والمفكّرين، ومن اغتنوا منه ونهلوا من معينه، ممن رأوه ملاذاً لهم بعد أن غادر الحياة، واستحقّ بذلك أن يعنون بأنّه سابق عصره.

إنّنا مع كلّ المحبين، سنحيي ذكراه في الخامسة من عصر يوم الاثنين في قاعة الزّهراء.. هنا في مسجد الحسنين (ع)، مراعين بذلك الضّوابط الصحيّة والتباعد المطلوب وعدم الاحتشاد.